الرئيسية
المنتديات
المشاركات الجديدة
بحث بالمنتديات
الغرف الصوتية
غرفة ٠٠٠٠
ما الجديد
المشاركات الجديدة
جديد مشاركات الحائط
آخر النشاطات
الأعضاء
الزوار الحاليين
مشاركات الحائط الجديدة
البحث عن مشاركات الملف الشخصي
تسجيل الدخول
تسجيل
ما الجديد
البحث
البحث
بحث بالعناوين فقط
بواسطة:
المشاركات الجديدة
بحث بالمنتديات
قائمة
تسجيل الدخول
تسجيل
تثبيت التطبيق
تثبيت
الرئيسية
المنتديات
قسم العلـــوم الشرعيـــه
ركـن العقيـــده الاســـلاميه
الموسوعة العقدية
تم تعطيل الجافا سكربت. للحصول على تجربة أفضل، الرجاء تمكين الجافا سكربت في المتصفح الخاص بك قبل المتابعة.
أنت تستخدم أحد المتصفحات القديمة. قد لا يتم عرض هذا الموقع أو المواقع الأخرى بشكل صحيح.
يجب عليك ترقية متصفحك أو استخدام
أحد المتصفحات البديلة
.
الرد على الموضوع
الرسالة
<blockquote data-quote="ابن عامر الشامي" data-source="post: 35435" data-attributes="member: 329"><p>والملاحدة والمتفلسفة يجعلون الملائكة قوى النفس الصالحة، والشياطين قوى النفس الخبيثة ...</p><p>وقد أنكرت جماهير القدرية وكافة الزنادقة الجن كما ذكر الجويني إمام الحرمين حيث يقول: (وكثير من الفلاسفة, وجماهير القدرية, وكافة الزنادقة أنكروا الجن والشياطين رأساً، ولا يبعد لو أنكر ذلك من لا يتدبر ولا يتشبث بالشريعة، وإنما العجب من إنكار القدرية مع نصوص القرآن وتواتر الأخبار واستفاضة الآثار) .</p><p>والذي يظهر أن المتأخرين من القدرية هم الذين ينكرون وجود الجن مع اعتراف متقدميهم بذلك، قال أبو بكر الباقلاني: (وكثير من القدرية يثبتون وجود الجن قديماً وينفون وجودهم الآن، ومنه من يزعم أنهم لا يرون لرقة أجسامهم ونفوذ الشعاع فيها، ومنهم من قال: إنما لا يرون لأنهم لا ألوان لهم) .</p><p>وأما المعتزلة فالمشهور عن أكثر العلماء أن الكثيرين منهم ينكرون وجود الجن، يقول الجويني: (وقد أنكرهم معظم المعتزلة، ودل إنكارهم إياهم على قلة مبالاتهم, وركاكة ديانتهم، فليس في إثباتهم مستحيل عقلي، وقد نصت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم، وحق على اللبيب المعتصم بحبل الدين أن يثبت ما قضى العقل بجوازه, ونص الشرع على ثبوته) .</p><p>وقال ابن حجر الهيتمي: (وإنكار المعتزلة لوجودهم فيه مخالفة للكتاب والسنة والإجماع، بل ألزموا به كفراً لأن فيه تكذيب النصوص القطعية بوجودهم) .</p><p>وقال الدميري: (فإذا قيل: ما تقول فيما حكى عن بعض المعتزلة أنه ينكر وجود الجن؟ قلنا: عجيب أن يثبت ذلك عمن يصدق بالقرآن وهو ناطق بوجودهم) .</p><p>... وقد ذكر محمد رشيد رضا أن الزمخشري وشيعته لم يكونوا من المنكرين لوجود الجن، وإنما الجن – كما يقولون – من عالم الغيب، لا نصدق من خبرهم إلا ما أثبته الشرع، أو ما هو في قوته من دليل الحس أو العقل، ولم يثبت شرعاً, ولا عقلاً, ولا اختباراً, أن شياطين الجن تأكل الناس, ولا أنها تظهر لهم في الفيافي كما كانت تزعم العرب، وغير ذلك في طور الجهل والخرافات ...</p><p>أما الزنادقة قديماً وحديثاً كالدهرية والملحدين من الشيوعيين وغيرهم فإنهم ينكرون الغيبيات بشكل عام، ويعتبرون أن الكون وجد هكذا صدفة، وعلى هذا فهم يحاربون الأديان ويعتبرونها أفيون الشعوب، وذلك كما تفعل الشيوعية في الوقت الحاضر. </p><p>وليس لهؤلاء حجة في إنكار الغيبيات – والجن من بينهم – إلا عدم الإيمان بما لا يقع عليه الحس، ولا يعرف بالتجربة والمشاهدة، وهي حجة ساقطة من أساسها، لا تقوى على الوقوف أمام الأدلة الكثيرة الناطقة بوجودهم ...</p><p>شبه المنكرين لوجود الجن والرد عليها: </p><p>وجملة الشبه التي يتمسك بها المنكرون للجن تتلخص فيما يلي: </p><p>1- أن الجن لو كانوا موجودين لوجب أن يكونوا أجساماً كثيفة أو لطيفة، ولو كانوا أجساماً كثيفة لرآهم كل إنسان سليم الحس، ولو كانوا أجساماً لطيفة لتمزقوا عند هبوب الرياح والعواصف، وللزم أن لا يكون لهم قدرة على الأعمال الشاقة كما يقول مثبتو الجن على حد قولهم .</p><p>والجواب على هذه الشبهة: أن الجن مجردون عن المادة والجسمية التي نشاهدها في الأمور المحسوسة أمامنا كالبشر, والدواب, والأشجار وغير ذلك، ولكن هذا لا يمنع أن يجعل الله فيهم خاصية القدرة على التشكل بالأشكال المختلفة: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [ يــس: 82]، وقد وردت الأحاديث الصحيحة في تشكلهم بمختلف الصور، فمعارضة هذه النصوص بالظن إنما هو تحكم بالباطل. </p><p>أما قولهم: إنهم لو كانوا أجساماً لطيفة لتمزقوا عند هبوب الرياح والعواصف فجوابه: لقد ثبت عند الفلاسفة أن النار التي تنفصل عن الصواعق تنفذ في اللحظة اللطيفة في بواطن الأحجار والحديد وتخرج من الجانب الآخر، فلم لا يعقل مثله في هذه الصورة؟ !، وعلى هذا التقدير فإن الجن تكون قادرة على النفوذ في بواطن الناس وعلى التصرف فيها، وأنها تبقى حية فعالة مصونة عن الفساد إلى الأجل المعين والوقت المعلوم، فكل هذه الأحوال احتمالات ظاهرة، والدليل لم يقم على إبطالها, فلم يجز المصير إلى القول بإبطالها وقد ثبت تسخيرهم للنبي سليمان عليه السلام بصريح القرآن، وقد كان يراهم على صورهم الأصلية كما دل عليه ظاهر القرآن.</p><p>2- أن هذه الأشخاص المسماة بالجن لو كانوا حاضرين في هذا العالم، مخالطين للبشر، فالظاهر الغالب أن يحصل لهم بسبب طول المخالطة والمصاحبة إما صداقة, وإما عداوة، فإن حصلت الصداقة وجب ظهور المنافع بسبب تلك الصداقة، وإن حصلت العداوة وجب ظهور المضاد بسبب تلك العداوة، إلا أننا لا نرى أثراً لا من تلك الصداقة ولا من تلك العداوة .</p><p>والجواب على هذه الشبهة: أنه لا يشترط أن يحصل للإنسان من مصاحبة أحد صداقة أو عداوة يترتب عليهما المنافع والمضار، ومع ذلك فإن الوقائع الصحيحة التي وردت في السنة تدل على أن بعض الجن قد حصل منهم إيذاء لبعض من يكرهونه من الأنس، وقد ثبت علاج الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض من صرعتهم الجن، وقد ثبت كذلك نفع الجن لبعض الإنس كما حصل مع أبي هريرة عندما جاءه الشيطان فجعل يحثو من الطعام وقد تكرر مجيئه ثلاث مرات، وكان يزعم أنه لا يعود، حتى همَّ أبو هريرة أن يرفع أمره للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال الشيطان عند ذلك: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، فعلمه آية الكرسي وقال له: اقرأها فإنه لا يقربك شيطان , وغير ذلك مما قد ثبت في نفع الجن لبعض الناس وإضرارهم لبعض منهم.</p><p>3- إن الطريق إلى معرفة الجن إما الحس وإما المشاهدة وإما الدليل، ولم يثبت لنا بالحس وجودهم ورؤيتهم، والذين يقولون إنا أبصرناهم وسمعنا أصواتهم طائفة من المجانين يتخيلون ذلك، وليست في الحقيقة كذلك، وأما الخبر بواسطة الأنبياء عليهم السلام فباطل، لأن ذلك يؤدي إلى إبطال نبوتهم، ولجاز أن يقال إن كل ما أتى به الأنبياء من المعجزات إنما هو بإعانة الجن والشياطين، فإذا جوزنا نفوذ الجن في بواطن الإنسان فلم لا يجوز أن يقال: إن حنين الجذع إنما كان لأن الشيطان نفذ في ذلك الجذع ثم أظهر الحنين؟ ولم لا يجوز أن يقال: إن الناقة تكلمت مع الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الشيطان دخل في باطنها فتكلمت؟ وأما الدليل والنظر فهو متعذر، لأنا لا نعرف دليلاً عقلياً يدل على وجود الجن والشياطين .</p><p>والجواب على هذه الشبهة: أن الدليل الحسي قد دل على وجود الجن، حيث رآهم الرسول عليه الصلاة والسلام وهو نبي معصوم من الخطأ والكذب، ورآهم ابن مسعود عندما ذهب معه ليلة تكليم الجن، ورآهم أبو هريرة عندما جاءه الشيطان في صورة رجل فقير، فأخذ يحثو من مال الصدقة، وقد حدث مثل ذلك لنفر من الصحابة، وغير ذلك من الوقائع التي تدل على رؤية الجن من قبل هؤلاء، وهم صحابة أجلاء وليسوا من المجانين كما يزعم المنكرون لوجود الجن، بل هم من العقلاء الموثوق بهم. </p><p>وأما الخبر فقد جاءت نصوص القرآن مخبرة عن أحوال الجن في مواضع متعددة من القرآن، وليس هناك من سبيل للطعن بكتاب الله – المنقول بالتواتر – بأي حال من الأحوال، ودل على وجودهم السنة المتواترة التي تقطع الشك وترفع العذر في إنكار وجودهم أو تأويلهم. </p><p>والقول أن في الاعتراف بهم إبطالاً لنبوة الأنبياء غير صحيح، لأنه قد ثبت لنا وجودهم عن طريق هؤلاء الأنبياء كذلك، فالشك في وجودهم يوجب الطعن في نبوتهم أيضاً. </p><p>وأما أن الإقرار بوجودهم يوجب إنكار معجزات الأنبياء فغير مسلم، لأن المعجزة إنما هي تأييد من الله لأنبيائه حتى يظهر للناس صدق نبوتهم، والرسل معصومون من تلبيس الجن والشياطين، فلا يمكن أن يكون حنين الجذع وتكليم الناقة للرسول عليه السلام من قبيل هذه التلبيسات. </p><p>أما الذين ينكرون وجود الجن بحجة عدم رؤيتهم، أمثال الزنادقة والماديين، فهؤلاء ينكرون كل ما لا يقع عليه الحس، ... وأنه لم يدل دليل عقلي على نفي وجودهم، ولا يمنع العقل من وجودهم، في الوقت الذي دل فيه العقل على وجود أشياء كثيرة غائبة من الحس، وهو أمر لا تحيله الطباع ولا تنكره العقول، ثم إن العقل لم يدع أنه توصل إلى معرفة جميع الأشياء، وأن ما وصل إليه علم الإنسان غيض من فيض. </p><p>فثبت بهذا بطلان شبهات منكري الجن. </p><p>موقف المنكرين لوجود الجن من النصوص الدالة على إثبات وجودهم: </p><p>وفي الوقت الذي يقرر الإسلام وجود الجن وأنهم مخلوقات عاقلة مكلفة خلقوا من النار، يأتي المنكرون للجن من الملاحدة والفلاسفة وغيرهم فيؤولون النصوص الدالة على وجود الجن والملائكة تأويلاً يبعد عن مقصد القرآن والسنة، وهو تأويل لا يعتمد على دليل يؤيده بل هو من تحريف الكلم عن مواضعه، تضليلاً للناس وصدا لهم عن سبيل الله، وهي تأويلات معلومة الفساد بالضرورة من دين الإسلام، وقد أدى تأويل هذا النفر من الناس إلى إنكار الجن بالكلية، وبهذا يتفقون مع المنكرين في الغاية والهدف. </p><p>وقد تجلت هذه النظرة عند القدامى والمحدثين: </p><p>أما عند القدامى فيقول ابن تيمية: (وقد زعم الملاحدة والمتفلسفة بأن الملائكة هم قوى النفس الصالحة, والشياطين هم قوى النفس الخبيثة، ويجعلون سجود الملائكة طاعة القوى للعقل، وامتناع الشياطين عصيان القوى الخبيثة للعقل، ونحو ذلك من المقالات التي يقولها أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم من القرامطة الباطنية، ومن سلك سبيلهم من ضلال المتكلمة والمتعبدة، وقد يوجد نحو هذه الأقوال في أقوال المفسرين التي لا إسناد لها يعتمد عليه) .</p><p>ويوضح هذه النظرة التي ذكرها ابن تيمية عن هذه الطوائف فخر الدين الرازي في تفسيره، حيث يبين موقف الطوائف المختلفة من الجن، وقد ذكر عن هؤلاء الفلاسفة قولهم: (النفوس الناطقة البشرية المفارقة للأبدان قد تكون خيرة وقد تكون شريرة، فإن كانت خيرة فهي الملائكة الأرضية، وإن كانت شريرة فهي الشياطين الأرضية، ثم إذا حدث بدن شديد المشابهة ببدن تلك النفس المفارقة ضرب تعلق بهذا البدن الحادث، وتصير تلك النفس المفارقة، معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن على الأعمال اللائقة بها، فإن كانت النفسان من النفوس الطاهرة المشرقة الخيرة، كانت تلك المعاونة والمعاضدة إلهاماً، وإن كانتا من النفوس الخبيثة الشريرة، كانت تلك المعاونة والمناصرة وسوسة) .</p><p>وقال ابن حزم: (وذهب القائلون بتناسخ الأرواح أمثال أحمد بن خابط, وأبو مسلم الخراساني, والرازي الطبيب المعروف وغيرهم أن الشياطين هي أرواح الشريرين من الناس، والملائكة هي أرواح الخيرين منهم) ، وذكر نحو هذا البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق حيث يقول: (والباطنية يتأولون الملائكة على دعاتهم إلى بدعتهم، ويتأولون الشياطين والأبالسة على مخالفيهم) .</p><p>وما تقدم من تأويل الجن والملائكة هذا التأويل الفاسد إنما سببه الانحراف والزيغ عن منهج الحق، حيث ضلت هذه الفرق عن الإسلام، وتأولت آيات القرآن تأويلاً باطلا يوافق أهواءهم وما انتحلوه من إنكار هذه العوالم، فجمعوا بين إنكار الحق الثابت وتحريف النصوص. </p><p>وتأويل بعض هؤلاء الجن, والملائكة, بالأرواح المفارقة للأبدان ... هو من القول بالتناسخ أو يشابهه، ولا شك أن مذهب التناسخ مذهب باطل كما هو مقرر في الإسلام، فإن الأرواح لا تنتقل إلى أبدان أخر بعد الموت، بل تبقى في مستقرها في دار البرزخ منعمة أو معذبة. </p><p>الفصل الثالث: خلق الجن وصفاتهم وأصنافهم</p><p>المبحث الأول: المادة التي خلق منها الجن</p><p>صرح القرآن الكريم والسنة النبوية بذكر المادة التي خلق منها الجن، فقد ورد في القرآن قوله تعالى: {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} [ الحجر: 27]. في مقابل الحديث عن خلق الإنسان من الطين، وفي قوله: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} [ الرحمن: 14- 15]. وغير ذلك من الآيات التي تتحدث عن إباء إبليس من السجود لآدم عليه السلام كقوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12]. </p><p>أما في السنة النبوية فقد ورد في صحيح مسلم من حديث عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم)) .. </p><p>أولا: قدرتهم على التشكل</p><p>الذي تشير إليه الآيات القرآنية, والأحاديث النبوية أن الجن يتشكلون بالصور المختلفة. قال ابن تيمية: (والجن يتصورون في صور الإنس والبهائم، فيتصورون في صور الحيات والعقارب وغيرها، و في صور الإبل, والبقر, والغنم, والخيل, والبغال, والحمير، و في صور الطير، و في صور بني آدم) .</p><p>ولا يمنع خلقهم من النار تشكلهم في الصور المختلفة، يقول الباقلاني: (لسنا ننكر مع كون أصلهم النار أن الله تعالى يكثف أجسامهم ويغلظها، ويخلق لهم أغراضاً تزيد على ما في النار، فيخرجون عن كونهم ناراً، ويخلق لهم صوراً وأشكالاً مختلفة) .</p><p>الأدلة على تشكل الجن ورؤيتهم: </p><p>أما من القرآن فقوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [ الأنفال: 48]. </p><p>قال الطبري في تفسير هذه الآية: (عن ابن عباس قال: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشيطان، معه رايته، في صورة رجل من بني مدلج في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال: 48]، فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب، فرمى بها في وجوه المشركين، فولوا مدبرين، وأقبل جبريل إلى إبليس، فلما رآه – وكانت يده في يد رجل من المشركين – انتزع إبليس يده، فولى مدبراً هو وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة: تزعم أنك جار لنا؟ قال: {إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] وذلك حين رأى الملائكة) .</p><p>ومن الأدلة التاريخية التي تصلح في هذا المقام: ما ورد أن الشيطان تصور في صورة شيخ نجدي، عندما اجتمعت قريش بدار الندوة، لتمكر بالرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]. وذلك أن قريشاً اجتمعت بدار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ نجدي عليه بتٌّ، فلما رأوه واقفاً على الباب قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من نجد، سمع بالذي اتعدتم له، فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم رأياً ونصحاً، قالوا: أجل فادخل، فدخل معهم، فأشار بعضهم فقال: نحبسه في الحديد، ونغلق عليه الباب حتى يموت، فقال الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون، ليخرجن أمره من وراء الباب إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من بين أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا غيره، فأشار بعضهم بنفيه من البلاد، فقال الشيخ النجدي: ما هذا لكم برأي، ألم تروا إلى حسن حديثه وغلبته على قلوب الرجال؟ حيث يقدر على تأليف القلوب حوله، أديروا فيه رأياً غير هذا. حتى أشار أبو جهل برأيه الذي استقر عليه الأمر بأخذ شاب من كل قبيلة، فيدخلوا على الرسول عليه الصلاة والسلام فيقتلوه جميعاً، فيتفرق دمه على القبائل. فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي ولا رأي غيره، فتفرق القوم وهم مجتمعون على هذا .</p><p>نلاحظ مما تقدم أن الشيطان قد جاء المشركين في صورة رجل، فرأوه وعاينوه. </p><p>وقد يظهر الشيطان لبعض الناس في صورة بعض الأموات، وأكبر ما يقع ذلك من المشركين، يقول ابن تيمية: (وقد وقع هذا كثيراً، حتى أنه يتصور لمن يعظم شخصاً في صورته، فإذا استغاث به فيظن ذلك الشخص أنه شيخه الميت) .</p><p>ويقول في موطن آخر: (وكذلك يأتي كثيراً من الناس في مواضع ويقول إنه الخضر، وإنما كان جنياً من الجن) .</p><p>وغير هذا كثير مما يقع من أتباع الشيطان مع شياطينهم، حيث يتصورون لهم في صور عديدة، ليوهموهم ويستدرجوهم. </p><p>الأدلة من السنة: </p><p>ورد في السنة المطهرة أحاديث عديدة تدل على تشكل الجن ورؤيتهم، نجتزئ بعضها للاستدلال على ذلك: </p><p>1- ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عفريتا من الجن جعل يفتك عليَّ البارحة، ليقطع عليَّ الصلاة، وأن الله أمكنني منه فذعته، فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد، حتى تنظرون إليه أجمعون -أوكلكم -. ثم ذكرت قول أخي سليمان: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} [ص: 35] فرده الله خاسئاً)) .</p><p>وقد جاء في روايات أخرى أن الشيطان جاء بشعلة من نار ليحرق بها وجه الرسول صلى الله عليه وسلم, فأخذه حتى وجد برد لسانه على يده الشريفة. </p><p>فعن أبي سعيد الخدري ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فصلى صلاة الصبح وهو خلفه، فقرأ، فالتبست عليه القراءة، فلما فرغ من صلاته قال: لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي، فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين إصبعي هاتين: الإبهام والتي تليها، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد، يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد؛ فليفعل)) .</p><p>وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء قال: ((قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعناه يقول: أعوذ بالله منك, ثم قال: ألعنك بلعنة الله. ثلاثاً، وبسط يده كأنه يتناول شيئاً. فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله, قد سمعناك تقول في الصلاة شيئاً، لم نسمعك تقوله قبل ذلك. ورأيناك بسطت يدك؟ قال: إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي. فقلت: أعوذ بالله منك. ثلاث مرات. ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة. فلم يستأخر. ثلاث مرات. ثم أردت أخذه. والله ! لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة)) .</p><p>فهذه الروايات تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى الشيطان، ومعه شعلة من نار ليحرق بها وجهه، فأخذه، ولولا دعوة النبي سليمان عليه السلام لربطه في أحد سواري المسجد لينظر إليه الناس. </p><p>2- عن أبي عبد الله الجدلي عن ابن مسعود قال: ((استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فانطلقت معه حتى بلغنا أعلى مكة، فخط لي خطاً وقال: لا تبرح، ثم انصاع في أجبال الجن، فرأيت الرجال ينحدرون عليه من رؤوس الجبال حتى حالوا بيني وبينه، فاخترطت السيف وقلت: لأضربن حتى استعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكرت قوله: لا تبرح حتى آتيك، فلم أزل كذلك حتى أضاء الفجر..)). الحديث </p><p>فقوله في الحديث: (فرأيت الرجال ينحدرون عليه من رؤوس الجبال) فيه دليل على أنهم ظهروا لابن مسعود في صورة الرجال، حتى خاف على الرسول صلى الله عليه وسلم منهم، فهم بسيفه ليقاتلهم. </p><p>3- ما ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج, وعلي عيال, ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، فقال: أما إنه قد كذبك، وسيعود. فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود. فرصدته، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج, وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه كذبك، وسيعود. فرصدته الثالثة، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم لا تعود، ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة.قال: لا، قال: ذاك شيطان)) .</p><p>وقد جاء هذا الحديث من عدة روايات، كما ذكر ذلك ابن حجر العسقلاني، فقد قال: (قوله: فأخذته زاد في رواية أبي المتوكل ((أن أبا هريرة شكى ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولاً، فقال له: إن أردت أن تأخذه فقل: سبحان من سخرك لمحمد، قال: فقلتها، فإذا أنا به قائم بين يدي فأخذته)).) وقال ابن حجر: (وفي رواية الروياني: ((فأخذته فالتفت يدي على وسطه, فقلت: يا عدو الله: وثبت إلى تمر الصدقة فأخذته، وكانوا أحق به منك، لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفضحك)) وفي رواية الروياني: ((ما أدخلك بيتي تأكل التمر؟ قال: أنا شيخ كبير فقير ذو عيال، ما أتيتك إلا من نصيبين)) .</p><p>وقد ورد في حديث معاذ بن جبل قوله: ((ضم إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تمر الصدقة، فكنت أجد فيه كل يوم نقصاناً، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: هو عمل الشيطان فارصده، فرصدته، فأقبل في صورة فيل، فلما انتهى إلى خلل الباب، دخل من خلل الباب في غير صورته، فدنا من التمر فجعل يلتقمه، فشددت عليّ ثيابي فتوسطته)) .</p><p>وقد بين ابن حجر أن اختلاف هذه الروايات محمول على التعدد، فقد جاء الشيطان مرة في صورة رجل فقير يطلب الصدقة، ومرة أخرى في صورة فيل، و في روايات أخرى ذكرها ابن حجر أنه جاء في صورة دابة تشبه الغلام المحتلم، فعن أبي بن كعب: ((أن أباه أخبره أنه كان لهم جرن فيه تمر، وكان مما يتعاهده فيجده ينقص، فحرسه ذات ليلة، فإذا هو بدابة كهيأة الغلام المحتلم، قال: فسلمت فرد السلام، فقلت: ما أنت: جن أم أنس؟ فقال: جن، فقلت: ناولني يدك, فإذا يد كلب وشعر كلب، فقلت: هكذا خلق الجن؟ فقال: لقد علمت الجن أنه ما فيهم من أحد هو أشد مني، فقلت: ما يحملك على ما صنعت؟ قال: بلغني إنك رجل تحب الصدقة، فأحببت أن أصيب من طعامك، قلت: فما الذي يحرزنا منكم؟ فقال: هذه الآية، آية الكرسي, قال: فتركته، وغدا أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الخبيث)) . إلى غير ذلك.</p><p>وهذه الروايات بمجموعها تدل على تشكل الجن ورؤيتهم في صورهم التي تشكلوا بها. </p><p>4- روى مسلم في صحيحه ((أن أبا السائب دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجده يصلي، قال: فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته. فسمعت تحريكاٍ في عراجين في ناحية البيت. فالتفت فإذا حية. فوثبت لأقتلها. فأشار إليّ: أن أجلس. فجلست. فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار. فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم. فقال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس. قال فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق. فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله. فاستأذنه يوماً. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ عليك سلاحك. فإني أخشى عليك قريظة. فأخذ الرجل سلاحه. ثم رجع فإذا امرأته بين البابين قائمة. فأهوى إليها الرمح ليطعنها به. وأصابته غيرة. فقالت له: اكفف عليك رمحك، وأدخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني. فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش. فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به. ثم خرج فركزه في الدار. فاضطربت عليه. فما يدري أيهما كان أسرع موتاً. الحية أم الفتى؟ قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له. وقلنا: ادع الله يحييه لنا. فقال: استغفروا لصاحبكم. ثم قال: إن بالمدينة جناً قد أسلموا. فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام. فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه. فإنما هو شيطان)) .</p><p> ففي هذا الحديث دلالة على أن الجن يتشكلون في صورة الحيات، وقد كانت تلك الحية التي دخلت البيت عبارة عن جن في صورة حية، صرع الفتى بسببها، ولذا فإن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل حيات البيوت قبل استئذانها ثلاثة أيام، لئلا تكون تلك الحية جناً مسلمين. </p><p>فعن عمر بن نافع قال: (كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يوماً عند هدم, فرأى وبيص جان فقال: اتبعوا هذا الجان فاقتلوه، فقال أبو لبابة الأنصاري: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الجنان التي تكون في البيوت إلا الأبتر, وذا الطفيتين، فإنهما اللذان يخطفان البصر, ويتبعان ما في بطون النساء) .</p><p>وأخرج البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقتلوا ذا الطفيتين، فإنه يطمس البصر, ويصيب الحبل)) .</p><p>والنهي عن قتل حيات البيوت لكون الجان يتمثل بصورة الحيات، قال ابن حجر الهيتمي: (إن استثناء هذين – يقصد الأبتر وذا الطفيتين - يقتضي أن الجني لا يتصور بصورتهما، فيسن قتلهما مطلقاً، ثم رأيت الزركشي نقل ذلك عن الماوردي فقال: إنما أمر بقتلهما لأن الجن لا تتمثل بهما، وإنما نهى عن ذوات البيوت لأن الجني يتمثل بهما) .</p></blockquote><p></p>
[QUOTE="ابن عامر الشامي, post: 35435, member: 329"] والملاحدة والمتفلسفة يجعلون الملائكة قوى النفس الصالحة، والشياطين قوى النفس الخبيثة ... وقد أنكرت جماهير القدرية وكافة الزنادقة الجن كما ذكر الجويني إمام الحرمين حيث يقول: (وكثير من الفلاسفة, وجماهير القدرية, وكافة الزنادقة أنكروا الجن والشياطين رأساً، ولا يبعد لو أنكر ذلك من لا يتدبر ولا يتشبث بالشريعة، وإنما العجب من إنكار القدرية مع نصوص القرآن وتواتر الأخبار واستفاضة الآثار) . والذي يظهر أن المتأخرين من القدرية هم الذين ينكرون وجود الجن مع اعتراف متقدميهم بذلك، قال أبو بكر الباقلاني: (وكثير من القدرية يثبتون وجود الجن قديماً وينفون وجودهم الآن، ومنه من يزعم أنهم لا يرون لرقة أجسامهم ونفوذ الشعاع فيها، ومنهم من قال: إنما لا يرون لأنهم لا ألوان لهم) . وأما المعتزلة فالمشهور عن أكثر العلماء أن الكثيرين منهم ينكرون وجود الجن، يقول الجويني: (وقد أنكرهم معظم المعتزلة، ودل إنكارهم إياهم على قلة مبالاتهم, وركاكة ديانتهم، فليس في إثباتهم مستحيل عقلي، وقد نصت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم، وحق على اللبيب المعتصم بحبل الدين أن يثبت ما قضى العقل بجوازه, ونص الشرع على ثبوته) . وقال ابن حجر الهيتمي: (وإنكار المعتزلة لوجودهم فيه مخالفة للكتاب والسنة والإجماع، بل ألزموا به كفراً لأن فيه تكذيب النصوص القطعية بوجودهم) . وقال الدميري: (فإذا قيل: ما تقول فيما حكى عن بعض المعتزلة أنه ينكر وجود الجن؟ قلنا: عجيب أن يثبت ذلك عمن يصدق بالقرآن وهو ناطق بوجودهم) . ... وقد ذكر محمد رشيد رضا أن الزمخشري وشيعته لم يكونوا من المنكرين لوجود الجن، وإنما الجن – كما يقولون – من عالم الغيب، لا نصدق من خبرهم إلا ما أثبته الشرع، أو ما هو في قوته من دليل الحس أو العقل، ولم يثبت شرعاً, ولا عقلاً, ولا اختباراً, أن شياطين الجن تأكل الناس, ولا أنها تظهر لهم في الفيافي كما كانت تزعم العرب، وغير ذلك في طور الجهل والخرافات ... أما الزنادقة قديماً وحديثاً كالدهرية والملحدين من الشيوعيين وغيرهم فإنهم ينكرون الغيبيات بشكل عام، ويعتبرون أن الكون وجد هكذا صدفة، وعلى هذا فهم يحاربون الأديان ويعتبرونها أفيون الشعوب، وذلك كما تفعل الشيوعية في الوقت الحاضر. وليس لهؤلاء حجة في إنكار الغيبيات – والجن من بينهم – إلا عدم الإيمان بما لا يقع عليه الحس، ولا يعرف بالتجربة والمشاهدة، وهي حجة ساقطة من أساسها، لا تقوى على الوقوف أمام الأدلة الكثيرة الناطقة بوجودهم ... شبه المنكرين لوجود الجن والرد عليها: وجملة الشبه التي يتمسك بها المنكرون للجن تتلخص فيما يلي: 1- أن الجن لو كانوا موجودين لوجب أن يكونوا أجساماً كثيفة أو لطيفة، ولو كانوا أجساماً كثيفة لرآهم كل إنسان سليم الحس، ولو كانوا أجساماً لطيفة لتمزقوا عند هبوب الرياح والعواصف، وللزم أن لا يكون لهم قدرة على الأعمال الشاقة كما يقول مثبتو الجن على حد قولهم . والجواب على هذه الشبهة: أن الجن مجردون عن المادة والجسمية التي نشاهدها في الأمور المحسوسة أمامنا كالبشر, والدواب, والأشجار وغير ذلك، ولكن هذا لا يمنع أن يجعل الله فيهم خاصية القدرة على التشكل بالأشكال المختلفة: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [ يــس: 82]، وقد وردت الأحاديث الصحيحة في تشكلهم بمختلف الصور، فمعارضة هذه النصوص بالظن إنما هو تحكم بالباطل. أما قولهم: إنهم لو كانوا أجساماً لطيفة لتمزقوا عند هبوب الرياح والعواصف فجوابه: لقد ثبت عند الفلاسفة أن النار التي تنفصل عن الصواعق تنفذ في اللحظة اللطيفة في بواطن الأحجار والحديد وتخرج من الجانب الآخر، فلم لا يعقل مثله في هذه الصورة؟ !، وعلى هذا التقدير فإن الجن تكون قادرة على النفوذ في بواطن الناس وعلى التصرف فيها، وأنها تبقى حية فعالة مصونة عن الفساد إلى الأجل المعين والوقت المعلوم، فكل هذه الأحوال احتمالات ظاهرة، والدليل لم يقم على إبطالها, فلم يجز المصير إلى القول بإبطالها وقد ثبت تسخيرهم للنبي سليمان عليه السلام بصريح القرآن، وقد كان يراهم على صورهم الأصلية كما دل عليه ظاهر القرآن. 2- أن هذه الأشخاص المسماة بالجن لو كانوا حاضرين في هذا العالم، مخالطين للبشر، فالظاهر الغالب أن يحصل لهم بسبب طول المخالطة والمصاحبة إما صداقة, وإما عداوة، فإن حصلت الصداقة وجب ظهور المنافع بسبب تلك الصداقة، وإن حصلت العداوة وجب ظهور المضاد بسبب تلك العداوة، إلا أننا لا نرى أثراً لا من تلك الصداقة ولا من تلك العداوة . والجواب على هذه الشبهة: أنه لا يشترط أن يحصل للإنسان من مصاحبة أحد صداقة أو عداوة يترتب عليهما المنافع والمضار، ومع ذلك فإن الوقائع الصحيحة التي وردت في السنة تدل على أن بعض الجن قد حصل منهم إيذاء لبعض من يكرهونه من الأنس، وقد ثبت علاج الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض من صرعتهم الجن، وقد ثبت كذلك نفع الجن لبعض الإنس كما حصل مع أبي هريرة عندما جاءه الشيطان فجعل يحثو من الطعام وقد تكرر مجيئه ثلاث مرات، وكان يزعم أنه لا يعود، حتى همَّ أبو هريرة أن يرفع أمره للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال الشيطان عند ذلك: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، فعلمه آية الكرسي وقال له: اقرأها فإنه لا يقربك شيطان , وغير ذلك مما قد ثبت في نفع الجن لبعض الناس وإضرارهم لبعض منهم. 3- إن الطريق إلى معرفة الجن إما الحس وإما المشاهدة وإما الدليل، ولم يثبت لنا بالحس وجودهم ورؤيتهم، والذين يقولون إنا أبصرناهم وسمعنا أصواتهم طائفة من المجانين يتخيلون ذلك، وليست في الحقيقة كذلك، وأما الخبر بواسطة الأنبياء عليهم السلام فباطل، لأن ذلك يؤدي إلى إبطال نبوتهم، ولجاز أن يقال إن كل ما أتى به الأنبياء من المعجزات إنما هو بإعانة الجن والشياطين، فإذا جوزنا نفوذ الجن في بواطن الإنسان فلم لا يجوز أن يقال: إن حنين الجذع إنما كان لأن الشيطان نفذ في ذلك الجذع ثم أظهر الحنين؟ ولم لا يجوز أن يقال: إن الناقة تكلمت مع الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الشيطان دخل في باطنها فتكلمت؟ وأما الدليل والنظر فهو متعذر، لأنا لا نعرف دليلاً عقلياً يدل على وجود الجن والشياطين . والجواب على هذه الشبهة: أن الدليل الحسي قد دل على وجود الجن، حيث رآهم الرسول عليه الصلاة والسلام وهو نبي معصوم من الخطأ والكذب، ورآهم ابن مسعود عندما ذهب معه ليلة تكليم الجن، ورآهم أبو هريرة عندما جاءه الشيطان في صورة رجل فقير، فأخذ يحثو من مال الصدقة، وقد حدث مثل ذلك لنفر من الصحابة، وغير ذلك من الوقائع التي تدل على رؤية الجن من قبل هؤلاء، وهم صحابة أجلاء وليسوا من المجانين كما يزعم المنكرون لوجود الجن، بل هم من العقلاء الموثوق بهم. وأما الخبر فقد جاءت نصوص القرآن مخبرة عن أحوال الجن في مواضع متعددة من القرآن، وليس هناك من سبيل للطعن بكتاب الله – المنقول بالتواتر – بأي حال من الأحوال، ودل على وجودهم السنة المتواترة التي تقطع الشك وترفع العذر في إنكار وجودهم أو تأويلهم. والقول أن في الاعتراف بهم إبطالاً لنبوة الأنبياء غير صحيح، لأنه قد ثبت لنا وجودهم عن طريق هؤلاء الأنبياء كذلك، فالشك في وجودهم يوجب الطعن في نبوتهم أيضاً. وأما أن الإقرار بوجودهم يوجب إنكار معجزات الأنبياء فغير مسلم، لأن المعجزة إنما هي تأييد من الله لأنبيائه حتى يظهر للناس صدق نبوتهم، والرسل معصومون من تلبيس الجن والشياطين، فلا يمكن أن يكون حنين الجذع وتكليم الناقة للرسول عليه السلام من قبيل هذه التلبيسات. أما الذين ينكرون وجود الجن بحجة عدم رؤيتهم، أمثال الزنادقة والماديين، فهؤلاء ينكرون كل ما لا يقع عليه الحس، ... وأنه لم يدل دليل عقلي على نفي وجودهم، ولا يمنع العقل من وجودهم، في الوقت الذي دل فيه العقل على وجود أشياء كثيرة غائبة من الحس، وهو أمر لا تحيله الطباع ولا تنكره العقول، ثم إن العقل لم يدع أنه توصل إلى معرفة جميع الأشياء، وأن ما وصل إليه علم الإنسان غيض من فيض. فثبت بهذا بطلان شبهات منكري الجن. موقف المنكرين لوجود الجن من النصوص الدالة على إثبات وجودهم: وفي الوقت الذي يقرر الإسلام وجود الجن وأنهم مخلوقات عاقلة مكلفة خلقوا من النار، يأتي المنكرون للجن من الملاحدة والفلاسفة وغيرهم فيؤولون النصوص الدالة على وجود الجن والملائكة تأويلاً يبعد عن مقصد القرآن والسنة، وهو تأويل لا يعتمد على دليل يؤيده بل هو من تحريف الكلم عن مواضعه، تضليلاً للناس وصدا لهم عن سبيل الله، وهي تأويلات معلومة الفساد بالضرورة من دين الإسلام، وقد أدى تأويل هذا النفر من الناس إلى إنكار الجن بالكلية، وبهذا يتفقون مع المنكرين في الغاية والهدف. وقد تجلت هذه النظرة عند القدامى والمحدثين: أما عند القدامى فيقول ابن تيمية: (وقد زعم الملاحدة والمتفلسفة بأن الملائكة هم قوى النفس الصالحة, والشياطين هم قوى النفس الخبيثة، ويجعلون سجود الملائكة طاعة القوى للعقل، وامتناع الشياطين عصيان القوى الخبيثة للعقل، ونحو ذلك من المقالات التي يقولها أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم من القرامطة الباطنية، ومن سلك سبيلهم من ضلال المتكلمة والمتعبدة، وقد يوجد نحو هذه الأقوال في أقوال المفسرين التي لا إسناد لها يعتمد عليه) . ويوضح هذه النظرة التي ذكرها ابن تيمية عن هذه الطوائف فخر الدين الرازي في تفسيره، حيث يبين موقف الطوائف المختلفة من الجن، وقد ذكر عن هؤلاء الفلاسفة قولهم: (النفوس الناطقة البشرية المفارقة للأبدان قد تكون خيرة وقد تكون شريرة، فإن كانت خيرة فهي الملائكة الأرضية، وإن كانت شريرة فهي الشياطين الأرضية، ثم إذا حدث بدن شديد المشابهة ببدن تلك النفس المفارقة ضرب تعلق بهذا البدن الحادث، وتصير تلك النفس المفارقة، معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن على الأعمال اللائقة بها، فإن كانت النفسان من النفوس الطاهرة المشرقة الخيرة، كانت تلك المعاونة والمعاضدة إلهاماً، وإن كانتا من النفوس الخبيثة الشريرة، كانت تلك المعاونة والمناصرة وسوسة) . وقال ابن حزم: (وذهب القائلون بتناسخ الأرواح أمثال أحمد بن خابط, وأبو مسلم الخراساني, والرازي الطبيب المعروف وغيرهم أن الشياطين هي أرواح الشريرين من الناس، والملائكة هي أرواح الخيرين منهم) ، وذكر نحو هذا البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق حيث يقول: (والباطنية يتأولون الملائكة على دعاتهم إلى بدعتهم، ويتأولون الشياطين والأبالسة على مخالفيهم) . وما تقدم من تأويل الجن والملائكة هذا التأويل الفاسد إنما سببه الانحراف والزيغ عن منهج الحق، حيث ضلت هذه الفرق عن الإسلام، وتأولت آيات القرآن تأويلاً باطلا يوافق أهواءهم وما انتحلوه من إنكار هذه العوالم، فجمعوا بين إنكار الحق الثابت وتحريف النصوص. وتأويل بعض هؤلاء الجن, والملائكة, بالأرواح المفارقة للأبدان ... هو من القول بالتناسخ أو يشابهه، ولا شك أن مذهب التناسخ مذهب باطل كما هو مقرر في الإسلام، فإن الأرواح لا تنتقل إلى أبدان أخر بعد الموت، بل تبقى في مستقرها في دار البرزخ منعمة أو معذبة. الفصل الثالث: خلق الجن وصفاتهم وأصنافهم المبحث الأول: المادة التي خلق منها الجن صرح القرآن الكريم والسنة النبوية بذكر المادة التي خلق منها الجن، فقد ورد في القرآن قوله تعالى: {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} [ الحجر: 27]. في مقابل الحديث عن خلق الإنسان من الطين، وفي قوله: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} [ الرحمن: 14- 15]. وغير ذلك من الآيات التي تتحدث عن إباء إبليس من السجود لآدم عليه السلام كقوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12]. أما في السنة النبوية فقد ورد في صحيح مسلم من حديث عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم)) .. أولا: قدرتهم على التشكل الذي تشير إليه الآيات القرآنية, والأحاديث النبوية أن الجن يتشكلون بالصور المختلفة. قال ابن تيمية: (والجن يتصورون في صور الإنس والبهائم، فيتصورون في صور الحيات والعقارب وغيرها، و في صور الإبل, والبقر, والغنم, والخيل, والبغال, والحمير، و في صور الطير، و في صور بني آدم) . ولا يمنع خلقهم من النار تشكلهم في الصور المختلفة، يقول الباقلاني: (لسنا ننكر مع كون أصلهم النار أن الله تعالى يكثف أجسامهم ويغلظها، ويخلق لهم أغراضاً تزيد على ما في النار، فيخرجون عن كونهم ناراً، ويخلق لهم صوراً وأشكالاً مختلفة) . الأدلة على تشكل الجن ورؤيتهم: أما من القرآن فقوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [ الأنفال: 48]. قال الطبري في تفسير هذه الآية: (عن ابن عباس قال: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشيطان، معه رايته، في صورة رجل من بني مدلج في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال: 48]، فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب، فرمى بها في وجوه المشركين، فولوا مدبرين، وأقبل جبريل إلى إبليس، فلما رآه – وكانت يده في يد رجل من المشركين – انتزع إبليس يده، فولى مدبراً هو وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة: تزعم أنك جار لنا؟ قال: {إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] وذلك حين رأى الملائكة) . ومن الأدلة التاريخية التي تصلح في هذا المقام: ما ورد أن الشيطان تصور في صورة شيخ نجدي، عندما اجتمعت قريش بدار الندوة، لتمكر بالرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]. وذلك أن قريشاً اجتمعت بدار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ نجدي عليه بتٌّ، فلما رأوه واقفاً على الباب قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من نجد، سمع بالذي اتعدتم له، فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم رأياً ونصحاً، قالوا: أجل فادخل، فدخل معهم، فأشار بعضهم فقال: نحبسه في الحديد، ونغلق عليه الباب حتى يموت، فقال الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون، ليخرجن أمره من وراء الباب إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من بين أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا غيره، فأشار بعضهم بنفيه من البلاد، فقال الشيخ النجدي: ما هذا لكم برأي، ألم تروا إلى حسن حديثه وغلبته على قلوب الرجال؟ حيث يقدر على تأليف القلوب حوله، أديروا فيه رأياً غير هذا. حتى أشار أبو جهل برأيه الذي استقر عليه الأمر بأخذ شاب من كل قبيلة، فيدخلوا على الرسول عليه الصلاة والسلام فيقتلوه جميعاً، فيتفرق دمه على القبائل. فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي ولا رأي غيره، فتفرق القوم وهم مجتمعون على هذا . نلاحظ مما تقدم أن الشيطان قد جاء المشركين في صورة رجل، فرأوه وعاينوه. وقد يظهر الشيطان لبعض الناس في صورة بعض الأموات، وأكبر ما يقع ذلك من المشركين، يقول ابن تيمية: (وقد وقع هذا كثيراً، حتى أنه يتصور لمن يعظم شخصاً في صورته، فإذا استغاث به فيظن ذلك الشخص أنه شيخه الميت) . ويقول في موطن آخر: (وكذلك يأتي كثيراً من الناس في مواضع ويقول إنه الخضر، وإنما كان جنياً من الجن) . وغير هذا كثير مما يقع من أتباع الشيطان مع شياطينهم، حيث يتصورون لهم في صور عديدة، ليوهموهم ويستدرجوهم. الأدلة من السنة: ورد في السنة المطهرة أحاديث عديدة تدل على تشكل الجن ورؤيتهم، نجتزئ بعضها للاستدلال على ذلك: 1- ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عفريتا من الجن جعل يفتك عليَّ البارحة، ليقطع عليَّ الصلاة، وأن الله أمكنني منه فذعته، فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد، حتى تنظرون إليه أجمعون -أوكلكم -. ثم ذكرت قول أخي سليمان: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} [ص: 35] فرده الله خاسئاً)) . وقد جاء في روايات أخرى أن الشيطان جاء بشعلة من نار ليحرق بها وجه الرسول صلى الله عليه وسلم, فأخذه حتى وجد برد لسانه على يده الشريفة. فعن أبي سعيد الخدري ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فصلى صلاة الصبح وهو خلفه، فقرأ، فالتبست عليه القراءة، فلما فرغ من صلاته قال: لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي، فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين إصبعي هاتين: الإبهام والتي تليها، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد، يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد؛ فليفعل)) . وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء قال: ((قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعناه يقول: أعوذ بالله منك, ثم قال: ألعنك بلعنة الله. ثلاثاً، وبسط يده كأنه يتناول شيئاً. فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله, قد سمعناك تقول في الصلاة شيئاً، لم نسمعك تقوله قبل ذلك. ورأيناك بسطت يدك؟ قال: إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي. فقلت: أعوذ بالله منك. ثلاث مرات. ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة. فلم يستأخر. ثلاث مرات. ثم أردت أخذه. والله ! لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة)) . فهذه الروايات تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى الشيطان، ومعه شعلة من نار ليحرق بها وجهه، فأخذه، ولولا دعوة النبي سليمان عليه السلام لربطه في أحد سواري المسجد لينظر إليه الناس. 2- عن أبي عبد الله الجدلي عن ابن مسعود قال: ((استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فانطلقت معه حتى بلغنا أعلى مكة، فخط لي خطاً وقال: لا تبرح، ثم انصاع في أجبال الجن، فرأيت الرجال ينحدرون عليه من رؤوس الجبال حتى حالوا بيني وبينه، فاخترطت السيف وقلت: لأضربن حتى استعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكرت قوله: لا تبرح حتى آتيك، فلم أزل كذلك حتى أضاء الفجر..)). الحديث فقوله في الحديث: (فرأيت الرجال ينحدرون عليه من رؤوس الجبال) فيه دليل على أنهم ظهروا لابن مسعود في صورة الرجال، حتى خاف على الرسول صلى الله عليه وسلم منهم، فهم بسيفه ليقاتلهم. 3- ما ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج, وعلي عيال, ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، فقال: أما إنه قد كذبك، وسيعود. فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود. فرصدته، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج, وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه كذبك، وسيعود. فرصدته الثالثة، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم لا تعود، ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة.قال: لا، قال: ذاك شيطان)) . وقد جاء هذا الحديث من عدة روايات، كما ذكر ذلك ابن حجر العسقلاني، فقد قال: (قوله: فأخذته زاد في رواية أبي المتوكل ((أن أبا هريرة شكى ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولاً، فقال له: إن أردت أن تأخذه فقل: سبحان من سخرك لمحمد، قال: فقلتها، فإذا أنا به قائم بين يدي فأخذته)).) وقال ابن حجر: (وفي رواية الروياني: ((فأخذته فالتفت يدي على وسطه, فقلت: يا عدو الله: وثبت إلى تمر الصدقة فأخذته، وكانوا أحق به منك، لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفضحك)) وفي رواية الروياني: ((ما أدخلك بيتي تأكل التمر؟ قال: أنا شيخ كبير فقير ذو عيال، ما أتيتك إلا من نصيبين)) . وقد ورد في حديث معاذ بن جبل قوله: ((ضم إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تمر الصدقة، فكنت أجد فيه كل يوم نقصاناً، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: هو عمل الشيطان فارصده، فرصدته، فأقبل في صورة فيل، فلما انتهى إلى خلل الباب، دخل من خلل الباب في غير صورته، فدنا من التمر فجعل يلتقمه، فشددت عليّ ثيابي فتوسطته)) . وقد بين ابن حجر أن اختلاف هذه الروايات محمول على التعدد، فقد جاء الشيطان مرة في صورة رجل فقير يطلب الصدقة، ومرة أخرى في صورة فيل، و في روايات أخرى ذكرها ابن حجر أنه جاء في صورة دابة تشبه الغلام المحتلم، فعن أبي بن كعب: ((أن أباه أخبره أنه كان لهم جرن فيه تمر، وكان مما يتعاهده فيجده ينقص، فحرسه ذات ليلة، فإذا هو بدابة كهيأة الغلام المحتلم، قال: فسلمت فرد السلام، فقلت: ما أنت: جن أم أنس؟ فقال: جن، فقلت: ناولني يدك, فإذا يد كلب وشعر كلب، فقلت: هكذا خلق الجن؟ فقال: لقد علمت الجن أنه ما فيهم من أحد هو أشد مني، فقلت: ما يحملك على ما صنعت؟ قال: بلغني إنك رجل تحب الصدقة، فأحببت أن أصيب من طعامك، قلت: فما الذي يحرزنا منكم؟ فقال: هذه الآية، آية الكرسي, قال: فتركته، وغدا أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الخبيث)) . إلى غير ذلك. وهذه الروايات بمجموعها تدل على تشكل الجن ورؤيتهم في صورهم التي تشكلوا بها. 4- روى مسلم في صحيحه ((أن أبا السائب دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجده يصلي، قال: فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته. فسمعت تحريكاٍ في عراجين في ناحية البيت. فالتفت فإذا حية. فوثبت لأقتلها. فأشار إليّ: أن أجلس. فجلست. فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار. فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم. فقال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس. قال فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق. فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله. فاستأذنه يوماً. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ عليك سلاحك. فإني أخشى عليك قريظة. فأخذ الرجل سلاحه. ثم رجع فإذا امرأته بين البابين قائمة. فأهوى إليها الرمح ليطعنها به. وأصابته غيرة. فقالت له: اكفف عليك رمحك، وأدخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني. فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش. فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به. ثم خرج فركزه في الدار. فاضطربت عليه. فما يدري أيهما كان أسرع موتاً. الحية أم الفتى؟ قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له. وقلنا: ادع الله يحييه لنا. فقال: استغفروا لصاحبكم. ثم قال: إن بالمدينة جناً قد أسلموا. فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام. فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه. فإنما هو شيطان)) . ففي هذا الحديث دلالة على أن الجن يتشكلون في صورة الحيات، وقد كانت تلك الحية التي دخلت البيت عبارة عن جن في صورة حية، صرع الفتى بسببها، ولذا فإن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل حيات البيوت قبل استئذانها ثلاثة أيام، لئلا تكون تلك الحية جناً مسلمين. فعن عمر بن نافع قال: (كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يوماً عند هدم, فرأى وبيص جان فقال: اتبعوا هذا الجان فاقتلوه، فقال أبو لبابة الأنصاري: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الجنان التي تكون في البيوت إلا الأبتر, وذا الطفيتين، فإنهما اللذان يخطفان البصر, ويتبعان ما في بطون النساء) . وأخرج البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقتلوا ذا الطفيتين، فإنه يطمس البصر, ويصيب الحبل)) . والنهي عن قتل حيات البيوت لكون الجان يتمثل بصورة الحيات، قال ابن حجر الهيتمي: (إن استثناء هذين – يقصد الأبتر وذا الطفيتين - يقتضي أن الجني لا يتصور بصورتهما، فيسن قتلهما مطلقاً، ثم رأيت الزركشي نقل ذلك عن الماوردي فقال: إنما أمر بقتلهما لأن الجن لا تتمثل بهما، وإنما نهى عن ذوات البيوت لأن الجني يتمثل بهما) . [/QUOTE]
الإسم
التحقق
اكتب معهد الماهر
رد
الرئيسية
المنتديات
قسم العلـــوم الشرعيـــه
ركـن العقيـــده الاســـلاميه
الموسوعة العقدية