الرئيسية
المنتديات
المشاركات الجديدة
بحث بالمنتديات
الغرف الصوتية
غرفة ٠٠٠٠
ما الجديد
المشاركات الجديدة
جديد مشاركات الحائط
آخر النشاطات
الأعضاء
الزوار الحاليين
مشاركات الحائط الجديدة
البحث عن مشاركات الملف الشخصي
تسجيل الدخول
تسجيل
ما الجديد
البحث
البحث
بحث بالعناوين فقط
بواسطة:
المشاركات الجديدة
بحث بالمنتديات
قائمة
تسجيل الدخول
تسجيل
تثبيت التطبيق
تثبيت
الرئيسية
المنتديات
قسم العلـــوم الشرعيـــه
ركـن العقيـــده الاســـلاميه
الموسوعة العقدية
تم تعطيل الجافا سكربت. للحصول على تجربة أفضل، الرجاء تمكين الجافا سكربت في المتصفح الخاص بك قبل المتابعة.
أنت تستخدم أحد المتصفحات القديمة. قد لا يتم عرض هذا الموقع أو المواقع الأخرى بشكل صحيح.
يجب عليك ترقية متصفحك أو استخدام
أحد المتصفحات البديلة
.
الرد على الموضوع
الرسالة
<blockquote data-quote="ابن عامر الشامي" data-source="post: 35420" data-attributes="member: 329"><p>وإن من خبر الناس وعرف حالهم علم أنهم ينظرون لمن يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر نظرة فاحصة تختلف عن نظرهم لغيره من سائر الناس.. فيرقبون حاله ومقاله وجميع تصرفاته.. كما يحصون عليه الكبير والقطمير.. بل وتضخم أخطاؤه في كثير من الأوقات.</p><p>وإذا عثروا على خطأ له فالويل له ولمن كان على شاكلته!!</p><p>فتقصيره –عندهم- لا يقف عليه وحده بل يتعداه إلى كل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر! ثم يصير ذلك التقصير الذي شاهدوه عصاً في أيديهم يقومون بإشهارها متى ما يحلو لهم ذلك!!</p><p>فالحاصل أن المحتسب يلزمه أن يكون في موضع الأسوة والقدوة الحسنة لا أن يدعو الناس باللسان ويصرفهم بالعمل والسلوك!</p><p>وما أحسن ما قيل: </p><p></p><p>لا تنه عن خلق وتأتي مثله </p><p>عار عليك إذا فعلت عظيم </p><p></p><p>وقول الآخر: </p><p></p><p>وغير تقي يأمر الناس بالتقى </p><p>طبيب يداوي الناس وهو سقيم </p><p></p><p>وقال ثالث: </p><p></p><p>فإنك إذا ما تأت ما أنت آمر </p><p>به تُلف من إياه تأمر آتياً </p><p></p><p>وقال منصور الفقيه: </p><p></p><p>إن قوماً يأمرونا </p><p>بالذي لا يفعلونا </p><p></p><p>لمجانين وإن هم </p><p>لم يكونوا يصرعونا </p><p></p><p>وقال أبو العتاهية: </p><p></p><p>وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى </p><p>وريح الخطايا من ثيابك تسطع </p><p> المطلب الثالث: المساواة بين القرابة وغيرهم </p><p>كما يجب على المرء أن يقوم نفسه ويزكيها.. فإن عليه أيضاً أن يعنى عناية كبرى بقرابته ومن هم تحت ولايته.. وقد أرشد الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم لذلك فقال: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214].</p><p>وهذا التوجه إنما هو نابع من إدراك المحتسب لحقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنه عملية إنقاذ وتخليص للأفراد والمجتمعات من الهلاك والعذاب الأخروي.</p><p>لكن حينما يخطئ المحتسب فهم هذه الحقيقة فإنه يجور في احتسابه ويحيد..!! فيهمل قرابته، ويدع الاحتساب عليهم، لوجود دافع من الدوافع في النفس لذلك كالشفقة العمياء أو العاطفة الهوجاء!!</p><p>مع أنه لو تبصر لأبصر أن عين الشفقة إنما تكون في الاحتساب عليهم لتخليصهم من العقوبة المتوعدة.</p><p>والحق أن هذا السلوك المعوج ينبئ عن كون نية المحتسب مشوبة..!! إذ الصدق مع الله تعالى ومع الناس يمنع من سلوك هذا المسلك الرديء المردى.</p><p>قال الخلال: (باب ما ينبغي للرجل أن يفعل ويعدل في أمره ونهيه في القريب والبعيد) أخبرنا أبو عبد الله المروزي قال: (قلت لأبي عبد الله: فإن كان للرجل قرابة فيرى عندهم المنكر فيكره أن يغيره أو يقول لهم فيخرج إلى ما يغتم به من أهل بيته وهو لا يرى بداً، أو يرى المنكر في غيره فيكره أن يغير للذي في قرابته. قال: إن صحت نيتك لم تبال) .</p><p>ومن آفات هذا المسلك اعتراض الناس على المحتسب بحال قرابته وأهل بيته كما يعترضون عليه بحاله إن كان غير ممتثل كما تقدم.. وكم يصرف مثل هذا المحتسب من القلوب عن قبول الحق والعمل به!.</p><p>قال النووي – رحمه الله-: (ولا يتاركه أيضاً لصداقته ومودته ومداهنته.. فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقاً، ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته وينقذه من مضارها، وصديق الإنسان ومحبه هو من سعى في عمارة آخرته وإن أدى إلى نقص في دنياه، وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته، وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه، وإنما كان إبليس عدواً لنا لهذا، وكانت الأنبياء –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- أولياء للمؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها) ا.هـ.</p><p>هذا وقد يعرض الرجل عن كثير من الاحتساب على قرابته وأهل بيته غفلة عن ذلك واشتغالاً بغيرهم.. وهذا هو الذائع الغالب!</p><p>فتجد للمحتسب أو الداعي مع الناس مجاهدات وصبراً ومتابعة.. وبذلاً للمال والوقت والجهد في سبيل إرشادهم إلى الحق والخير، وأهله وقرابته أحوج ما يكونون إلى التوجيه والتعليم والنصح!!</p><p>وهذه غفلة يقع فيها الكثير مع إخلاصهم ونصحهم.. </p><p> المطلب الرابع: البدء بالأهم وتقديمه على غيره </p><p>وأهمية التدرج في ذلك حسب ما تقتضيه المصلحة.</p><p>قال بعضهم: </p><p></p><p>إن اللبيب إذا بدا من جسمه </p><p>مرضان مختلفان داوى الأخطر </p><p></p><p>إن معرفة الأولويات ومنازل الأعمال وما يترتب عليها فعلاً أو تركاً أمر ضروري للمحتسب في أزمنة الفترات، وتفشي وظهور المنكرات، واضمحلال الديانة في قلوب الناس وواقعهم.. مثل هذا الزمان الذي نعيشه اليوم.</p><p>ولقد دل على ثبوت هذا المبدأ وشرعيته الكتاب والسنة، وعليه جرى عمل سلف الأمة.</p><p>وقد قص الله تعالى علينا قصص الأنبياء وأخبارهم مع أقوامهم فكان كل واحد منهم يخاطب قومه من حين بعثته إليهم بقوله: {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].</p><p>ومن المعلوم أنهم معصومون في أمور البلاغ والتشريع.. فطرائقهم وهديهم ومنهجهم كل ذلك معصوم ومحفوظ من وقوع الخلل في حال تبيينه للناس وتبليغه لهم عن طريق هؤلاء الرسل –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.</p><p>ومن المعروف أنهم لم يكونوا يبدؤون دعوتهم لأقوامهم بالحديث عن تحريم السكر أو الزنا أو نحو ذلك من الأمور.. وإنما كانوا يقررون لهم التوحيد أولاً ويجعلونه منطلقاً لدعوتهم.. ثم ينتقلون معه إلى معالجة كبرى المشكلات التي يعايشها ذلك المجتمع الذي يبعثون فيه.. وبعد ذلك ينتقلون إلى ما دونها وهكذا.</p><p>فهذا هو سبيلهم من أولهم إلى خاتمهم –صلى الله عليه وسلم- الذي أنزل عليه قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي...} [يوسف: 108] وأنزل عليه قول تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].</p><p>فقد كان هذا المنهج هو المنهج الذي سار عليه –صلوات الله وسلامه عليه- في دعوته.. روي البخاري بسنده عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: ((إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبداً. ولو نزل: لا تزنوا. لقالوا: لا ندع الزنا أبداً.</p><p>لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46] وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده.)) .</p><p>وأخرج ابن بطة بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]: إن الله بعث نبيه –صلى الله عليه وسلم- بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم فقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...} [المائدة: 3].</p><p>قال ابن عباس: وكان المشركون والمسلمون يحجون جميعاً فلما نزلت (براءة) نفي المشركون عن البيت وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، وكان ذلك في تمام النعمة، وكمال الدين فأنزل الله تعالى {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} [المائدة: 3] إلى قوله {الإِسْلاَمَ دِينًا} .</p><p>وبهذا التدرج كان يوصي صلى الله عليه وسلم رسله ويأمرهم إذا بعثهم للقيام بالدعوة.. كما أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس –رضي الله عنهما- أنه قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم)) الحديث.</p><p>هذا وقد تمثل هذا المنهج في دعوة الأئمة من بعده صلى الله عليه وسلم.. نقل ابن الجوزي وغيره أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه وهو في قائلته فأيقظه وقال: ما يؤمنك أن تؤتى في منامك، وقد رفعت إليك مظالم لم تقض حق الله فيها. قال: يا بني إن نفسي مطيتي، إن لم أرفق بها لم تبلغني؛ إني لو أتعبت نفسي وأعواني لم يك ذلك إلا قليلاً حتى أسقط ويسقطوا؛ وإني لأحتسب في نومتي من الأجر مثل الذي أحتسب في يقظتي. إن الله جل ثناؤه لو أراد أن ينزل القرآن جملة لأنزله، ولكنه أنزله الآية والآيتين، حتى استكن الإيمان في قلوبهم. ثم قال: يا بني أما مما أنا فيه أمر هو أهم إلى من أهل بيتك، هم أهل العدة والعدد، وقبلهم ما قبلهم، فلئن جمعت ذلك في يوم واحد خشيت انتشاره علي، ولكني انصف من الرجل والاثنين فيبلغ ذلك من وراءه فيكون أنجع له، فإن يرد الله تمام هذا الأمر أتمه .</p><p>فهذه حكمة بالغة لا يدركها حق إدراكها ويعمل بها كما يطلب إلا مجدد أو محتذ حذوه.</p><p>إن الفساد الذي ينخر في المجتمعات الإسلامية اليوم إنما هو حصيلة قرون متطاولة.. وقد عمل على تقريره وإذاعته وتعميق جذوره جبابرة ودهاقنة للفساد متتابعون! تباعدت أقطارهم واتحدت أهدافهم.. ومثل ذا لا يمكن أن يغير بيوم ولا سنة! وإنما يحتاج إلى مدة كافية تماماً يروض فيها الناس على التوحيد والإيمان والصدق بعد أن سفت السوافي على هذه الأمور العظام، وكادت أن تأفل من عالم الواقع..</p><p>إن حالاً كتلك لا يمكن أن تغير بجرة قلم كم يظن البعض.. فتجده يعمل جاهداً ومسخراً دعوته للوصول إلى ذلك القلم بأقرب طريق!</p><p>إن هذا المسلك مغاير لمنهج الرسل –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- في دعوتهم.</p><p>أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- أنه قال: (لقد عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد –صلى الله عليه وسلم- فنتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما تعلمون أنتم اليوم القرآن؛ ثم لقد رأيت اليوم رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه فينثره نثر الدقل) .</p><p>وأخرج ابن بطة بسنده أيضاً عن جندب –رضي الله عنه- قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غلماناً حزاورة فنتعلم الإيمان قبل أن نتعلم القرآن فازددنا إيماناً) .</p><p>فينبغي أن يبدأ بترسيخ الإيمان في النفوس أولاً.. وتعليم الناس توحيد الله عز وجل، وتصفية نفوسهم وواقعهم من الشرك ومظاهره.. ثم ينطلق الدعاة والمحتسبون إلى ما دونه من الأمور والتي تليه أهمية.. وهكذا.</p><p>وهذا لا يعني أن تقتصر الدعوة في أول أمرها على التوحيد فحسب، بل يكون هو المنطلق والأساس والقاعدة التي يبني عليها الأمر بالتخلي عن سائر الانحرافات الأخرى.</p><p>وهذا جلي فيما حكاه القرآن من دعوة الرسل، إذ كانوا يدعون إلى عبادة الله وحده مع كونهم ينكرون جرائم أخرى قد تفشت في أقوامهم كاللواط، ونقص المكيال والميزان، وقطع الطريق، وما إلى ذلك من الانحرافات المتنوعة.</p><p>وإنما آفة هذه الحكمة التعجل الذي غالباً ما يكون ناتجاً عن ضعف العلم والبصيرة، ولذا جاء في الحديث: ((التأني من الله والعجلة من الشيطان)) .</p><p>وكما في الحديث الآخر: ((التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة)) .</p><p>ثم إن هذا المنهج كما يطبق في تغيير واقع المجتمعات فهو كذلك يطبق في دعوة الأفراد على حد سواء.</p><p>ولشيخ الإسلام –رحمه الله- كلام نفيس جداً في هذا المقام حيث يقول: (.. فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما، لم يكن الآخر في هذه الحال واجباً، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجباً في الحقيقة، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة، وإن سمى ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر، وفعل المحرم للمصلحة الراجحة، أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم، وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء.</p><p>وهذا باب التعارض –باب واسع جداً لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة، وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة.</p><p>فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن إما لجهله وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر. فالعالم في البيان والبلاغ كذلك قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً إلى بيانها.</p><p>يبين حقيقة الحال هذه أن الله يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].</p><p>والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلاً. وهذه أوقات الفترات، فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئاً فشيئاً، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بالمستطاع.</p><p>كذلك المجدد لدينه، والمحيي لسنته، لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها؛ وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم، والمسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما عفى الرسول عما عفى عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع.</p><p>ومن هنا يتبين سقوط كثير من الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي، وإن كان واجباً في الأصل) ا.هـ.</p><p>فإذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين منكر كبير ومنكرات دونه أنكرنا أولاً المنكر الأكبر كأمور الاعتقاد، لأنها تقدم على ما دونها من الانحرافات.. لكن إن أمكن إنكار المنكر الأقل دون الأكبر لعذر صحيح يتعلق بالمحتسب، أو كانت المصلحة في ذلك عائدة على الحسبة نفسها أو المحتسب عليه.. فإنه ينكر الأدون في هذه الحالة؛ كالسلطان الذي يحكم القوانين ويلبس الذهب والحرير، أو يأكل الربا، أو يقامر، ولم يمكن للمحتسب أن ينكر عليه تحكيم القوانين خوفاً على نفسه أو خوفاً على دعوته فإنه إن أمكنه إنكار ما دون ذلك فعل؛ وكمن يسافر إلى بلد الكفار ويزني بالكافرات ويشرب الخمر هناك مع كونه قد حلق رأسه قزعاً.. فلم يمكن إنكار السفر وفعل الفاحشة عليه لمصلحة تتعلق بالمسلمين، كإظهاره الشراب بين أظهرهم، وزناه في ديارهم ونسائهم!! فينكر حينئذ الأدون إن أمكن، وهكذا.</p><p>وقد يقدم المحتسب إنكار المنكر الأقل لمصلحة تقتضي ذلك في بعض الأحيان، كمن رأيته يريد الزنا أو شرب الخمر وأنت تعلم أن الرجل لا يزكي ماله، أو يتصف بمنكر هو أعظم من الزنا والشرب للمسكر دون الشرك بالله.. ففي هذه الحال يقدم إنكار الزنا أو الشرب لإبعاده عنه قبل الوقوع فيه فالدفع أسهل من الرفع.</p><p>ثم إن الطاعة أو المعصية تتعاظم باعتبارات عدة:</p><p>الأول: باعتبار الفاعل. فإذا كان الذي يقدم على المعصية ممن يقتدى به فإن هذا أخطر من إقدام الأغمار عليها. ولهذا كانت زلة العالم زلة العالم.</p><p>الثاني: باعتبار الزمان. فليس الذي يشرب المسكر في نهار رمضان كالذي يشربه في غيره وهكذا.</p><p>الثالث: باعتبار المكان. إذ المعصية أو الطاعة في الحرم أعظم منها خارجه.</p><p>الرابع: باعتبار ما يترتب على العمل من الآثار . ولهذا كانت البدع أشد ضرراً وخطراً من المعاصي الأخرى الواردة من باب الشهوات. وكذلك المعصية المتعدية أعظم من القاصرة على الفاعل.</p><p>ومن المعلوم أن المنكرات أقسام: فمنها ما يكون ظلماً للناس، كالوقوع في أعراضهم، أو سفك دمائهم، أو نهب أموالهم.. ومنها ما يكون ظلماً للنفس، كالشرب للخمر أو المخدر وغيرهما من المعاصي التي لا يتعدى ضررها على غير فاعلها. والقسم الثالث وهو ما كان يجمع بين هذا وذاك كمن يغتصب النساء، ويزني بهن، أو يأكل الربا.. وهذا النوع الأخير هو شر تلك الأنواع وأخطرها، ويليه الأول، وأقلها الثاني.. وأنت إذا تأملت النوع الأول منها رأيت أن فيه ظلماً للنفس في حقيقة الأمر وباطنه؛ فإذا رأينا من يجمع بين بعض هذه الأنواع فينبغي أن نقدم الإنكار للأعظم.</p><p>هذا واعلم أن جنس فعل الواجبات أعظم وأعلى من جنس ترك المحرمات، فيكون الإنسان مستحقاً للذم والإثم حال كونه تاركاً واجباً من الواجبات أكثر من استحقاقه ذلك عندما يكون مرتكباً لشيء من المنهيات؛ ولهذا كانت عقوبة إبليس لما امتنع من الامتثال للأمر الطرد والإبعاد من رحمة الله.. بينما كانت عقوبة آدم –عليه السلام- لما كان ذنبه من قبل ارتكاب المحظورات الإخراج من الجنة وإهباطه إلى الأرض.</p><p>وبهذا تعلم أنه إذا اجتمع في شخص ترك واجب وفعل محرم قدم الإنكار على ترك الواجب أولاً.. هذا من حيث الجملة، وإن كان الحكم قد يختلف في بعض الصور والحالات، كما إذا كان ترك الواجب العين أقل جرماً وإثماً من ارتكاب المحرم المعين، كمن ترك الصلاة مع الجماعة وفي نفس الوقت هو مقدم على القتل أو ضرب أحد والديه.. فيقدم في هذه الحال إنكار ارتكاب المحرم لشناعته وعظمه.</p><p>ومما ينبغي معرفته أيضاً أن المنكرات الظاهرة تقدم في الإنكار على المنكرات المستترة، لأن العقوبة في الظاهر تعم.. ثم إنها تجرئ أصحاب المنكر وتغري غيرهم به.. بل تنقلهم إلى أعظم منه.. ثم إن هذا يكون سبباً لظهور المنكر المستتر!!</p><p>وهذا مشاهد في واقعنا.. فنحن نشاهد أن السفور يبدأ من ظهور العري في التلفاز والمجلات.. من ناحية.. ومن العبث بالحجاب، تارة برفع العباءة أو تقصيرها، أو ظهور ما يسمى بالنقاب الذي تخرج المرأة فيه عينيها ثم يتدرج الأمر حتى يصل إلى إظهار الوجه، ثم الساقين والذراعين وهكذا.. فحينما نسكت عن إنكار الانحراف الأول فإنه يزداد ويتعاظم وينتشر.. ومن أمثلة ذلك أن التدخين كان أمراً مستهجناً يعزر فاعله بالجلد أربعين سوطاً في بعض الجهات.. وقد يهجر.. ثم تدرج الأمر حتى سكت الكثير عنه.. فصار أمراً مألوفاً ثم وصل الأمر بالبعض إلى شرب الخمر.. ثم جاءت المخدرات فأنست الناس ذلك كله!! </p><p>المطلب الخامس: الصبر واحتمال الأذى </p><p>إن النصوص القرآنية والحديثية الواردة في موضوع الصبر لا يكاد يحصيها العاد كثرة.. وقد أخبرنا القرآن عن لقمان بأنه أوصى ابنه بقوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] فأتبع حثه له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصبر؛ وما ذلك إلا لأن القيام بهذه المهمة يتطلب الكثير من المجاهدة ولحوق الأذى بالمحتسب، وهذا لا يثبت معه إلا من كان متحلياً بالصبر.</p><p>فعلى المحتسب أن يصبر على ما أصابه، فإن الأذى هو الأصل في حقه! فليروض نفسه على تحمل ذلك في سبيل تبليغ الحق إلى قلوب الناس وإزالة المنكر من واقعهم.</p><p>فإذا لم يروض المحتسب نفسه على ذلك منذ البداية فإنه ينقطع في أول الطريق أو وسطه! (ولهذا نجد أن الله تعالى أمر رسله –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – به، بل أمر به خاتمهم – صلى الله عليه وسلم – في أول سورة أرسل فيها فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} – إلى قوله – {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1-7] فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالإنذار، واختتمها بالأمر بالصبر؛ ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فعلم أنه يجب بعده الصبر.) .</p><p>هذا ومن المقررات الأساسية، والمبادئ الأولية، أن أول ما يجب على المكلف العلم ثم العمل، ثم الدعوة إليه، ثم الصبر وتحمل الأذى في سبيل ذلك؛ ثم إن هذا القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يقوم بمهمة من مهام الأنبياء والرسل – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سعد بن أبي وقاص –رضي الله عنه قال: ((قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى العبد على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة)) .</p><p>فكم من الأذى لاقاه الأنبياء وأتباعهم فصبروا.. قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146] وقال أيضاً {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34].</p><p>وقال موجهاً لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127]</p><p>وكلما ازداد البلاء ازداد المؤمن يقيناً وثباتاً، بخلاف المنافق، لأن المؤمن قد هيأ نفسه للابتلاء.. منذ أول خطوة في الطريق.. ثم إنه موقن بحسن العاقبة مع الصبر.. ولذا لما اجتمع الأحزاب حول المدينة، ونجم نفاق المنافقين، وظهرت خيانة اليهود من الداخل بنقض العهد.. لما كان ذلك قال المؤمنين: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 22] قالوا هذه المقالة مع كون ظواهر الأمور في غير صالحهم، سواء من جهة كثرة العدو.. أو شدة العيش والبرد في ذلك الوقت الذي وقعت فيه تلك الواقعة. وإنما كانوا يعنون بذلك أن الله تبارك وتعالى قد وعدهم بالابتلاء وأخبرهم بوقوعه بقوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186] وبقوله أيضا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] وبقوله {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].</p><p>وغير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى.. فكانت النتيجة رسوخ إيمان المؤمنين وثبات نفوسهم.. ولذا عقب تلك الآية بقوله في وصف حالهم: {زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].</p><p>وهذا بخلاف حال المنافقين الذين قالوا لما رأوا ذلك: {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12] وقال بعضهم {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هي بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب: 13-14].</p><p>وهذه سنة جارية لا تتبدل ولا تتغير على مر الزمان.. قال مالك –رحمه الله- (ضرب محمد بن المنكدر وأصحاب له في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر) وأنكر الإمام عماد الدين الجماعيلي المقدسي –رحمه الله- على فساق وكسر ما معهم، فضربوه حتى غشي عليه .</p><p>وقد كان أهل العلم يوصون به غيرهم.. فكان من وصية عمير بن حبيب –رحمه الله- لبنيه: (إذا أراد أحدكم أن يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر فليوطن نفسه على الأذى، وليوقن بالثواب من الله، فإنه من يثق بالثواب من الله لا يجد مس الأذى) .</p><p>وسئل الإمام أحمد –رحمه الله-: (مثل زماننا ترجو أن لا يلزم الرجل القيام بالأمر والنهي؟ قال: إذا خاف أن ينال منه. قلت –السائل- فالصلاة تراهم لا يحسنون؟. قال: مثل هذا تأمرهم. قلت –السائل- يشتم. قال: يتحمل؛ من يريد أن يأمر وينهى لا يريد أن ينتصر بعد ذلك) .</p><p>قال الشيخ محمد بن إبراهيم –رحمه الله-: (ويكون مع أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصيرة وثبات على الحق، ويعلم أنه سيصيبه شيء، وإذا لم يعلم ذلك زاد البلاء فيما بعد، فإن المنكرات ما تفشت إلا بسبب أن أول شيء يوجد يتساهل به، فيكون الأول قد نسى وصار كعادة وصعب إزالته وتأتي الأمور الأخرى وهكذا..) .</p></blockquote><p></p>
[QUOTE="ابن عامر الشامي, post: 35420, member: 329"] وإن من خبر الناس وعرف حالهم علم أنهم ينظرون لمن يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر نظرة فاحصة تختلف عن نظرهم لغيره من سائر الناس.. فيرقبون حاله ومقاله وجميع تصرفاته.. كما يحصون عليه الكبير والقطمير.. بل وتضخم أخطاؤه في كثير من الأوقات. وإذا عثروا على خطأ له فالويل له ولمن كان على شاكلته!! فتقصيره –عندهم- لا يقف عليه وحده بل يتعداه إلى كل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر! ثم يصير ذلك التقصير الذي شاهدوه عصاً في أيديهم يقومون بإشهارها متى ما يحلو لهم ذلك!! فالحاصل أن المحتسب يلزمه أن يكون في موضع الأسوة والقدوة الحسنة لا أن يدعو الناس باللسان ويصرفهم بالعمل والسلوك! وما أحسن ما قيل: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم وقول الآخر: وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو سقيم وقال ثالث: فإنك إذا ما تأت ما أنت آمر به تُلف من إياه تأمر آتياً وقال منصور الفقيه: إن قوماً يأمرونا بالذي لا يفعلونا لمجانين وإن هم لم يكونوا يصرعونا وقال أبو العتاهية: وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى وريح الخطايا من ثيابك تسطع المطلب الثالث: المساواة بين القرابة وغيرهم كما يجب على المرء أن يقوم نفسه ويزكيها.. فإن عليه أيضاً أن يعنى عناية كبرى بقرابته ومن هم تحت ولايته.. وقد أرشد الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم لذلك فقال: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]. وهذا التوجه إنما هو نابع من إدراك المحتسب لحقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنه عملية إنقاذ وتخليص للأفراد والمجتمعات من الهلاك والعذاب الأخروي. لكن حينما يخطئ المحتسب فهم هذه الحقيقة فإنه يجور في احتسابه ويحيد..!! فيهمل قرابته، ويدع الاحتساب عليهم، لوجود دافع من الدوافع في النفس لذلك كالشفقة العمياء أو العاطفة الهوجاء!! مع أنه لو تبصر لأبصر أن عين الشفقة إنما تكون في الاحتساب عليهم لتخليصهم من العقوبة المتوعدة. والحق أن هذا السلوك المعوج ينبئ عن كون نية المحتسب مشوبة..!! إذ الصدق مع الله تعالى ومع الناس يمنع من سلوك هذا المسلك الرديء المردى. قال الخلال: (باب ما ينبغي للرجل أن يفعل ويعدل في أمره ونهيه في القريب والبعيد) أخبرنا أبو عبد الله المروزي قال: (قلت لأبي عبد الله: فإن كان للرجل قرابة فيرى عندهم المنكر فيكره أن يغيره أو يقول لهم فيخرج إلى ما يغتم به من أهل بيته وهو لا يرى بداً، أو يرى المنكر في غيره فيكره أن يغير للذي في قرابته. قال: إن صحت نيتك لم تبال) . ومن آفات هذا المسلك اعتراض الناس على المحتسب بحال قرابته وأهل بيته كما يعترضون عليه بحاله إن كان غير ممتثل كما تقدم.. وكم يصرف مثل هذا المحتسب من القلوب عن قبول الحق والعمل به!. قال النووي – رحمه الله-: (ولا يتاركه أيضاً لصداقته ومودته ومداهنته.. فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقاً، ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته وينقذه من مضارها، وصديق الإنسان ومحبه هو من سعى في عمارة آخرته وإن أدى إلى نقص في دنياه، وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته، وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه، وإنما كان إبليس عدواً لنا لهذا، وكانت الأنبياء –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- أولياء للمؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها) ا.هـ. هذا وقد يعرض الرجل عن كثير من الاحتساب على قرابته وأهل بيته غفلة عن ذلك واشتغالاً بغيرهم.. وهذا هو الذائع الغالب! فتجد للمحتسب أو الداعي مع الناس مجاهدات وصبراً ومتابعة.. وبذلاً للمال والوقت والجهد في سبيل إرشادهم إلى الحق والخير، وأهله وقرابته أحوج ما يكونون إلى التوجيه والتعليم والنصح!! وهذه غفلة يقع فيها الكثير مع إخلاصهم ونصحهم.. المطلب الرابع: البدء بالأهم وتقديمه على غيره وأهمية التدرج في ذلك حسب ما تقتضيه المصلحة. قال بعضهم: إن اللبيب إذا بدا من جسمه مرضان مختلفان داوى الأخطر إن معرفة الأولويات ومنازل الأعمال وما يترتب عليها فعلاً أو تركاً أمر ضروري للمحتسب في أزمنة الفترات، وتفشي وظهور المنكرات، واضمحلال الديانة في قلوب الناس وواقعهم.. مثل هذا الزمان الذي نعيشه اليوم. ولقد دل على ثبوت هذا المبدأ وشرعيته الكتاب والسنة، وعليه جرى عمل سلف الأمة. وقد قص الله تعالى علينا قصص الأنبياء وأخبارهم مع أقوامهم فكان كل واحد منهم يخاطب قومه من حين بعثته إليهم بقوله: {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]. ومن المعلوم أنهم معصومون في أمور البلاغ والتشريع.. فطرائقهم وهديهم ومنهجهم كل ذلك معصوم ومحفوظ من وقوع الخلل في حال تبيينه للناس وتبليغه لهم عن طريق هؤلاء الرسل –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-. ومن المعروف أنهم لم يكونوا يبدؤون دعوتهم لأقوامهم بالحديث عن تحريم السكر أو الزنا أو نحو ذلك من الأمور.. وإنما كانوا يقررون لهم التوحيد أولاً ويجعلونه منطلقاً لدعوتهم.. ثم ينتقلون معه إلى معالجة كبرى المشكلات التي يعايشها ذلك المجتمع الذي يبعثون فيه.. وبعد ذلك ينتقلون إلى ما دونها وهكذا. فهذا هو سبيلهم من أولهم إلى خاتمهم –صلى الله عليه وسلم- الذي أنزل عليه قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي...} [يوسف: 108] وأنزل عليه قول تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. فقد كان هذا المنهج هو المنهج الذي سار عليه –صلوات الله وسلامه عليه- في دعوته.. روي البخاري بسنده عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: ((إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبداً. ولو نزل: لا تزنوا. لقالوا: لا ندع الزنا أبداً. لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46] وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده.)) . وأخرج ابن بطة بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]: إن الله بعث نبيه –صلى الله عليه وسلم- بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم فقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...} [المائدة: 3]. قال ابن عباس: وكان المشركون والمسلمون يحجون جميعاً فلما نزلت (براءة) نفي المشركون عن البيت وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، وكان ذلك في تمام النعمة، وكمال الدين فأنزل الله تعالى {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} [المائدة: 3] إلى قوله {الإِسْلاَمَ دِينًا} . وبهذا التدرج كان يوصي صلى الله عليه وسلم رسله ويأمرهم إذا بعثهم للقيام بالدعوة.. كما أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس –رضي الله عنهما- أنه قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم)) الحديث. هذا وقد تمثل هذا المنهج في دعوة الأئمة من بعده صلى الله عليه وسلم.. نقل ابن الجوزي وغيره أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه وهو في قائلته فأيقظه وقال: ما يؤمنك أن تؤتى في منامك، وقد رفعت إليك مظالم لم تقض حق الله فيها. قال: يا بني إن نفسي مطيتي، إن لم أرفق بها لم تبلغني؛ إني لو أتعبت نفسي وأعواني لم يك ذلك إلا قليلاً حتى أسقط ويسقطوا؛ وإني لأحتسب في نومتي من الأجر مثل الذي أحتسب في يقظتي. إن الله جل ثناؤه لو أراد أن ينزل القرآن جملة لأنزله، ولكنه أنزله الآية والآيتين، حتى استكن الإيمان في قلوبهم. ثم قال: يا بني أما مما أنا فيه أمر هو أهم إلى من أهل بيتك، هم أهل العدة والعدد، وقبلهم ما قبلهم، فلئن جمعت ذلك في يوم واحد خشيت انتشاره علي، ولكني انصف من الرجل والاثنين فيبلغ ذلك من وراءه فيكون أنجع له، فإن يرد الله تمام هذا الأمر أتمه . فهذه حكمة بالغة لا يدركها حق إدراكها ويعمل بها كما يطلب إلا مجدد أو محتذ حذوه. إن الفساد الذي ينخر في المجتمعات الإسلامية اليوم إنما هو حصيلة قرون متطاولة.. وقد عمل على تقريره وإذاعته وتعميق جذوره جبابرة ودهاقنة للفساد متتابعون! تباعدت أقطارهم واتحدت أهدافهم.. ومثل ذا لا يمكن أن يغير بيوم ولا سنة! وإنما يحتاج إلى مدة كافية تماماً يروض فيها الناس على التوحيد والإيمان والصدق بعد أن سفت السوافي على هذه الأمور العظام، وكادت أن تأفل من عالم الواقع.. إن حالاً كتلك لا يمكن أن تغير بجرة قلم كم يظن البعض.. فتجده يعمل جاهداً ومسخراً دعوته للوصول إلى ذلك القلم بأقرب طريق! إن هذا المسلك مغاير لمنهج الرسل –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- في دعوتهم. أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- أنه قال: (لقد عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد –صلى الله عليه وسلم- فنتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما تعلمون أنتم اليوم القرآن؛ ثم لقد رأيت اليوم رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه فينثره نثر الدقل) . وأخرج ابن بطة بسنده أيضاً عن جندب –رضي الله عنه- قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غلماناً حزاورة فنتعلم الإيمان قبل أن نتعلم القرآن فازددنا إيماناً) . فينبغي أن يبدأ بترسيخ الإيمان في النفوس أولاً.. وتعليم الناس توحيد الله عز وجل، وتصفية نفوسهم وواقعهم من الشرك ومظاهره.. ثم ينطلق الدعاة والمحتسبون إلى ما دونه من الأمور والتي تليه أهمية.. وهكذا. وهذا لا يعني أن تقتصر الدعوة في أول أمرها على التوحيد فحسب، بل يكون هو المنطلق والأساس والقاعدة التي يبني عليها الأمر بالتخلي عن سائر الانحرافات الأخرى. وهذا جلي فيما حكاه القرآن من دعوة الرسل، إذ كانوا يدعون إلى عبادة الله وحده مع كونهم ينكرون جرائم أخرى قد تفشت في أقوامهم كاللواط، ونقص المكيال والميزان، وقطع الطريق، وما إلى ذلك من الانحرافات المتنوعة. وإنما آفة هذه الحكمة التعجل الذي غالباً ما يكون ناتجاً عن ضعف العلم والبصيرة، ولذا جاء في الحديث: ((التأني من الله والعجلة من الشيطان)) . وكما في الحديث الآخر: ((التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة)) . ثم إن هذا المنهج كما يطبق في تغيير واقع المجتمعات فهو كذلك يطبق في دعوة الأفراد على حد سواء. ولشيخ الإسلام –رحمه الله- كلام نفيس جداً في هذا المقام حيث يقول: (.. فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما، لم يكن الآخر في هذه الحال واجباً، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجباً في الحقيقة، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة، وإن سمى ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر، وفعل المحرم للمصلحة الراجحة، أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم، وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء. وهذا باب التعارض –باب واسع جداً لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة، وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة. فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن إما لجهله وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر. فالعالم في البيان والبلاغ كذلك قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً إلى بيانها. يبين حقيقة الحال هذه أن الله يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]. والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلاً. وهذه أوقات الفترات، فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئاً فشيئاً، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بالمستطاع. كذلك المجدد لدينه، والمحيي لسنته، لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها؛ وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم، والمسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما عفى الرسول عما عفى عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع. ومن هنا يتبين سقوط كثير من الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي، وإن كان واجباً في الأصل) ا.هـ. فإذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين منكر كبير ومنكرات دونه أنكرنا أولاً المنكر الأكبر كأمور الاعتقاد، لأنها تقدم على ما دونها من الانحرافات.. لكن إن أمكن إنكار المنكر الأقل دون الأكبر لعذر صحيح يتعلق بالمحتسب، أو كانت المصلحة في ذلك عائدة على الحسبة نفسها أو المحتسب عليه.. فإنه ينكر الأدون في هذه الحالة؛ كالسلطان الذي يحكم القوانين ويلبس الذهب والحرير، أو يأكل الربا، أو يقامر، ولم يمكن للمحتسب أن ينكر عليه تحكيم القوانين خوفاً على نفسه أو خوفاً على دعوته فإنه إن أمكنه إنكار ما دون ذلك فعل؛ وكمن يسافر إلى بلد الكفار ويزني بالكافرات ويشرب الخمر هناك مع كونه قد حلق رأسه قزعاً.. فلم يمكن إنكار السفر وفعل الفاحشة عليه لمصلحة تتعلق بالمسلمين، كإظهاره الشراب بين أظهرهم، وزناه في ديارهم ونسائهم!! فينكر حينئذ الأدون إن أمكن، وهكذا. وقد يقدم المحتسب إنكار المنكر الأقل لمصلحة تقتضي ذلك في بعض الأحيان، كمن رأيته يريد الزنا أو شرب الخمر وأنت تعلم أن الرجل لا يزكي ماله، أو يتصف بمنكر هو أعظم من الزنا والشرب للمسكر دون الشرك بالله.. ففي هذه الحال يقدم إنكار الزنا أو الشرب لإبعاده عنه قبل الوقوع فيه فالدفع أسهل من الرفع. ثم إن الطاعة أو المعصية تتعاظم باعتبارات عدة: الأول: باعتبار الفاعل. فإذا كان الذي يقدم على المعصية ممن يقتدى به فإن هذا أخطر من إقدام الأغمار عليها. ولهذا كانت زلة العالم زلة العالم. الثاني: باعتبار الزمان. فليس الذي يشرب المسكر في نهار رمضان كالذي يشربه في غيره وهكذا. الثالث: باعتبار المكان. إذ المعصية أو الطاعة في الحرم أعظم منها خارجه. الرابع: باعتبار ما يترتب على العمل من الآثار . ولهذا كانت البدع أشد ضرراً وخطراً من المعاصي الأخرى الواردة من باب الشهوات. وكذلك المعصية المتعدية أعظم من القاصرة على الفاعل. ومن المعلوم أن المنكرات أقسام: فمنها ما يكون ظلماً للناس، كالوقوع في أعراضهم، أو سفك دمائهم، أو نهب أموالهم.. ومنها ما يكون ظلماً للنفس، كالشرب للخمر أو المخدر وغيرهما من المعاصي التي لا يتعدى ضررها على غير فاعلها. والقسم الثالث وهو ما كان يجمع بين هذا وذاك كمن يغتصب النساء، ويزني بهن، أو يأكل الربا.. وهذا النوع الأخير هو شر تلك الأنواع وأخطرها، ويليه الأول، وأقلها الثاني.. وأنت إذا تأملت النوع الأول منها رأيت أن فيه ظلماً للنفس في حقيقة الأمر وباطنه؛ فإذا رأينا من يجمع بين بعض هذه الأنواع فينبغي أن نقدم الإنكار للأعظم. هذا واعلم أن جنس فعل الواجبات أعظم وأعلى من جنس ترك المحرمات، فيكون الإنسان مستحقاً للذم والإثم حال كونه تاركاً واجباً من الواجبات أكثر من استحقاقه ذلك عندما يكون مرتكباً لشيء من المنهيات؛ ولهذا كانت عقوبة إبليس لما امتنع من الامتثال للأمر الطرد والإبعاد من رحمة الله.. بينما كانت عقوبة آدم –عليه السلام- لما كان ذنبه من قبل ارتكاب المحظورات الإخراج من الجنة وإهباطه إلى الأرض. وبهذا تعلم أنه إذا اجتمع في شخص ترك واجب وفعل محرم قدم الإنكار على ترك الواجب أولاً.. هذا من حيث الجملة، وإن كان الحكم قد يختلف في بعض الصور والحالات، كما إذا كان ترك الواجب العين أقل جرماً وإثماً من ارتكاب المحرم المعين، كمن ترك الصلاة مع الجماعة وفي نفس الوقت هو مقدم على القتل أو ضرب أحد والديه.. فيقدم في هذه الحال إنكار ارتكاب المحرم لشناعته وعظمه. ومما ينبغي معرفته أيضاً أن المنكرات الظاهرة تقدم في الإنكار على المنكرات المستترة، لأن العقوبة في الظاهر تعم.. ثم إنها تجرئ أصحاب المنكر وتغري غيرهم به.. بل تنقلهم إلى أعظم منه.. ثم إن هذا يكون سبباً لظهور المنكر المستتر!! وهذا مشاهد في واقعنا.. فنحن نشاهد أن السفور يبدأ من ظهور العري في التلفاز والمجلات.. من ناحية.. ومن العبث بالحجاب، تارة برفع العباءة أو تقصيرها، أو ظهور ما يسمى بالنقاب الذي تخرج المرأة فيه عينيها ثم يتدرج الأمر حتى يصل إلى إظهار الوجه، ثم الساقين والذراعين وهكذا.. فحينما نسكت عن إنكار الانحراف الأول فإنه يزداد ويتعاظم وينتشر.. ومن أمثلة ذلك أن التدخين كان أمراً مستهجناً يعزر فاعله بالجلد أربعين سوطاً في بعض الجهات.. وقد يهجر.. ثم تدرج الأمر حتى سكت الكثير عنه.. فصار أمراً مألوفاً ثم وصل الأمر بالبعض إلى شرب الخمر.. ثم جاءت المخدرات فأنست الناس ذلك كله!! المطلب الخامس: الصبر واحتمال الأذى إن النصوص القرآنية والحديثية الواردة في موضوع الصبر لا يكاد يحصيها العاد كثرة.. وقد أخبرنا القرآن عن لقمان بأنه أوصى ابنه بقوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] فأتبع حثه له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصبر؛ وما ذلك إلا لأن القيام بهذه المهمة يتطلب الكثير من المجاهدة ولحوق الأذى بالمحتسب، وهذا لا يثبت معه إلا من كان متحلياً بالصبر. فعلى المحتسب أن يصبر على ما أصابه، فإن الأذى هو الأصل في حقه! فليروض نفسه على تحمل ذلك في سبيل تبليغ الحق إلى قلوب الناس وإزالة المنكر من واقعهم. فإذا لم يروض المحتسب نفسه على ذلك منذ البداية فإنه ينقطع في أول الطريق أو وسطه! (ولهذا نجد أن الله تعالى أمر رسله –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – به، بل أمر به خاتمهم – صلى الله عليه وسلم – في أول سورة أرسل فيها فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} – إلى قوله – {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1-7] فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالإنذار، واختتمها بالأمر بالصبر؛ ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فعلم أنه يجب بعده الصبر.) . هذا ومن المقررات الأساسية، والمبادئ الأولية، أن أول ما يجب على المكلف العلم ثم العمل، ثم الدعوة إليه، ثم الصبر وتحمل الأذى في سبيل ذلك؛ ثم إن هذا القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يقوم بمهمة من مهام الأنبياء والرسل – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سعد بن أبي وقاص –رضي الله عنه قال: ((قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى العبد على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة)) . فكم من الأذى لاقاه الأنبياء وأتباعهم فصبروا.. قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146] وقال أيضاً {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34]. وقال موجهاً لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127] وكلما ازداد البلاء ازداد المؤمن يقيناً وثباتاً، بخلاف المنافق، لأن المؤمن قد هيأ نفسه للابتلاء.. منذ أول خطوة في الطريق.. ثم إنه موقن بحسن العاقبة مع الصبر.. ولذا لما اجتمع الأحزاب حول المدينة، ونجم نفاق المنافقين، وظهرت خيانة اليهود من الداخل بنقض العهد.. لما كان ذلك قال المؤمنين: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 22] قالوا هذه المقالة مع كون ظواهر الأمور في غير صالحهم، سواء من جهة كثرة العدو.. أو شدة العيش والبرد في ذلك الوقت الذي وقعت فيه تلك الواقعة. وإنما كانوا يعنون بذلك أن الله تبارك وتعالى قد وعدهم بالابتلاء وأخبرهم بوقوعه بقوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186] وبقوله أيضا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] وبقوله {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]. وغير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى.. فكانت النتيجة رسوخ إيمان المؤمنين وثبات نفوسهم.. ولذا عقب تلك الآية بقوله في وصف حالهم: {زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]. وهذا بخلاف حال المنافقين الذين قالوا لما رأوا ذلك: {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12] وقال بعضهم {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هي بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب: 13-14]. وهذه سنة جارية لا تتبدل ولا تتغير على مر الزمان.. قال مالك –رحمه الله- (ضرب محمد بن المنكدر وأصحاب له في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر) وأنكر الإمام عماد الدين الجماعيلي المقدسي –رحمه الله- على فساق وكسر ما معهم، فضربوه حتى غشي عليه . وقد كان أهل العلم يوصون به غيرهم.. فكان من وصية عمير بن حبيب –رحمه الله- لبنيه: (إذا أراد أحدكم أن يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر فليوطن نفسه على الأذى، وليوقن بالثواب من الله، فإنه من يثق بالثواب من الله لا يجد مس الأذى) . وسئل الإمام أحمد –رحمه الله-: (مثل زماننا ترجو أن لا يلزم الرجل القيام بالأمر والنهي؟ قال: إذا خاف أن ينال منه. قلت –السائل- فالصلاة تراهم لا يحسنون؟. قال: مثل هذا تأمرهم. قلت –السائل- يشتم. قال: يتحمل؛ من يريد أن يأمر وينهى لا يريد أن ينتصر بعد ذلك) . قال الشيخ محمد بن إبراهيم –رحمه الله-: (ويكون مع أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصيرة وثبات على الحق، ويعلم أنه سيصيبه شيء، وإذا لم يعلم ذلك زاد البلاء فيما بعد، فإن المنكرات ما تفشت إلا بسبب أن أول شيء يوجد يتساهل به، فيكون الأول قد نسى وصار كعادة وصعب إزالته وتأتي الأمور الأخرى وهكذا..) . [/QUOTE]
الإسم
التحقق
اكتب معهد الماهر
رد
الرئيسية
المنتديات
قسم العلـــوم الشرعيـــه
ركـن العقيـــده الاســـلاميه
الموسوعة العقدية