الموسوعة العقدية

طباعة الموضوع

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
12- أبو بكر الآجري المتوفى سنة 360هـ
قال: (فالأعمال – رحمكم الله تعالى – بالجوارح تصديق للإيمان بالقلب واللسان.
فمن لم يصدق الإيمان بجوارحه: مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه، ورضي من نفسه بالمعرفة والقول: لم يكن مؤمنا، ولم تنفعـه المعرفة والقول، وكان تركه العمل تكذيبا منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكرنا تصديقا منه لإيمانه، وبالله تعالى التوفيق) .
وقال: (هذا بيان لمن عقل، يعلم أنه لا يصحّ الدين إلا بالتصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وما أشبه ذلك) .
وقال: وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] فأخبر تعالى بأن الكلم الطيب حقيقته أن يُرفع إلى الله عز وجل بالعمل الصالح، فإن لم يكن عملٌ، بطل الكلام من قائله، ورد عليه. ولا كلام أطيب وأجل من التوحيد، ولا عمل من عمل الصالحات أجل من أداء الفرائض... ثم جعل على كل قول دليلا، من عملٍ يصدقه، ومن عملٍ يكذبه، فإذا قال قولا حسنا، وعمل عملا حسنا، رفع الله قوله بعمله، وإذا قال قولا حسنا، وعمل عملا سيئا، رد الله القول على العمل، وذلك في كتاب الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] .
13- ابن بطة العكبري، ت: 387 هـ
قال: (فقد تلوت عليكم من كتاب الله ما يدل العقلاء من المؤمنين أن الإيمان قول وعمل، وأن من صدق بالقول وترك العمل كان مكذبا وخارجا من الإيمان، وأن الله لا يقبل قولا إلا بعمل، ولا عملا إلا بقول) .
وقال: (فمن زعم أنّه يقر بالفرائض ولا يؤديها، ويعلمها، وبتحريم الفواحش والمنكـــرات ولا ينزجر عنها ولا يتركها، وأنه مع ذلك مؤمن، فقد كذّب بالكتاب وبما جاء به رسوله، ومثَله كمثل المنافقين الذين قالوا: {قَالُواْ آمَنا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41] فأكذبهم الله وردّ عليهم قولهم، وسماهم منافقين مأواهم الدرك الأسفل من النار، على أن المنافقين أحسن حالا من المرجئة؛ لأن المنافقين جحدوا العمل، وعملوه، والمرجئة أقروا بالعمل بقولهم، وجحدوه بترك العمل به. فمن جحد شيئا وأقر به بلسانه وعمله ببدنه، أحسن حالا ممن أقر بلسانه وأبى أن يعمله ببدنه. فالمرجئة جاحدون لما هم به مقرون، ومكذبون لما هم به مصدقون، فهم أسوأ حالا من المنافقين) .
14- شيخ الإسلام ابن تيمية، ت: 728هـ
وقد قرر هذه المسألة من وجوهٍ عدة:
(1) تصريحه بأن من لم يأت بالعمل فهو كافر:
قال: (وأيضا فان الإيمان عند أهل السنة و الجماعة قول وعمل كما دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه السلف، وعلى ما هو مقرر في موضعه، فالقول تصديق الرسول، والعمل تصديق القول، فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمنا.
والقول الذي يصير به مؤمنا قول مخصوص وهو الشهادتان، فكذلك العمل هو الصلاة.
وأيضاً فإن حقيقة الدين هو الطاعة و الانقياد، وذلك إنما يتم بالفعل لا بالقول فقط، فمن لم يفعل لله شيئا فما دان لله دينا، و من لا دين له فهو كافر) .
(2) تصريحه بأن انتفاء أعمال الجوارح مع القدرة والعلم بها لا يكون إلا مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح:
قال: (وهذه المسألة لها طرفان: أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر. والثاني: في إثبات الكفر الباطن.
فأما الطرف الثاني فهو مبني على مسألة كون الإيمان قولا وعملا كما تقدم، ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح) .
(3) تصريحه بأن الرجل لا يكون مؤمنا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي اختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم:
قال رحمه الله: (وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه، أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجباً ظاهراً، لا صلاة ولا زكاة ولا صياما ولا غير ذلك من الواجبات، ولو قدّر أن يؤدي الواجبات لا لأجل أن الله أوجبها، مثل أن يؤدي الأمانة ويصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه، من غير إيمان بالله ورسوله، لم يخرج بذلك من الكفر؛ فإن المشركين، وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم. ومن قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات، سواء جعل فعل تلك الواجبات لازما له أو جزءا منه- فهذا نزاع لفظي- كان مخطئا خطئا بينا، وهذه بدعة الإرجاء التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها، وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف. والصلاة هي أعظمها وأعمها وأولها وأجلها) .
(4) تصريحه بأنه إذا انتفت أعمال الجوارح لم يبق في القلب إيمان:
قال: (وللجهمية هنا سؤال ذكره أبو الحسن في كتاب (الموجز)، وهو أن القرآن نفى الإيمان عن غير هؤلاء كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، ولم يقل: إن هذه الأعمال من الإيمان. قالوا: فنحن نقول: من لم يعمل هذه الأعمال لم يكن مؤمنا لأن انتفاءها دليل على انتفاء العلم من قلبه.
والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان وهذا هو المطلوب، وبعد هذا فكونها لازمة أو جزءا نزاع لفظي) .
فتأمل قوله: (أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان وهذا هو المطلوب) لتعلم أن هذا هو مقتضى التلازم عند شيخ الإسلام.
(5) تصريحه بأن انتفاء اللازم الظاهر دليل على انتفاء الملزوم الباطن:
قال: (والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان؛ فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا وجعلها هي التصديق فهذا ضلال بين. ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم: العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه، وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن. فبقي النزاع في أن العمل الظاهر هل هو جزء من مسمى الإيمان يدل عليه بالتضمن، أو لازم لمسمى الإيمان) .
وقال: (وقيل لمن قال: دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز: نزاعك لفظي؛ فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته، كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم، فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن. فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا. وإن قلت ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه من أنه يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر وترك جميع الواجبات الظاهرة. قيل لك: فهذا يناقض قولك إن الظاهر لازم له وموجب له. بل قيل: حقيقة قولك أن الظاهر يقارن الباطن تارة ويفارقه أخرى، فليس بلازم له ولا موجب ومعلول له، ولكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن، وإذا عدم لم يدل عدمه على العدم وهذا حقيقة قولك) .
وقال أيضا: (وقوله: ليس الإيمان بالتمني يعني: الكلام. وقوله: بالتحلي يعني: أن يصير حلية ظاهرة له، فيظهره من غير حقيقة من قلبه. ومعناه: ليس هو ما يظهر من القول، ولا من الحلية الظاهرة، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال. فالعمل يصدق أن في القلب إيمانا، وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيمانا؛ لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم) .
وقال: (والعمل الظاهر هو موجب إيمان القلب ومقتضاه، فإذا حصل إيمان القلب حصل إيمان الجوارح ضرورة. وإيمان القلب لابد فيه من تصديق القلب وانقياده، وإلا فلو صدق قلبه بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبغضه ويحسده ويستكبر عن متابعته لم يكن قد آمن قلبه) .
(6) تصريحه بأن قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن ممتنع:
قال: (وأيضا فإخراجهم العمل يشعر أنهم أخرجوا أعمال القلوب أيضا، وهذا باطل قطعا؛ فإن من صدق الرسول وأبغضه وعاداه بقلبه وبدنه، فهو كافر قطعا بالضرورة.
وإن أدخلوا أعمال القلوب في الإيمان أخطأوا أيضا؛ لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن وليس المقصود هنا ذكر عمل معين، بل من كان مؤمناً بالله ورسوله بقلبه هل يتصور إذا رأى الرسول وأعداءه يقاتلونه وهو قادر على أن ينظر إليهم ويحض على نصر الرسول بما لا يضره، هل يمكن مثل هذا في العادة إلا أن يكون منه حركة ما إلى نصر الرسول، فمن المعلوم أن هذا ممتنع) .
(7) تصريحه بأن مذهب السلف وأهل السنة، أنه متى وجد الإيمان الباطن، وجدت الطاعات:
قال: (وقول القائل: (الطاعات ثمرات التصديق الباطن) يراد به شيئان:
يراد به أنها لوازم له، فمتى وجد الإيمان الباطن وجدت. وهذا مذهب السلف وأهل السنة) .
(8) تصريحه بأن وجود إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع:
قال: (فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل. ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان، وأن الأعمال ليست من الإيمان.
وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع، سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان، أو جزءاً من الإيمان،) .
تنبيه: قوله: (إيمان القلب التام) المراد به الصحيح المجزئ، لا الكامل، كما فهم البعض، ويدل على ذلك ما سبق من جزمه رحمه الله بأنه إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، وأنه لا يبق في القلب إيمان، وأن انتفاء الأعمال الظاهرة إنما يكون مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح، وغير ذلك مما هو صريح لا يحتمل التأويل، بل يدل على ذلك سياق كلامه في هذا الموضع، فإنه في معرض التقرير لكفر تارك الصلاة، والرد على من لا يكفره ولو أصرّ على الترك حتى يقتل. وذكر قبلها مثالين: الأول: من أخذ يلقي المصحف في الحش، ويقول: أشهدا أن ما فيه كلام الله. والثاني: من جعل يقتل نبيا من الأنبياء، ويقول: أشهد أنه رسول الله، (ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب، فإذا قال: أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحال، كان كاذبا فيما أظهره من القول. فهذا الموضع ينبغي تدبره، فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن...) الخ.
فالكلام ليس في نقص الإيمان، بل في زواله، فتنبه.
وقد استعمل شيخ الإسلام مصطلح (إيمان القلب التام) بمعنى (الإيمان الصحيح أو المجزئ الذي يقابله الكفر) في مواضع، منها:
1- قوله: (وأما إذا قرن الإيمان بالإسلام فإن الإيمان في القلب والإسلام ظاهر، كما في (المسند) عن النبي أنه قال: ((الإسلام علانية والإيمان في القلب والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره)) . ومتى حصل له هذا الإيمان وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج؛ لأن إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله والانقياد له، وإلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار والحب والانقياد باطنا، ولا يحصل ذلك في الظاهر مع القدرة عليه، كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد. وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانا جازما امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة. فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام. وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه في زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة، فإن هذا ممتنع؛ إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة، فان من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حبا جازما وهو قادر على مواصلته ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك) .
فانظر قوله: (فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام) وتأمل هل يصح أن يحمل ذلك على الإيمان الكامل؟!
إن ذلك يعني صحة إيمان من ترك الشهادتين مع القدرة! وقد مضى أن أهل السنة مجمعون على كفر من ترك الشهادتين مع القدرة.
2- وقريب من هذا قوله: (ثم إنه إذا تحقق القلب بالتصديق والمحبة التامة المتضمنة للإرادة، لزم وجود الأفعال الظاهرة؛ فإن الإرادة الجازمة إذا اقترنت بها القدرة التامة لزم وجود المراد قطعا، وإنما ينتفي وجود الفعل لعدم كمال القدرة أو لعدم كمال الإرادة، وإلا فمع كمالها يجب وجود الفعل الاختياري.
فإذا أقر القلب إقرارا تاما بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبه محبة تامة، امتنع مع ذلك أن لا يتكلم بالشهادتين مع قدرته على ذلك، لكن إن كان عاجزا لخرس ونحوه، أو الخوف ونحوه، لم يكن قادرا على النطق بهما) .
قلت: التام هنا بمعنى الصحيح قطعا، ولا يجوز حمله على (الكامل) وإلا للزم صحة إقرار القلب، وصحة المحبة، مع عدم التكلم بالشهادتين مع القدرة.
3- وقال رحمه الله في بيان أوجه تفاضل الإيمان: (أحدها: الأعمال الظاهرة فإن الناس يتفاضلون فيها وتزيد وتنقص، وهذا مما اتفق الناس على دخول الزيادة فيه والنقصان، لكن نزاعهم في دخول ذلك في مسمى الإيمان، فالنفاة يقولون هو من ثمرات الإيمان ومقتضاه، فأُدخل فيه مجازا بهذا الاعتبار، وهذا معنى زيادة الإيمان عندهم ونقصه، أي زيادة ثمراته ونقصانها، فيقال: قد تقدم أن هذا من لوازم الإيمان وموجباته، فإنه يمتنع أن يكون إيمان تام في القلب بلا قول ولا عمل ظاهر، وأما كونه لازما أو جزءا منه فهذا يختلف بحسب حال استعمال لفظ الإيمان مفردا أو مقرونا بلفظ الإسلام والعمل) .
و(الإيمان التام) هنا هو الصحيح ولا شك، ولو فسر بالكامل للزم أن يصح الإيمان مع تخلف القول، ولا قائل به من أهل السنة.
4- وقال أيضا: (وأما إبليس وفرعون واليهود ونحوهم، فما قام بأنفسهم من الكفر وإرادة العلو والحسد، منع من حب الله وعبادة القلب له الذي لا يتم الإيمان إلا به، وصار فى القلب من كراهية رضوان الله واتباع ما أسخطه ما كان كفرا لا ينفع معه العلم) . والتمام هنا بمعنى الصحة من غير شك.
5- وقال: (وهو مركب من أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصا يستحق صاحبه العقوبة...)
فالتمام هنا بمعنى الصحة، دون شك، وقد أكثر المخالف من الاستشهاد بهذا النص دون أن ينتبه لهذا المعنى!
وهذا-وغيره- يؤكد أن استعمال التام بمعنى الصحيح أو المجزئ أو أصل الإيمان، هو الغالب في كلام شيخ الإسلام، وقد قال: (فإنه يجب أن يُفسّر كلام المتكلم بعضُه ببعض، ويؤخذ كلامُه هاهنا وهاهنا، وتُعرف ما عادته (وما) يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به، وتُعرف المعاني التي عُرف أنه أرادها في موضع آخر، فإذا عُرف عُرْفه وعادتُه في معانيه وألفاظه، كان هذا مما يُستعان به على معرفة مراده. وأما إذا استُعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه، وتُرك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه، وحُمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عُرف أنه يريده بذلك اللفظ، بجعلِ كلامه متناقضا، وتركِ حمله على ما يناسب سائر كلامه، كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه، وتبديلا لمقاصده، وكذبا عليه) .
(9) تصريحه بأنه لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح:
قال: (وذلك لأن أصل الإيمان هو ما في القلب، والأعمال الظاهرة لازمة لذلك، لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب، فصار الإيمان متناولا للملزوم واللازم وإن كان أصله ما في القلب) .
قلت: فإذا عدمت أعمال الجوارح بالكلية، لم يتصور وجود الإيمان الواجب في القلب.
وعلى فرض أن شيخ الإسلام يريد بالإيمان الواجب هنا ما زاد على أصل الإيمان الصحيح المجزئ، فإنه يسقط الاستشهاد به، لكنه لا ينافي عباراته الماضية التي يصرح فيها بأنه لم يبق في القلب إيمان، بل الكفر والزندقة، لأنا نقول: ترك العمل الظاهر بالكلية دليل على عدم وجود الإيمان القلبي الصحيح، وعلى عدم وجود ما زاد على الصحيح من باب أولى.
(10) تصريحه بأن ترك الواجبات الظاهرة دليل على انتفاء الإيمان الواجب من القلب:
قال: (فالسلف يقولون: ترك الواجبات الظاهرة، دليل على انتفاء الإيمان الواجب من القلب، لكن قد يكون ذلك بزوال عمل القلب، الذي هو حب الله ورسوله، وخشية الله، ونحو ذلك، لا يستلزم ألا يكون في القلب من التصديق شيء.
وعند هؤلاء كل من نفى الشرع إيمانه دلّ على أنه ليس في قلبه شيء من التصديق أصلا، وهذا سفسطة عند جماهير العقلاء) .
قلت: الإيمان الواجب هنا، هو الإيمان الصحيح المجزئ، بدليل قوله: (لكن قد يكون ذلك بزوال عمل القلب... لا يستلزم ألا يكون في القلب من التصديق شيء).
وسياق الكلام يفيد بأن شيخ الإسلام يسلم للمخالف بأن إيمان القلب يذهب وينتفي، لكن ليس لذهاب التصديق فقط، بل قد يكون بذهاب عمل القلب، وهذا يدل على أن المراد بانتفاء الإيمان الواجب من القلب: انتفاء الإيمان الصحيح المجزئ، المترتب على (زوال عمل القلب).
(11) تصريحه بأنه لابد في الإسلام من الإتيان بأصل الطاعة في الظاهر:
قال: (فإذا قال أحد هؤلاء العالمين الجاحدين الذين ليسوا بمؤمنين: محمد رسول الله، كقول أولئك اليهود وغيرهم، فهذا خبر محض مطابق لعلمهم الذي قال الله فيه: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]، لكن كما لا ينفعهم مجرد العلم، لا ينفعهم مجرد الخبر، بل لابد أن يقترن بالعلم في الباطن مقتضاه من العمل الذي هو المحبة والتعظيم والانقياد ونحو ذلك، كما أنه لابد أن يقترن بالخبر الظاهر مقتضاه من الاستسلام والانقياد وأصل الطاعة) .
وهذا كما ترى صريح في اشتراط أربعة أمور، هي أركان الحقيقة المركبة، قول القلب وعمله، وقول اللسان وأصل عمل الجوارح، وسماه هنا: أصل الطاعة، وبين أنه لا ينفع الكافر وجود التصديق مع قول اللسان، ما لم يقترن التصديق بالعمل الباطن، ويقترن قول اللسان بالعمل الظاهر، وفي هذا أبلغ رد على من زعم أن التلازم بين الظاهر والباطن إنما هو في الإيمان المطلق أو الكامل لا في أصل الإيمان.
15- الإمام ابن القيم رحمه الله، ت:751هـ
(1) تصريحه بأن تخلف العمل الظاهر دليل على فساد الباطن.
قال: (الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له وإن حقن به الدماء وعصم به المال والذرية.
ولا يجزئ باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك، فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان.
ونقصه دليل نقصه.
وقوته دليل قوته. فالإيمان قلب الإسلام ولبه، واليقين قلب الإيمان ولبه. وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوةً فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول) .
وقال: (فكل إسلام ظاهر لا ينفذ صاحبه منه إلى حقيقة الإيمان الباطنة، فليس بنافع، حتى يكون معه شيء من الإيمان الباطن.
وكل حقيقة باطنة لا يقوم صاحبها بشرائع الإسلام الظاهرة، لا تنفع ولو كانت ما كانت، فلو تمزق القلب بالمحبة والخوف، ولم يتعبد بالأمر وظاهر الشرع، لم ينجه ذلك من النار، كما أنه لو قام بظواهر الإسلام وليس في باطنه حقيقة الإيمان لم ينجه من النار) .
(2) تصريحه بأن من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية:
قال: (على أنا نقول: لا يصر على ترك الصلاة إصرارا مستمرا من يصدّق بأن الله أمر بها أصلا، فإنه يستحيل في العادة والطبيعة أن يكون الرجل مصدقا تصديقا جازما أن الله فرض عليه كل يوم وليلة خمس صلوات، وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب، وهو مع ذلك مصر على تركها، هذا من المستحيل قطعا، فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبدا، فإن الإيمان يأمر صاحبه بها، فحيث لم يكن في قلبه ما يأمر بها فليس في قلبه شيء من الإيمان، ولا تصغ إلى كلام من ليس له خبرة ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها. وتأمل في الطبيعة بأن يقوم بقلب العبد إيمان بالوعد والوعيد، والجنة والنار، وأن الله فرض عليه الصلاة، وأن الله يعاقبه معاقبة على تركها، وهو محافظ على الترك، في صحته وعافيته، وعدم الموانع المانعة له من الفعل، وهذا القدر هو الذي خفي على من جعل الإيمان مجرد التصديق، وإن لم يقارنه فعل واجب ولا ترك محرم، وهذا من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية...) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
3) تصريحه بأن التصديق لا يصح إلا بالعمل:
قال: (فالتصديق إنما يتم بأمرين: أحدهما اعتقاد الصدق، والثاني محبة القلب وانقياده، ولهذا قال تعالى لإبراهيم: {يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104-105]، وإبراهيم كان معتقداً لصدق رؤياه من حين رآها، فإن رؤيا الأنبياء وحي، وإنما جعله مصدقاً لها بعد أن فعل ما أمر به، وكذلك قوله‌: ((وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ)) ، فجعل التصديق عمل الفرج ما يتمنى القلب، والتكذيب تركه لذلك، وهذا صريح في أن التصديق لا يصح إلا بالعمل. وقال الحسن: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.
وقد روي هذا مرفوعاً، والمقصود أنه يمتنع مع التصديق الجازم بوجوب الصلاة، (و)الوعد على فعلها والوعيد على تركها. وبالله التوفيق) .
وقال رحمه الله: (وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب، فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، ولا سيما إذا كان ملزوماً لعدم محبة القلب وانقياده، الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم، كما تقدم تقريره؛ فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح؛ إذ لو أطاع القلب وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة وهو حقيقة الإيمان. فإن الإيمان ليس مجرد التصديق..... وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد، وهكذا الهُدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبينه، بل هو معرفته المستلزمة لاتباعه والعمل بموجبه، وإن سمي الأول هدى، فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء، كما أن اعتقاد التصديق وإن سمي تصديقاً فليس هو التصديق المستلزم للإيمان. فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته) .
16- الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، ت: 1206هـ
قال: (اعلم رحمك الله أن دين الله يكون على القلب بالاعتقاد، وبالحب وبالبغض، ويكون على اللسان بالنطق وترك النطق بالكفر، ويكون على الجوارح بفعل أركان الإسلام، وترك الأفعال التي تكفر، فإذا اختل واحدة من هذه الثلاث كفر وارتد) .
17- الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي، ت: 1376هـ
قال: فائدة (الإيمان يشمل عقائد الدين وأعمال القلوب والجوارح) توضيح أن الإيمان يشمل عقائد الدين، وأعمال القلوب، وأعمال الجوارح، كما دل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه السلف الصالح، وبيان ارتباط بعضها ببعض: وذلك أن العبد إذا سمع النصوص من الكتاب والسنة، الدالة على صفات الله إثباتا ونفيا، وعلى تصديق رسوله، وعلى الإخبار بكل الغيوب، وعلى الأمر بالخير والنهي عن الشر، فإنه يفهمها أولا، فإذا فهمها وعرفها، اعترف القلب بها، وصدقها تصديقا لا ريب فيه، تصديقا لله ولرسوله، وذلك يقتضي محبتها، والتقرب إلى الله باعتقاد ما دلت عليه، والجزم بأنه الحق النافع، فإذا عرف الله ورسوله وأحبه، أحب كل ما يقرب إلى الله، وكره كل ما يبغضه ويمقته، وحينئذ ينقاد القلب انقيادا جازما لطاعة الله وطاعة رسوله، فيقصد ويريد فعل ما يقدر عليه من محبوبات الله، من واجب ومستحب قصدا جازما، يترتب عليه وجود ما قصده وأراده، ويقصد اجتناب ما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله قصدا جازما، يقترن به الترك، وهذا هو معنى قوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنا} [آل عمران:193]، وقول المؤمنين: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285]، ومنّة الله عليهم بقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7] الآية، فتبين أن هذه الأمور: التصديق، والاعتراف، والحب، والانقياد، ووجود مُقتضَى هذا الانقياد، متلازمة، مرتبط بعضها ببعض، إذا تم واحد منها وكمل، عُلم أن جميعها قد كملت، وإذا انتفى واحد منها بالكلية: عُلم أن جميعها انتفت، وإذا نقص واحد منها فلنقصٍ في بقيتها، فافهم هذا الإيضاح في بيان الإيمان، ولهذا مثل الله الإيمان بالشجرة في وجودها، وكمالها، ونقصها، على هذا الوصف الذي ذكرنا، والله أعلم) .
وهذا صريح في إثبات التلازم والارتباط بين أجزاء الإيمان، وأنه إذا انتفى عمل الجوارح بالكلية عُلم انتفاء بقية الأجزاء، وكذا لو انتفى التصديق، أو انتفى عمل القلب.
وقال في تفسير قوله تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36] (أي جمعوا بين الإيمان الصحيح، المستلزم لأعمال الإيمان الظاهرة والباطنة، وبين التوكل، الذي هو الآلة لكل عمل، فكل عمل لا يصحبه التوكل، فغير تام) .
وقال: (وقد يعطف الله على الإيمان الأعمال الصالحة، أو التقوى، أو الصبر، للحاجة إلى ذكر المعطوف؛ لئلا يظن الظان أن الإيمان يكتفى فيه بما في القلب. فكم في القرآن من قوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ} ثم يذكر خبرا عنهم. والأعمال الصالحات من الإيمان، ومن لوازم الإيمان، وهي التي يتحقق بها الإيمان. فمن ادعى أنه مؤمن، وهو لم يعمل بما أمر الله به ورسوله من الواجبات، ومن ترك المحرمات، فليس بصادق في إيمانه) .
18- الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي، ت:1377هـ
قال: (ومحال أن ينتفي انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت عمل القلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ)) . ومن هنا يتبين لك أن من قال من أهل السنة في الإيمان هو التصديق على ظاهر اللغة؛ أنهم إنما عنوا التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد ظاهراً وباطناً، لم يعنوا مجرد التصديق) .
19- الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ت:1389هـ
قال: (فدل على أن مجرد قول لا إله إلا الله لا يمنع من التكفير، بل يقولها ناس كثير ويكونون كفارا: إما لعدم العلمِ بها، أو العملِ بها، أو وجود ما ينافيها، فلابد مع النطق بها من أشياء أخر، أكبرها معرفة معناها والعمل به) .
20- الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، ت: 1420هـ
وقد زعم البعض أنه يرى مسألة ترك عمل الجوارح بالكلية، مسألةً خلافية بين أهل السنة، وهذا زعم باطل، فالشيخ: يجزم بأن العمل ركن في الإيمان، وأن القول بأنه شرط كمال قول المرجئة، لا قول أهل السنة، ويرى أنه لا يتصور وجود الإيمان مع ترك جميع العمل، وتولى التحذير من القول المخالف الذي يحكم بإسلام تارك العمل بالكلية، وقرظ وأقرّ ما فيه التصريح بأن ترك جميع العمل كفر. وإليك البيان من ثمانية أوجه:
الأول: أن الشيخ صرح في حوار أجرته معه مجلة المشكاة بأن مقولة: "العمل شرط كمال" هي مقولة المرجئة، وهذا نص الحوار:
(المشكاة: ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح عندما تكلم على مسألة الإيمان والعمل، وهل هو داخل في المسمى، ذكر أنه شرط كمال، قال الحافظ (السلف قالوا....).
الشيخ ابن باز: لا، هو جزء، ما هو بشرط، هو جزء من الإيمان، الإيمان قول وعلم وعقيدة أي تصديق، والإيمان يتكون من القول والعمل والتصديق عند أهل السنة والجماعة.
المشكاة: هناك من يقول بأنه داخل في الإيمان لكنه شرط كمال؟
الشيخ: لا، لا، ما هو بشرط كمال، جزء، جزء من الإيمان. هذا قول المرجئة، المرجئة يرون الإيمان قول وتصديق فقط، والآخرون يقولون: المعرفة. وبعضهم يقول: التصديق. وكل هذا غلط.
الصواب عند أهل السنة أن الإيمان قول وعمل وعقيدة، كما في الواسطية، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
المشكاة: المقصود بالعمل جنس العمل؟
الشيخ: من صلاة وصوم وغيره. عمل القلب من خوف ورجاء.
المشكاة: يذكرون أنكم لم تعلقوا على هذا في أول الفتح؟
الشيخ: ما أدري، تعليقنا قبل أربعين سنة، قبل أن نذهب إلى المدينة، ونحن ذهبنا للمدينة في سنة 1381 هـ، وسجلنا تصحيحات الفتح أظن في 1377هـ أو 87 (لعلها 78) أي تقريبا قبل أربعين سنة. ما أذكر يمكن مرّ ولم نفطن له) .
الثاني: أن الشيخ حذر من كتاب (ضبط الضوابط في الإيمان ونواقضه)، واعتبر كتابه داعيا لمذهب الإرجاء المذموم وأنه لا يعتبر الأعمال الظاهرة في حقيقة الإيمان.
والكتاب المحذَّر منه يرى أن عمل الجوارح شرط كمال في الإيمان، وأن تاركه بالكلية مسلم عاص معرض للوعيد. ولو كان الشيخ يراها مسألة خلافية لما حذر من كتابه ولما وصفه بالإرجاء.
الثالث: أن الشيخ أقر ما تعقب به الشيخ علي بن عبد العزيز الشبل كلام الحافظ ابن حجر، وذلك في كتابه: (التنبيه على المخالفات العقدية في الفتح)(ص28)
قال المؤلف: (الصواب أن الأعمال عند السلف الصالح قد تكون شرطا في صحة الإيمان، أي أنها من حقيقة الإيمان، قد ينتفي الإيمان بانتفائها كالصلاة. وقد تكون شرطا في كماله الواجب فينقص الإيمان بانتفائها كبقية الأعمال التي تركها فسق ومعصية وليس كفرا، فهذا التفصيل لابد منه لفهم قول السلف الصالح وعدم خلطه بقول الوعيدية. مع أن العمل عند أهل السنة والجماعة ركن من أركان الإيمان الثلاثة: قول وعمل واعتقاد، والإيمان عندهم يزيد وينقص خلافا للخوارج والمعتزلة، والله ولي التوفيق) .
الرابع: أن الشيخ قد أقر ما هو أبلغ من ذلك وأظهر في نقد كلام ابن حجر وبيان معتقد أهل السنة، وذلك بإقراره ما كتبه الشيخ علوي بن عبد القادر السقاف في كتابه: (التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد)، حيث علق المؤلف في الهامش بقوله: (وكلامه هذا عليه مآخذ أهمها نسبته القول بأن الأعمال شرط في كمال الإيمان للسلف، وهو على إطلاقه غير صحيح، بل في ذلك تفصيل:
فالأعمال المكفرة سواء كانت تركا، كترك جنس العمل أو الشهادتين أو الصلاة، أو كانت فعلا كالسجود لصنم أو الذبح لغير الله، فهي شرط في صحة الإيمان، وما كان ذنبا دون الكفر فشرط كمال. وإنما أوردت كلامه هنا لحُكمه بالكفر على من فعل فعلا يدل على كفره كالسجود لصنم دون أن يقيده بالاعتقاد. على أن هذه العبارة فيها نظر أيضا، فالسجود لصنم كفر بمجرده وليس فعلا يدل على الكفر) .
وقد أثنى الشيخ على الكتاب وقال: (فألفيتها رسالة قيمة مفيدة يحسن طبعها ونشرها ليستفيد منها المسلمون).
الخامس: أن الشيخ قرظ كتاب (درء الفتنة عن أهل السنة) للشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد حفظه الله، وقد جاء في الكتاب: (وإياك ثم إياك- أيها المسلم- أن تغتر بما فاه به بعض الناس من التهوين بواحد من هذه الأسس الخمسة لحقيقة الإيمان، لا سيما ما تلقفوه عن الجهمية وغلاة المرجئة من أن العمل كمالي في حقيقة الإيمان ليس ركنا فيه، وهذا إعراض عن المحكم من كتاب الله تعالى في نحو ستين موضعا، مثل قول الله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]، ونحوها في السنة كثير، وخرق لإجماع الصحابة ومن تبعهم بإحسان) .
والأسس الخمسة المشار إليها هي أن الإيمان: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
قال الشيخ ابن باز في تقريظه: (أما بعد: فقد اطلعت على هذه الرسالة الموسومة بـ(درء الفتنة عن أهل السنة) من مؤلفات أخينا العلامة الدكتور بكر بن عبدالله أبو زيد، فألفيتها رسالة قيمة مفيدة جديرة بالنشر والتوزيع. جزى الله مؤلفها خيرا وضاعف مثوبته ونصر به الحق، إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه) .
السادس: أن الشيخ يرى كفر من ترك عمل الجوارح بالكلية، وهذا يعلم من: تصريحه بكفر تارك الصلاة، فتارك الصلاة وما معها من أعمال الجوارح لا شك في كفره عند الشيخ، من باب أولى.
وليست المسألة راجعة إلى قضية الصلاة، حتى يدعى الخلاف فيها، بناء على الخلاف المشهور في حكم تارك الصلاة، بل جميع أهل السنة يرون ركنية العمل وضرورة وجوده ليصح الإيمان، سواء قالوا بكفر تارك الصلاة أو نازعوا في ذلك. يوضحه الوجه:
السابع: أن الشيخ أجاب أحد طلابه بجوابٍ فصلٍ في هذه المسألة، مبيناً الفرق بين ترك آحاد الأعمال، وتركِ العمل جملة، وأن أهل السنة متفقون على أن جنس العمل لابد منه لصحة الإيمان.
قال الأخ عبد العزيز بن فيصل الراجحي حفظه الله: (وقد سألت شيخنا الإمام ابن باز عام(1415هـ) وكنا في أحد دروسه عن الأعمال: أهـي شـرط صحـة للإيمان، أم شرط كمال؟
فقال: من الأعمال شرط صحة للإيمان لا يصح الإيمان إلا بها كالصلاة، فمن تركها فقد كفر. ومنها ما هو شرط كمال يصـح الإيمـان بدونها، مع عصيان تاركها وإثمه .
فقلت له: من لم يكفر تارك الصلاة من السلف، أيكون العمل عنده شرط كمال؟ أم شرط صحة؟
فقال: لا، بل العمل عند الجميع شرط صحة، إلا أنهم اختلفوا فيما يصح الإيمان به منه؛ فقالت جماعة: إنه الصـلاة، وعليـه إجماع الصحابـة كما حكاه عبدالله بن شقيق. وقال آخرون بغيرها. إلا أن جنس العمل لابد منه لصحة الإيمان عند السلف جميعاً. لهذا الإيمان عندهم: قول وعمل واعتقاد، لا يصح إلا بها مجتمعة) .
الثامن: أن الشيخ ابن باز سئل ما نصه: من شهد أن لا إله إلا الله واعتقد بقلبه ولكن ترك جميع الأعمال، هل يكون مسلماً؟
فأجاب: (لا، ما يكون مسلماً حتى يوحد الله بعمله، يوحد الله بخوفه ورجاءه، ومحبته، والصلاة، ويؤمن أن الله أوجب كـذا وحـرم كـذا. ولا يتصـور، مـا يتصـوّر أن الإنسـان المسلم يؤمن بالله يترك جميع الأعمال، هذا التقدير لا أساس لـه. لا يمكــن يتصـور أن يقـع مـن أحـد. نعم؛ لأن الإيمان يحفزه إلى العمل. الإيمان الصادق) .
تعليق: مع وضوح كلام الشيخ وكثرته في بيان هذه المسألة، إلا أن المخالف أعرض عنه، وتمسك بكلامه في حكاية خلاف أهل السنة في حكم تارك الصلاة، أو تارك المباني الأربعة، وهذا خارج عن محل النزاع، فكلامنا في ترك العمل الظاهر بالكلية، لا في ترك بعض الأعمال.
ومن ذلك استشهادهم بحوار أجرته مجلة الفرقان مع الشيخ، جاء فيه: (س: العلماء الذين قالوا بعدم كفر من ترك أعمال الجوارح مع تلفظه بالشهادتين ووجود أصل الإيمان القلبي هل هم من المرجئة؟
فقال الشيخ: هذا من أهل السنة والجماعة، فمن ترك الصيام أو الزكاة أو الحج لا شك أن ذلك كبيرة عند العلماء، ولكن على الصواب لا يكفر كفراً أكبر، أما تارك الصلاة، فالأرجح أنه كافر كفراً أكبر إذا تعمد تركها، وأما تارك الزكاة والصيام والحج فإنه كفر دون كفر.
السائل: أعمال الجوارح هل هي شرط كمال أم شرط صحة الإيمان؟
الشيخ: إن أعمال الجوارح كالصوم هي من كمال الإيمان والصدقة والزكاة من كمال الإيمان وتركها ضعف في الإيمان، أما الصلاة فالصواب أن تركها كفر، فالإنسان عندما يأتي بالأعمال الصالحة فإن ذلك من كمال الإيمان) انتهى.
قلت: هذا أعلى ما استشهدوا به من كلام الشيخ رحمه الله في هذه المسألة، ولا معارضة بينه وبين ما نقلته عنه، فكلامه هنا عن ترك آحاد العمل، كالصيام أو الزكاة أو الحج، أو الصلاة، والخلاف فيها معتبر بين أهل السنة، ولم يتحدث الشيخ عن ترك جميع العمل، وإن كان السائل أراد هذا، لكن لا يخفى أن عبارة: (ترك أعمال الجوارح) تحتمل الترك الكلي، وتحتمل ترك البعض، والشيخ على كل تقدير، أجاب عن ترك البعض.
وأما ما نقلته عنه فهو صريح في الترك الكلي، وفي الحكم على القول المخالف بأنه قول المرجئة، فلا يَترك هذا، ويتمسك بما هو خارج عن محل النزاع، من يريد الحق وينشده، والموفق من وفقه الله.
21- الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ت: 1420هـ
قال: (إن الإيمان بدون عمل لا يفيد؛ فالله حينما يذكر الإيمان يذكره مقرونًا بالعمل الصالح؛ لأننا لا نتصور إيمانًا بدون عمل صالح، إلا أن نتخيله خيالا؛ آمن من هنا، قال: أشهد ألا إله إلا الله ومحمد رسول الله، ومات من هنا. هذا نستطيع أن نتصوره، لكن إنسان يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ ويعيش دهره مما شاء الله ولا يعمل صالحًا؛ فعدم عمله الصالح هو دليل أنه يقولها بلسانه، ولم يدخل الإيمان إلى قلبه؛ فذكر الأعمال الصالحة بعد الإيمان ليدل على أن الإيمان النافع هو الذي يكون مقرونًا بالعمل الصالح) .
22- الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، ت: 1421هـ
وكلامه في هذه المسألة مستفيض، ومذهبه واضح بيّن، لا يشتبه على من قرأ كلامه، وقد سقت منه اثني عشر موضعا:
(1) قال في شرح (كشف الشبهات): (ختم المؤلف هذه الشبهات بمسألة عظيمة هي: أنها لابد أن يكون الإنسان موحدا بقلبه، وقوله، وعمله، فإن كان موحدا بقلبه، ولكنه لم يوحد بقوله أو بعمله فإنه غير صادق في دعواه؛ لأن توحيد القلب يتبعه توحيد القول والعمل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ)) ، فإذا وحد الله كمـا زعــم بقلبــه ولكنــه لم يوحده بقوله أو فعله؛ فإنه من جنس فرعون الذي كان مستيقناً بالحق عالماً، لكنه أصر وعاند وبقي على ما كان عليه من دعوى الربوبية) .
وسئل: عفا الله عنك يا شيخ، ورد عن بعض السلف في حديث أنه من شهد بالتوحيد دخل الجنة أنه منسوخ بأحاديث الفرائض، فهل هذا قول صحيح؟
فأجاب: (الصحيح أنه لا نسخ بهذا، ولكن ليكن معلوما أن من شهد بالتوحيد مخلصا، فلا يمكن أن يدع الفرائض؛ لأن إخلاصه يحمله على أن يفعل. كيف تشهد ألا إله إلا الله، أي لا معبود بحق إلا الله، وكيف تقول: أنا أريد بذلك وجه الله، ثم لا تعمل العمل الذي يوصلك إلى الله؟! فهذا لا يمكن، ولهذا كان من حافظ على ترك الصلاة ولم يصل أبدا كافر، فلو قال: أشهد ألا إله إلا الله وأومن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولكن لا أصلي، نقول: أنت كافر، لا فرق بينك وبين الذي يسجد للصنم؛ ولهذا جاء في رواية مسلم من حديث جابر: ((بَيْن الرَّجل وَبَيْن الكُفر وَالشِّرْكِ ترْكُ الصَّلاةِ))) .
(3) وقال في شرح حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه: ((فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ)) : (قوله: ((مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ)) أي بشرط الإخلاص، بدليل قوله: ((يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ)) أي: يطلب وجه الله، ومن طلب وجها، فلابد أن يعمل كل ما في وسعه للوصول إليه؛ لأن مبتغي الشيء يسعى في الوصول إليه، وعليه فلا نحتاج إلى قول الزهري بعد أن ساق الحديث، كما في (صحيح مسلم) حيث قال: ثم وجبت بعد ذلك أمور، وحرمت أمور؛ فلا يغتر مغتر بهذا. فالحديث واضح الدلالة على شرطية العمل لمن قال لا إله إلا الله، حيث قال: ((يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ))، ولهذا قال بعض السلف عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مفتاح الجنة لا إله إلا الله)) : لكن من أتى بمفتاح لا أسنان له لا يفتح له) .
(4) وقال: (وترك الصلاة كفر مخرج عن الملة إذا تركها الإنسان ولم يصل، لأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، وقد حكى بعض أهل العلم إجماع الصحابة على ذلك، ولا شك أن الذي لا يصلي ليس في قلبه إيمان؛ لأن الإيمان مقتضٍ لفعل الطاعة، وأعظم الطاعات البدنية الصلاة، فإذا تركها فهو دليل أنه ليس في قلبه إيمان، وإن ادعى أنه مؤمن، فإن من كان مؤمناً فإنه بمقتضى هذا الإيمان يكون قائماً بهذه الصلاة العظيمة) .
(5) وسئل رحمه الله: عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: شَفَعَتْ الْمَلائِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلا أَرْحَمُ الراحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ)) رواه مسلم ، ما معنى قوله: ((لم يعملوا خيرا قط))؟
فأجاب: (معنى قوله: ((لم يعملوا خيرا قط)) أنهم ما عملوا أعمالا صالحة، لكن الإيمان قد وقر في قلوبهم، فإما أن يكون هؤلاء قد ماتوا قبل التمكن من العمل، آمنوا ثم ماتوا قبل أن يتمكنوا من العمل، وحينئذ يصدق عليهم أنهم لم يعملوا خيرا قط.
وإما أن يكون هذا الحديث مقيداً بمثل الأحاديث الدالة على أن بعض الأعمال الصالحة تركها كفر كالصلاة مثلا، فإن من لم يصل فهو كافر ولو زعم أنه مؤمن بالله ورسوله، والكافر لا تنفعه شفاعة الشافعين يوم القيامة وهو خالد مخلد في النار أبد الآبدين والعياذ بالله. فالمهم أن هذا الحديث إما أن يكون في قوم آمنوا ولم يتمكنوا من العمل فماتوا فور إيمانهم، فما عملوا خيرا قط.
وإما أن يكون هذا عاما ولكنه يستثنى منه ما دلت النصوص الشرعية على أنه لا بد أن يعمل كالصلاة، فمن لم يصل فهو كافر لا تنفعه الشفاعة ولا يخرج من النار) .
(6) وسئل: كيف التوفيق بين قوله صلى الله عليه وسلم في أقوام يدخلون الجنة ولم يسجدوا لله سجدة، والأحاديث التي جاءت بكفر تارك الصلاة؟
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
(
فأجاب: (يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: إنهم يدخلون الجنة ولم يسجدوا لله سجدة على أناس يجهلون وجوب الصلاة، كما لو كانوا في بلاد بعيدة عن الإسلام، أو في بادية لا تسمع عن الصلاة شيئا. ويحمل أيضا على من ماتوا فور إسلامهم دون أن يسجدوا لله سجدة.
وإنما قلنا ذلك لأن هذا الحديث الذي ذكرت من الأحاديث المتشابهة، وأحاديث كفر تارك الصلاة من الأحاديث المحكمة البينة، والواجب على المؤمن في الاستدلال بالقرآن أو السنة أن يحمل المتشابه على المحكم. واتباع المتشابه واطّراح المحكم طريقة من في قلوبهم زيغ والعياذ بالله، كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَما الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]) .
(7) وسئل: استدل بعض العلماء على عدم كفر تارك الصلاة بحديث الشفاعة الطويل الذي أخرجه البخاري ومسلم... فما قولكم حفظكم الله تعالى؟
فأجاب بقوله: (حديث الشفاعة الذي استدل به من لا يرى كفر تارك الصلاة عام مخصوص بلا ريب، فإنه مخصوص بمن قال لا إله إلا الله وأتى مكفراً، مثل أن يقول: لا إله إلا الله وهو ينكر تحريم الربا، أو فرضية الصلاة ونحو ذلك، لم يخرج من النار بشفاعة ولا غيرها، فكذلك من قال: لا إله إلا الله، وترك الصلاة، فإنه لا يخرج من النار بشفاعة ولا غيرها، لأنه كافر، فأي فرق بين من كفر بجحد فرضية الصلاة مع نطقه بالشهادة، ومن كفر بترك الصلاة مع نطقه بالشهادة؟!! فكما أن الأول لا يدخل في الحديث فكذلك الثاني.
وأيضاً فإن قوله: ((لم يعمل خيراً قط)) عام يدخل فيه من لم يصل؛ لأن الصلاة من الخير، ولكن هذا العموم خُصَّ بالأدلة الدالة على كفر تارك الصلاة، فيخرج تارك الصلاة من عمومه، كما هو الشأن في العمومات المخصوصة) .
(8) وسئل رحمه الله: يوجد قِبَلنا من يقول: الإيمان اعتقاد بالقلب، وتلفظ باللسان، وأصل عمل القلوب
فقال - وهو غاضب-: (أعوذ بالله، هذا قول المرجئة، وهو مذهب قديم معروف) .
(9) وسئل: نرجو توضيح كلام شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: (ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، فالعمل يصدِّق أن في القلب إيمانا، وإذا لم يكن عمل كذّب أن في القلب إيمانا؛ لان ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم.
فأجاب: (كلام الشيخ ظاهر، وهو مروي عن الحسن البصري (أن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال)، وهذا معلوم من قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْب)) ، فمعلوم أن القلب إذا كان فيه إيمان، فلا بد أن تظهر مقتضياته على الجوارح) .
(10) وسئل: شخص قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه مصدقاً بقلبه مستسلماً منقاداً لكنه لم يعمل بجوارحه خيراً قط مع إمكان العمل هل هو داخل في المشيئة أم كافر؟
فأجاب: أقول والحمد لله رب العالمين: (إذا كان لا يصلي فهو كافر، ولو قال لا إله إلا الله. لو كان صادقاً بقول لا إله إلا الله مخلصاً بها والله لن يترك الصلاة، لأن الصلاة صلة بين الإنسان وبين الله فقد جاء في الأدلة من القرآن والسنة والنظر الصحيح وإجماع الصحابة كما حكاه غير واحد على أن تارك الصلاة كافر مخلد في نار جهنم وليس داخلاً تحت المشيئة.
ونحن إذا قلنا بذلك لم نقله عن فراغ ونحن إذا قلنا بذلك فإنما قلناه لأنه من مدلولات كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسـلم وأقـوال الصحابـة الــتي حُكــي إجماعـهم علـيهـا. قـال عبدالله بن شقيق: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة. ونقل إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة الحافظ ابن راهويه وهو إمام مشهور.
أما سائر الأعمال إذا تركها الإنسان كان تحت المشيئة يعني لو لم يزك مثلاً فهذا تحت المشيئة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر عقوبة مانع الزكاة قال: ((ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِما إِلَى الْجَنَّةِ وَإِما إِلَى النارِ)) ومعلوم أنه لو كان كافراً لم يكن له سبيل إلى الجنة. والصيام والحج كذلك من تركها لم يكفر، وهو تحت المشيئة ولكنه يكون أفسق عباد الله) .
قلت: تأمل قوله: (لو كان صادقاً بقول لا إله إلا الله مخلصاً بها والله لن يترك الصلاة) ففيه تقرير للتلازم بين الظاهر والباطن، ورد على من توهم حصول الإيمان في القلب مع تخلف العمل الظاهر جملة. ولهذا لما استقر هذا الوهم صاروا يفترضون مسائل لا يمكن وقوعها، كقولهم هنا: شخص قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه مصدقاً بقلبه مستسلماً منقاداً لكنه لم يعمل بجوارحه خيراً قط مع إمكان العمل! ومعلوم أن القلب لو استسلم وانقاد، لانقادت الجوارح ولابد، فمن جهة عدم إدراك التلازم بين الظاهر والباطن، غلط غالطون، كما قال شيخ الإسلام.
(11) وسئل: كيف نفهم حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم وفيه: ((فَيُخْرِجُ اللَّهُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ)) ؟
فأجاب: (نفهم هذا أنه عام وأن أدلة كفر تارك الصلاة خاصة، ومعلوم عند العلماء أن العام لا يخصص بخاص، لأن هذا الحديث لم يقل: لم يصل، حتى نقول: إنه معارض للنصوص الدالة على كفر تارك الصلاة، بل قال:((لم يعمل خيرا قط)) فلم ينص على الصلاة بل عمم، ونصوص كفر تارك الصلاة خاصة فتخص بما خصصت به) .
(12) وسئل: يقول البعض: إذا ترك عمل الجوارح بالكلية خرج من الإيمان ولكن لا يقتضي عدم انتفاعه بأصل الإيمان والشهادتين، بل ينتفع بهما، كمن أراد الحج ولم يشهد عرفة وهو ركن فإنه ينتفع بالأركان الأخرى، فما قول فضيلتكم في ذلك؟
فأجاب: (نقول هذا ليس بصواب، إنه لن ينتفع بإيمانه مع ترك الصلاة التي دلت النصوص على كفر تاركها، وكذلك لو ترك الوقوف بعرفة، ما صح حجه كما دل على ذلك سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما من أدرك عرفة قبل الفجر يوم النحر فقد أدرك، ومن لا فلا، حتى لو جاء بعد ذلك بالرمي والمبيت في منى والطواف والسعي لم يكن حج) .
تعليق:
المتأمل في كلام الشيخ يرى أنه يسير على منوال واحد، هو تقرير أن عمل الجوارح من الإيمان، وأن تاركه بالكلية كافر، وأنه لو وجد إيمان القلب فلابد أن يظهر مقتضاه على الجوارح، وأن حديث: ((لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ))- وهو أقوى دليل للقائلين بإسلام تارك العمل الظاهر- حديث عام، مخصص بأدلة تكفير تارك الصلاة، أو محمول على حالة من لم يتمكن من العمل.
وبهذا يتضح جليا أنه لا خلاف بين الشيخ وبين أهل العلم الذين حذروا من الكتب الداعية للإرجاء في هذا العصر. غاية الأمر أن الشيخ أعرض عن تعبير: (جنس العمل) وقال حين سئل: (تارك جنس العمل كافر. تارك آحاد العمل ليس بكافر، ما رأيكم في ذلك؟) قال: (من قال هذه القاعدة؟! من قائلها؟! هل قالها محمد رسول الله؟! كلام لا معنى له. نقول: من كفره الله ورسوله فهو كافر، ومن لم يكفره الله ورسوله فليس بكافر هذا الصواب. أما جنس العمل أو نوع العمل أو آحاد العمل فهذا كله طنطنة لا فائدة منها) .
وهذا إعراض عن المصطلح، مع الموافقة على المضمون كما سبق، وهو اجتهاد من الشيخ لفض النزاع وتقليل الخلاف، فإنه قد دعي في هذا اللقاء ليحسم هذه المسألة، وأُخبر أن الخلاف دائر حولها، فرأى المصلحة في صرف المتنازعين عن الألفاظ المجملة، والاعتماد على المناطات الواضحة التي يمكن الركون إليها، فتارك العمل بالكلية، يحكم بكفره لأنه تارك للصلاة، وهذا مجمع عليه بين الصحابة كما أكد الشيخ، فلا مجال للخروج عن إجماعهم، مع تقرير أنه لا يمكن أن يوجد الإيمان في القلب مع ترك عمل الجوارح.
وأيضا: فإن السؤال الذي عُرض على الشيخ، ينم عن جهل، وفتنة بالمصطلح، فقول السائل: (تارك جنس العمل كافر)، يقال فيه: عمل ماذا؟! عمل القلب أم عمل الجوارح أم كلاهما؟! وقوله: (تارك آحاد العمل ليس بكافر)، يقال فيه: أي عمل تريد؟ الصلاة؟ أم الزكاة؟ أم بر الوالدين؟ أم عمل القلب كالخوف والمحبة؟
فلا شك أن هذا السؤال طنطنة، بل عيّ وجهل.
ولله دره، فقد حدث بعده أن اختلف المختلفون في المراد بجنس العمل، فمنهم من قال: المراد به ترك العمل الظاهر كله، ومنهم من قال: بل المراد ترك جنس كل عمل، أي ترك جنس الصلاة، وجنس الزكاة، وجنس بر الوالدين! ولا أحسب سنيا يقول هذا، لكنه من تشنيع المخالف على المخالف.
على أنه قد ورد التعبير بـ(جنس العمل) و(جنس التصديق) في كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، لكنه محفوف بسياق وسباق يزيل عنه اللبس، وقد قدمت في أول هذه المسألة أني أعرضت عن استعمال هذا المصطلح، وآثرت التعبير بما لا لبس فيه، من نحو قولنا: تارك عمل الجوارح كلِّه، أو بالكلية.
23- الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد، رحمه الله:
قال في كتابه: (درء الفتنة عن أهل السنة): (وإياك ثم إياك- أيها المسلم- أن تغتر بما فاه به بعض الناس من التهوين بواحد من هذه الأسس الخمسة لحقيقة الإيمان، لا سيما ما تلقفوه عن الجهمية وغلاة المرجئة من أن العمل كمالي في حقيقة الإيمان ليس ركنا فيه، وهذا إعراض عن المحكم من كتاب الله تعالى في نحو ستين موضعا، مثل قول الله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]، ونحوها في السنة كثير، وخرق لإجماع الصحابة ومن تبعهم بإحسان) .
والأسس الخمسة المشار إليها هي أن الإيمان: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
وشارك الشيخ حفظه الله مع اللجنة الدائمة في التحذير من الكتب الداعية إلى الإرجاء، والزاعمة بأن العمل شرط كمال، وأن تاركه بالكلية مسلم.
الباب الأول: عقيدة أهل السنة في الصحابة، وآل البيت، وموقفهم من العلماء.
الفصل الأول: عقيدة أهل السنة في الصحابة
المبحث الأول: تعريف الصحابي لغة واصطلاحا
المطلب الأول: التعريف اللغوي
الصاد والحاء والباء أصل واحد يدل على مقارنة شيء ومقاربته، ومن ذلك الصاحب، والجمع: الصحب؛ ومن الباب: أصحب فلان: إذا انقاد، وكل شيء لائم شيئاً فقد استصحبه .
ويقال صحبه يصحبه صحبة بالضم، وصحابة بالفتح، وصاحبه:
عاشره، والصاحب: المعاشر، والجمع: أصحاب، والصحابة بالفتح: الأصحاب ؛ ويقال: استصحبه: أي دعاه إلى الصحبة ولازمه ؛ وأصحب البعير والدابة: أي: انقادا، وأصحبت الناقة: أي: انقادت واسترسلت وتبعت صاحبها .
(ولا خلاف بين أهل اللغة في أن القول (صحابي) مشتق من الصحبة، وأنه ليس مشتقاً من قدر منها مخصوص، بل هو جار على من صحب غيره قليلاً أو كثيراً، كما أن القول: مكلم، ومخاطب، وضارب مشتق من المكالمة، والمخاطبة، والضرب، وجار على كل من وقع منه ذلك قليلاً أو كثيراً؛ وكذلك جميع الأسماء المشتقة من الأفعال، وكذلك يقال: صحبت فلاناً حولاً ودهراً وسنةً وشهراً ويوماً وساعةً، فيوقع اسم المصاحبة بقليل ما يقع منها وكثيره، وذلك يوجب في حكم اللغة إجراء هذا على من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة من نهار، هذا هو الأصل في اشتقاق الاسم) .
وهذا يعني أن الصحبة في اللغة لا يشترط في إطلاقها أن تكون الملازمة بين الشيئين طويلة، بل يصح إطلاقها على كل من صحب غيره مهما كان مقدار الصحبة، لذلك قال السخاوي: (الصحابي لغة: يقع على من صحب أقل ما يطلق عليه اسم صحبة فضلاً عمن طالت صحبته وكثرت مجالسته) .
المطلب الثاني: التعريف الاصطلاحي
قال ابن حجر: وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ومات على الإسلام؛ فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو، ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى.
ويخرج بقيد الإيمان من لقيه كافراً ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة أخرى. وقولنا: (به) يخرج من لقيه مؤمناً بغيره، كمن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة. وهل يدخل من لقيه منهم وآمن بأنه سيبعث أو لا يدخل؟ محل احتمال. ومن هؤلاء بحيرا الراهب ونظراؤه.
ويدخل في قولنا: (مؤمناً به) كل مكلف من الجن والإنس؛ فحينئذ يتعين ذكر من حفظ ذكره من الجن الذين آمنوا به بالشرط المذكور، وأما إنكار ابن الأثير على أبي موسى تخريجه لبعض الجن الذين عرفوا في كتاب الصحابة فليس بمنكر لما ذكرته. وقد قال ابن حزم في كتاب الأقضية من (المحلى): من ادعى الإجماع فقد كذب على الأمة؛ فإن الله تعالى قد أعلمنا أن نفرا من الجن آمنوا وسمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهم صحابة فضلاء؛ فمن أين للمدعي إجماع أولئك؟ وهذا الذي ذكره في مسألة الإجماع لا نوافقه عليه؛ وإنما أردت نقل كلامه في كونهم صحابة. وهل تدخل الملائكة؟ محل نظر؛ قد قال بعضهم: إن ذلك ينبني على أنه هل كان مبعوثا إليهم أو لا؟ وقد نقل الإمام فخر الدين في
(أسرار التنزيل) الإجماع على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مرسلا إلى الملائكة. ونوزع في هذا النقل؛ بل رجح الشيخ تقي الدين السبكي أنه كان مرسلاً إليهم. واحتج بأشياء يطول شرحها. وفي صحة بناء هذه المسألة على هذا الأصل نظر لا يخفى.
وخرج بقولنا: (ومات على الإسلام) من لقيه مؤمنا به ثم ارتد، ومات على ردته والعياذ بالله. وقد وجد من ذلك عدد يسير؛ كعبيد الله بن جحش الذي كان زوج أم حبيبة؛ فإنه أسلم معها، وهاجر إلى الحبشة، فتنصر هو ومات على نصرانيته . وكعبد الله بن خطل الذي قتل وهو متعلق بأستار الكعبة ، وكربيعة بن أمية بن خلف على ما سأشرح خبره في ترجمته في القسم الرابع من حرف الراء. ويدخل فيه من ارتد وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت، سواء اجتمع به صلى الله عليه وسلم مرة أخرى أم لا؛ وهذا هو الصحيح المعتمد. والشق الأول لا خلاف في دخوله وأبدى بعضهم في الشق الثاني احتمالا؛ وهو مردود لإطباق أهل الحديث على عد الأشعث بن قيس في الصحابة، وعلى تخريج أحاديثه في الصحاح والمسانيد؛ وهو ممن ارتد ثم عاد إلى الإسلام في خلافة أبي بكر . وهذا التعريف مبني على الأصح المختار عند المحققين؛ كالبخاري، وشيخه أحمد بن حنبل، ومن تبعهما؛ ووراء ذلك أقوال أخرى شاذة: كقول من قال: لا يعد صحابيا إلا من وصف بأحد أوصاف أربعة: من طالت مجالسته، أو حفظت روايته، أو ضبط أنه غزا معه، أو استشهد بين يديه؛ وكذا من اشترط في صحة الصحبة بلوغ الحلم، أو المجالسة ولو قصرت. وأطلق جماعة أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي. وهو محمول على من بلغ سن التمييز؛ إذ من لم يميز لا تصح نسبة الرؤية إليه. نعم يصدق إن النبي صلى الله عليه وسلم رآه فيكون صحابيا من هذه الحيثية، ومن حيث الرواية يكون تابعيا؛ وهل يدخل من رآه ميتا قبل أن يدفن كما وقع ذلك لأبي ذؤيب الهذلي الشاعر؟ إن صح محل نظر. والراجح عدم الدخول
المبحث الثاني: طرق إثبات الصحبة
المطلب الأول: إثبات الصحبة بالنص
النوع الأول: القرآن الكريم
وذلك مثل قوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا...} [التوبة: 40] الآية.
فهذا النص يثبت صحبة سيدنا أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – حيث استقر الإجماع على أن المعني بالصاحب في هذه الآية هو أبو بكر، كما ذكر ذلك الإمام الرازي في تفسيره ، ولذلك قال العلماء: من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر، لإنكاره كلام الله تعالى، وليس ذلك لسائر الصحابة، ذكر ذلك أبو حيان في (البحر المحيط) ، والطوفي في (الإكسير)
النوع الثاني: الخبر المتواتر
وذلك كما في صحبة العشرة المبشرين بالجنة، فقد تواترت الأخبار بثبوت صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهم الذين ورد ذكرهم في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص، في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة)) . ومثلهم في ثبوت صحبتهم، كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمثال عبادة بن الصامت، الذي حضر بيعة العقبة الأولى والثانية رضي الله عنه.
النوع الثالث: الخبر المشهور
كما في صحبة عكاشة بن محصن، وضمام بن ثعلبة، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وأبي سعيد الخدري، وأبي موسى الأشعري، فهؤلاء ومن على شاكلتهم، لا يكاد يرتاب مسلم في ثبوت صحبتهم للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وتمتعهم بالإيمان به، والأخذ عنه، والاستضاءة بنوره
النوع الرابع: الخبر الآحاد: ويدخل تحته أربع طرق
أ- رواية أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الرؤية أو السماع، مع معاصرته للنبي صلى الله عليه وسلم، كأن يقول أحد التابعين: أخبرني فلان أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول، أو رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل كذا، كقول الزهري فيما رواه البخاري في فتح مكة من صحيحه:
أخبرني سنين أبو جميلة، ونحن مع ابن المسيب قال: (وزعم أبو جميلة أنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وخرج معه عام الفتح) .
فإن ذلك طريق من طرق إثبات صحبة ذلك الراوي، كما يدل على ذلك كلام ابن كثير في كتابه (الباعث الحثيث) حيث قال وهو يبين طرق إثبات الصحبة:
وتارة بروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم سماعاً، أو مشاهدة مع المعاصرة ، وكلام السخاوي كما في (فتح المغيث) .
ب- إخبار الصحابي عن نفسه أنه صحابي:
وقد افترق العلماء إزاء هذا الطريق إلى أربعة مذاهب:
المذهب الأول:
أنه يقبل قوله: إني صحابي مطلقاً من غير شرط، وجرى على ذلك ابن عبد البر فيما نقله عنه السخاوي في (فتح المغيث) حيث قال: (إن ابن عبد البر قد جزم بالقبول من غير شرط، بناء على أن الظاهر سلامته من الجرح، وقوي ذلك بتصرف أئمة الحديث في تخريجهم أحاديث هذا الضرب في مسانيدهم) .
المذهب الثاني:
أنه يقبل قوله بشرطين:
الأول: أن يكون ذلك بعد ثبوت عدالته.
الثاني: أن يكون بعد ثبوت معاصرته للنبي صلى الله عليه وسلم.
وممن ذهب إلى ذلك وجزم بقبول قوله: جمهور علماء الأصول والحديث.
ومنهم: ابن النجار حيث قال في (شرح الكوكب المنير):
(فلو قال معاصر عدل: أنا صحابي، قبل عند أصحابنا والجمهور) .
وابن اللحام حيث قال في (المختصر):
(فلو قال معاصر عدل: أنا صحابي، قبل عند الأكثر) .
وأبو الحسين البصري المعتزلي، كما في كتابه (المعتمد) .
والإمام السبكي كما في (جمع الجوامع) .
والإمام العراقي كما في (ألفيته) ، والحافظ ابن حجر كما في (الإصابة) ، والإمام السخاوي كما في (فتح المغيث) ، والإمام ابن الصلاح كما في (مقدمته) ، والنووي كما في (تقريبه) ، وزكريا الأنصاري كما في (فتح الباقي) ، وممن ذهب إلى ذلك الإمام الباقلاني كما نقل ذلك عنه السبكي والشوكاني ، غير أنه اشترط صحة ثبوت صحبته بقوله إني صحابي أن لا يروى عن غيره ما يعارض صحبته – كما نقل ذلك عنه الشوكاني في (إرشاد الفحول) .
والعلة في صحة قبول إخباره عن نفسه أنه صحابي، لأنه لو أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قبلنا روايته عنه، فلأن نقبل خبره عن نفسه بأنه صحابي من باب أولى.
وقد أشار إلى هذا التعليل ابن النجار حيث قال:
(إنه قول ثقة مقبول القول، فقبل في ذلك كروايته) .
والمعاصرة التي اشترطوها في إثبات الصحبة هي:
المعاصرة الممكنة شرعاً، وإنما تكون المعاصرة للنبي صلى الله عليه وسلم ممكنة شرعاً، إذا ادعى الصحبة في حدود مائة وعشر سنين من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة - كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه (الإصابة) -، وذلك لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في آخر حياته لأصحابه:
((أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد)) .
وفي حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم: أن ذلك كان قبل موته صلى الله عليه وسلم بشهر. ولفظه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول -قبل أن يموت بشهر-: ((تسألوني عن الساعة، وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة)) .
زاد في رواية: ((وهي حية يومئذ)) .
ومن هنا يتبين:
أن من ادعى الصحبة، وكانت المعاصرة غير ممكنة، فإنه لا يقبل قوله، ويعتبر في ذلك من الكاذبين.
وذلك مثل:
جعفر بن نسطور الرومي، الذي ادعى الصحبة بعد ثلاثمائة سنة من الهجرة، وسرباتك الهندي، الذي ادعى الصحبة بعد خمسمائة وتسع، ورتن الهندي الذي ادعى الصحبة بعد ستمائة واثنتين وثلاثين سنة من الهجرة، وجبير بن الحارث، الذي ادعى الصحبة بعد سبعمائة وثلاث وخمسين سنة من الهجرة، وغيرهم من الدجالين أمثالهم .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
المذهب الثالث:
عدم قبول قوله إني صحابي، وجرى على هذا القول ابن القطان فقد نقل الشوكاني أنه يروى عنه ما يدل على الجزم بعدم القبول فقال:
(ومن يدع الصحبة لا يقبل منه حتى نعلم صحبته، وإذا علمناها فما رواه فهو على السماع حتى نعلم غيره) .
وبه قال أبو عبد الله الصيمري من الحنفية – كما ذكره ابن النجار في (شرح الكوكب المنير) .
والإمام البلقيني حيث قال في (محاسن الاصطلاح):
(ولو جاء إنسان إلى تابعي وقال له: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كذا، لم يسغ لذلك التابعي أن يروي ذلك الحديث على أنه صحابي بمجرد قوله، ولا أن يقول: حدثني بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يظهر أمره في الدين، ومن ادعى تسويغ ذلك فليس بصحيح، ولكن يسوغ أن يقول: قال فلان: رأيت.. إلخ، ولم يظهر لي صحبته) .
وإلى هذا المذهب مال الطوفي، كما في (البلبل) و(شرح مختصر الروضة) .
وعللوا ذلك:
أنه متهم بأنه يدعي رتبة عالية يثبتها لنفسه، وهي:
منصب الصحابة، والإنسان مجبول على طلبها قصداً للشرف، وإلى هذا التعليل ذهب الطوفي وابن عبد الشكور وابن نظام الدين وابن الهمام وأمير بادشاه البخاري وابن الحاجب والآمدي .
وما قاله أصحاب المذهب الثاني من أن قبول قوله في إثبات الصحبة لنفسه يتوقف على ثبوت عدالته، قد رده المانعون بأنه يلزم عليه الدور .
وبيان ذلك:
أن دعوى الصحبة يتوقف ثبوتها على ثبوت عدالة مدعيها، حيث لا تقبل دعوى الصحبة إلا من عدل، وثبوت عدالة مدعيها تتوقف على ثبوت صحبته، وذلك: أن دعوى الصحبة تشتمل ضمناً على دعوى العدالة، لما هو معلوم من أن الصحابة كلهم عدول، ولا شك أن توقف ثبوت الصحبة على ثبوت العدالة، وتوقف ثبوت العدالة على ثبوت الصحبة يلزمه الدور .
وعن مسألة الدور هذه، لأصحاب المذهب الثاني أن يجيبوا:
بأن دعوى الصحبة وإن توقفت على ثبوت عدالة مدعيها، فإن عدالة مدعيها لا تتوقف على ثبوت الصحبة، فقد تثبت عدالة الرجل وإن لم تثبت صحبته، فانفك الدور.
كما يجاب – أيضاً – عن قولهم: إنه متهم بدعواه رتبة يثبتها لنفسه... إلخ.
بما قاله الفراء في (العدة) من أنه لما قبل خبر غيره عنه بأنه صحابي، كذلك يجوز قبول خبره عن نفسه بذلك.
يبين صحة هذا وتساويهما: أن العدالة معتبرة فيما يخبر غيره عنه، وفيما يخبر هو عن نفسه.
فإن قيل:
لا يمتنع أن يقبل قول غيره له، ولا يقبل قوله لنفسه، كما تقبل شهادة غيره له، ولا يقبل إقراره لنفسه، لأنه يجر إلى نفسه منفعة، وهذا موجود ها هنا.
قيل: هذا لا يمنع خبره لنفسه، ألا ترى أن من روى خبراً عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل منه وإن كان نفعه يعود بالمخبر. كذلك قوله: أنا صحابي لا يمنع وإن عاد نفعه إليه، ويفارق هذا الشهادة والدعوة، لأن حصول النفع يمنع قبول ذلك.
وأيضاً: فإن العقل لا يمنع من قبول خبره بذلك، والسمع لم يرد بالمنع فجاز قوله .
المذهب الرابع:
التفصيل في ذلك:
فمن ادعى الصحبة القصيرة قبل منه، لأنها مما يتعذر إثباتها بالنقل، إذ ربما لا يحضره حالة اجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو رؤيته له أحد.
ومن ادعى الصحبة الطويلة، وكثرة التردد في السفر والحضر فلا يقبل منه ذلك، لأن مثل ذلك يشاهد وينقل ويشتهر، فلا تثبت صحبته بقوله كما ذكر ذلك السخاوي في (فتح المغيث) .
ج- قول أحد الصحابة بصحبة آخر:
وهو إما أن يكون بطريق التصريح، كأن يقول الصحابي: إن فلاناً صحابي، أو من الأصحاب، أو ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم.
وإما أن يكون بطريق اللزوم، كأن يقول: كنت أنا وفلان عند النبي، أو سمع معي هذا الحديث فلان من النبي، أو دخلت أنا وفلان على النبي صلى الله عليه وسلم.
غير أن هذا الطريق الأخير، إنما تثبت فيه الصحبة، إذا عرف إسلام المذكور في تلك الحالة، كما ذكر ذلك السخاوي في (فتح المغيث) .
وقد مثلوا لثبوت صحبة الصحابي بقول صحابي آخر، بحممة بن أبي حممة الدوسي، الذي مات بأصبهان مبطوناً، فشهد له أبو موسى الأشعري - وهو من الصحابة المشهورين – أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم حكم له بالشهادة ذكر ذلك أبو نعيم في (تاريخ أصبهان) .
وقد استدرك العراقي على ما ذكره أبو نعيم بقوله:
(على أنه يجوز أن يكون أبو موسى إنما أراد بذلك شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لمن قتله بطنه، وفي عمومهم حممة، لا أنه سماه باسمه والله أعلم) .
وبناء على ما استدركه العراقي لا يصح التمثيل بحممة، إذ ليس في ذكر أبي موسى ما يفيد التصريح بإثبات صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم فالحديث ليس نصاً، وإنما هو محتمل، وما تطرقه الاحتمال يسقط به الاستدلال.
إلا أن ما استدركه العراقي من الاحتمال المذكور – كما يقول الدكتور التازي – رحمه الله – بعيد، لأن الضمير في له إنما هو لحممة، وليس في لفظ الحديث ما يمكن أن يعود عليه الضمير غيره، وإخبار أبي موسى بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم له يستلزم معرفته به، وصحبته له.
ويعلل لقبول قول الصحابي في آخر صحابي: بأن الصحابي عدل، فإذ صح لنا أن نقبل قوله حين يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن نقبل قوله حين يخبر أن فلاناً صحابي من باب أولى.
د- أخبار أحد التابعين الموثقين عند أهل الحديث بأن فلاناً صحابي:
فهل يقبل قوله وتثبت به صحبة من أخبر عنه، أو لا يقبل قوله، ولا تثبت به صحبة من أخبر عنه؟ اختلف العلماء من المحدثين والأصوليين في ذلك.
فذهب جماعة منهم إلى قبول قوله، ومنهم الإمام السخاوي حيث قال في (فتح المغيث) وهو يبين طرق إثبات الصحبة:
(وكذا تعرف بقول آحاد ثقات التابعين على الراجح) . والحافظ ابن حجر فقد قال في (الإصابة): (وكذا عن آحاد التابعين). أي: بأن يروي عن آحاد التابعين أن فلاناً صحابي.
والإمام زكريا الأنصاري حيث قال في (فتح الباقي): (وكذا تعرف بقول آحاد ثقات التابعين) .
والشيخ محمد نجيب المطيعي حيث قال في (حاشيته على الإسنوي): (أو بإخبار آحاد التابعين بأنه صحابي) . وغيرهم من العلماء .
وذهب جماعة آخرون إلى أنه لا يقبل قوله، ولا تثبت به صحبة من أخبر عنه.
وممن ذهب إلى ذلك: بعض شراح (اللمع) على ما ذكره الإمام السخاوي في (فتح المغيث) .
وقد سكت بعض العلماء عن ذكر هذا الطريق كالإمام ابن كثير وابن الصلاح والنووي والعراقي وغيرهم، حيث لم يذكروا وهم يبينون طرق إثبات الصحبة قول التابعي: إن فلاناً صحابي كطريق لمعرفة الصحابة رضي الله عنهم .
والاختلاف بين القائلين بثبوت الصحبة بإخبار أحد ثقات التابعين وبين النافين لذلك مبني في الحقيقة على خلاف آخر وهو: هل تقبل التزكية إذا صدرت من مزكٍّ واحد، أو لابد فيها من التعدد؟
فمن ذهب إلى عدم إثبات الصحبة بقول التابعي: إن فلاناً صحابي، جرى على أن التزكية غير مقبولة إذا صدرت من مزك واحد، بل لابد فيها من اثنين.
ووجهتهم فيما ذهبوا إليه من اشتراط التعدد.
1- أن التزكية تتنزل منزلة الحكم، فلا يشترط فيها العدد، بخلاف الشهادة فإنها تكون عند الحاكم فلابد فيها من العدد، فلا يصح إلحاق التزكية بالشهادة .
2- إن التزكية إن كانت صادرة عن اجتهاد المزكي فهي بمنزلة الحكم، وحينئذ لا يشترط التعدد في المزكي، لأنه بمنزلة الحاكم. وإن لم تكن صادرة عن نفسه واجتهاده، بل منقولة عن غيره، فأيضاً لا يشترط التعدد حينئذ، لأن أصل النقل لا يشترط فيه العدد، فكذا ما يتفرع عنه، فلا يقال: إن التزكية تأخذ حكم الشهادة .
وما ذكر من أن الاستقراء أن لا يزيد شرط على مشروطه، ولا ينقص شرط عن مشروطه منتف – كما في (التحرير) وشرحه – بشاهد هلال رمضان إذا كان بالسماء علة، فإنه يكتفى فيه بواحد، ويفتقر تعديله إلى اثنين، فقد زاد الشرط في هذا على مشروطه.
وكون الشرط لا ينقص عن مشروطه مردود بشهادة الزنا، فإنه يلزم كونهم أربعة ويكفي في تعديلهم اثنان .
قال في (التحرير) وشرحه:
وما قيل: لا نقض بهذين بل زيادة في الأصل في شهادة الزنا ونقصانه في الهلال، إنما يثبت بالنص للاحتياط في الدرء للعقوبات، والإيجاب للعبادة كما هو مذكور في (حاشية التفتازاني)، لا يخرجه أي: هذا الجواب لا يخرج ما ذكر من مادتي النقض عنهما أي ثبوت الزيادة وثبوت النقص المنافيين لما ادعى الضابطين بالاستقراء .
3- أن المزكي يكتفي فيه بواحد، لأنه بمثابة الخبر، وكما يصح قبول خبر الواحد – كما هو القول الراجح – فكذلك يقبل قول المزكي، لأنه بمنزلته .
4- أن اعتبار الواحد في الجرح والتعديل أصل متفق عليه، واعتبار ضم قول غيره إليه يستدعي دليلاً، والأصل عدمه، ولا يخفى أن ما يلزم منه موافقة النفي الأصلي أولى مما يلزم منه مخالفته .
5- ينبغي القول بعدم اشتراط التعدد في المزكي، لأن اشتراط التعدد قد يؤدي إلى تضييع بعض الأحكام، فكان عدم التعدد أولى وأحوط .
المطلب الثاني: إثبات الصحبة عن طريق أحد العلامات
ونذكر منها ما يأتي:
العلامة الأولى:
أن يكون من يدَّعى صحبته قد تولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم غزوة من غزواته، ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لم يؤمر على غزوة من غزواته إلا من كان من أصحابه .
وذلك مثل: عبيدة بن الحارث، الذي عقد له النبي صلى الله عليه وسلم اللواء إلى رابغ. وعبد الله بن جحش، الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم على سرية إلى نخلة .
العلامة الثانية:
أن يكون المدعى صحبته ممن أمره أحد الخلفاء الراشدين على أحد المغازي في حروب الردة والفتوح . وذلك مثل: شرحبيل بن حسنة وأبي عبيدة بن مسعود.
العلامة الثالثة:
أن يكون المدعى صحبته قد ثبت أن له ابناً حنكه النبي صلى الله عليه وسلم، أو مسح على رأسه، أو دعا له، فإنه ((كان لا يولد لأحد مولود إلا أتي به النبي صلى الله عليه وسلم فدعا له)) كما أخرجه الحاكم عن عبد الرحمن بن عوف على ما ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة .
وذلك مثل: ثابت بن قيس بن شماس، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما.
العلامة الرابعة:
أن يكون من يدعى صحبته ممن كان بمكة أو الطائف سنة عشر من الهجرة، إذ من المعلوم عند المحدثين أن كل من كان بمكة أو الطائف سنة عشر قد أسلم وحج مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فيكون من الصحابة .
وذلك مثل: عامر بن أبي أمية رضي الله عنه.
العلامة الخامسة:
أن يكون من يدعى صحبته من الأوس أو الخزرج الذين كانوا بالمدينة المنورة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت أنهم دخلوا في الإسلام جميعاً، ولم يثبت عن أحد منهم أنه ارتد عن الإسلام .
المبحث الثالث: فضل الصحابة وتفاوتهم في الفضل والمنزلة
المطلب الأول: فضل الصحابة
الفرع الأول: الأدلة على فضل الصحابة
أولا: الأدلة على فضل الصحابة من القرآن
قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله في شرحه لمنظومة سلم الوصول:

فكلهم في محكم القرآن
أثنى عليهم خالق الأكوان
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
في مواضع من كتابه (كالفتح) أي سورة (الفتح) من أولها إلى آخرها (و) سورة (الحديد) كقوله تعالى فيها: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} – إلى قوله – {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] الآيات.
(و) سورة (القتال) كقوله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:3] الآيات.
(و) سورة (الحشر) إلى آخرها، وقد رتب تعالى فيها الصحابة على منازلهم وتفاضلهم ثم أَرْدَفهم بذكر التابعين فقال تعالى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:8 – 10] أخرج الله بهذه الآية وغيرها شاتم الصحابة من جميع الفرق الذين في قلوبهم غل لهم إلى يوم القيامة، ولهذا منعهم كثير من الأئمة الفيء وحرموه عليهم.
(و) في سورة (التوبة) وسورة (الأنفال) بكمالها تارة في الثناء عليهم وتارة في تحذيرهم من عدوهم ووصف المشركين والمنافقين بأنواعهم وسماهم ليحذروهم، وتارة في حثهم على الطاعة والجماعة والجهاد في سبيل الله والإثخان في الكفار والثبات لهم عند لقائهم إياهم وعدم فرارهم منهم، ووعْدِه تعالى إياهم بالنَّصر على عدوِّهم، وتارة بتذكيرهم بنعم الله عليهم وامتنانه عليهم أَنْ هداهم للإسلام وجنَّبهم السُّبُل المضلة. وأَلَّف بين قلوبهم وآواهم وأيدهم بنصره بعد إذ كانوا مستضعفين أذلة.
وتارة يخبرهم ويهيجهم ويشوقهم بما أعد لهم في الدار الآخرة على قيامهم بطاعته تعالى وطاعة رسوله، وجهادهم بأموالهم في سبيله وله الحمد والمنة، وغير ذلك من سور القرآن وآياته (كذلك في التوراة) الكتاب المنزل على موسى عليه السلام (و) في (الإنجيل) الكتاب المنزل على عيسى عليه السلام (صفاتهم) التي جعلهم الله عليها (معلومة التفصيل) كما أخبر الله تعالى بقوله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} صلى الله عليه وسلم {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29] هنا تم الكلام ثم قال تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح:29].
ثانيا: الأدلة على فضل الصحابة من السنة
- عن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه قال: صَلّيْتُ المغرب مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا لو جلسنا حتى نصلّي معه العشاء قال فجلسنا فخرج علينا فقال: ((ما زلتم ههنا، قلنا: يا رسولَ الله صلَّينا معك المغرب ثم قلنا نجلسُ حتى نصلي معك العشاء، قال: أحسنتم أو أصبتم، قال: فرفع رأسهُ إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء فقال: النجوم أَمَنَةُ السماءِ، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأُمَّتي فإذا ذهب أصحابي أتى أُمَّتي ما يوعدون)) .
- وفيه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال ((يأتي على الناس زمانٌ يغزو فئام من الناس فيقال لهم: فيكم مَنْ رأى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئامٌ مِنَ الناس فيقال لهم: فيكم مَنْ رأى مَنْ صحِب رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم مَنْ رأى مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم فيفتح لهم)) .
- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سُئِلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أي النَّاسِ خير؟ قال ((أقراني ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيءُ قومٌ تبدر شهادةَ أحدهم يمينه وتبدر يمينه شهادته)) .
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ((خَيْر أُمَّتي القرن الذي بُعثتُ فيه، ثم الذين يلونهم))، والله أعلم أذكر الثالث أم لا ((ثم يخلُفُ قومٌ يحبُّون السمانة، يشهدون قبل أَنْ يُستشهدوا)) .
- وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما أَنَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال ((إِنَّ خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) قال عمران فلا أدري أَقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرَّتين أو ثلاثاً ((ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يُستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون ويَنذرون ولا يُوفون ويظهر فيهم السِّمن)) . زاد في رواية ((ويحلفون ولا يُستحلفون)) .
- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سأَل رجلٌ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أي الناس خيرٌ قال ((القرنُ الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث)) .
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ((لا تَسُبُّوا أَصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أَنَّ أَحدكم أَنفق مثل أُحُدٍ ذهباً ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه)) .
- وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيءٌ فسبَّه خالدٌ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ((لا تسُبُّوا أَحداً من أصحابي، فإنَّ أحدكم لو أَنفق مثل أُحُدٍ ذهباً ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه)) .
وفي (الصحيحين) من حديث علي رضي الله عنه في قصة كتاب حاطب مع الظعينة – وفيه – فقال عمر: إِنَّه قد خانَ اللهَ ورسوله فدعني فلأَضْرِبْ عنقه، فقال ((أَلَيْس مِنْ أهل بدر)) فقال صلى الله عليه وسلم ((لعلَّ الله اطَّلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة)) أو ((فقد غفرت لكم)) فدمعتْ عينا عمر رضي الله عنه وقال: الله ورسولُهُ أعلم .
- وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: حدَّثني أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ممَّن شهد بدراً أَنَّهم كانوا عدَّة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر: بضعة عشر وثلاثمائة، قال البراء: لا والله ما جاوز معه النهر إلاّ مؤمن. .
- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1] قال الحديبية، قال أصحابه هنيئاً مريئاً فما لنا. فأنزل الله تعالى {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الفتح:5](655) وكل هذا في (الصحيح) .
وروى الترمذي عن جابر رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يدخل النار أحدٌ ممن بايع تحت الشجرة)). وقال الترمذي حسن صحيح .
وقد وردت أحاديث في فضائل الصحابة والتابعين رضي الله عنهم منها عام ومنها خاص بالمهاجرين ومنها خاص بالأنصار ومنها خاص بالآحاد فرداً فرداً، ومنها القطع لأحدهم بالجنَّة مطلقاً، ومنها القطعُ لبعضهم بمجاورة رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الجنة ليس هذا موضع بسطها.
ثالثا: أقوال العلماء في فضل الصحابة
أولاً: ما ورد من أقوال الصحابة بعضهم في بعض:
فمن ذلك:
1- قول.. عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ) .
2- وقول... عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم، والله رب الكعبة) .
3- وما رواه البخاري عن المسور بن مخرمة قال: ((لما طعن عمر جعل يألم فقال ابن عباس – وكأنه يجزعه -: يا أمير المؤمنين ولئن كان ذاك، لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت صحابته فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون، قال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه فإنما ذاك منّ من الله تعالى منّ به علي، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك منّ من الله جل ذكره منّ به علي، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه)) .
4- وما رواه البخاري عن مروان بن الحكم قال: ((أصاب عثمان بن عفان رضي الله عنه رعاف شديد سنة الرعاف حتى حبسه عن الحج وأوصى، فدخل عليه رجل من قريش قال: استخلف، قال: وقالوه؟ قال: نعم، قال: ومن؟ فسكت، فدخل عليه رجل آخر –أحسبه الحارث- فقال: استخلف، فقال عثمان: وقالوا؟ قال: نعم، قال: ومن هو؟ فسكت، قال: فلعلهم قالوا: إنه الزبير، قال: نعم. قال: أما والذي نفسي بيده إنه لخيرهم ما علمت، وإن كان لأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)) .
5- وما رواه الحاكم عن أبي البختري عن سيدنا علي رضي الله عنه قال: ((قيل: أخبرنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عن أيهم؟ قال: أخبرنا عن عبد الله بن مسعود قال: علم الكتاب والسنة ثم انتهى وكفى به)) . وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
6- وما رواه الحاكم عن شقيق قال: سمعت حذيفة رضي الله عنه يقول: ((إن أشبه الناس هدياً وسمتاً ودلاً بمحمد صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود من حين يخرج إلى حين يرجع فما أدري ما في بيته، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد من أقربهم وسيلة عند الله يوم القيامة)) . وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
7- وما رواه الطبراني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (ثلاثة من قريش أصبح قريش وجوهاً، وأحسنها أخلاقاً، وأثبتها جناناً، إن حدثوك لم يكذبوك، وإن حدثتهم لم يكذبوك، أبو بكر الصديق، وأبو عبيدة بن الجراح، وعثمان بن عفان) .
8- وما رواه الطبراني عن ربعي بن خراش قال: (استأذن عبد الله بن عباس على معاوية وقد علقت عنده بطون قريش وسعيد بن العاص جالس عن يمينه، فلما رآه معاوية مقبلاً قال: يا سعيد والله لألقين على ابن عباس مسائل يعيا بجوابها، فقال له سعيد: ليس مثل ابن عباس يعيا بمسائلك، فلما جلس قال له معاوية: ما تقول في أبي بكر؟ قال: رحم الله أبا بكر كان والله للقرآن تالياً، وعن الميل نائياً، وعن الفحشاء ساهياً، وعن المنكر ناهياً، وبدينه عارفاً ومن الله خائفاً، وبالليل قائماً، وبالنهار صائماً، ومن دنياه سالماً، وعلى عدل البرية عازماً، وبالمعروف آمراً، وإليه صائراً، وفي الأحوال شاكراً، ولله في الغدو والرواح ذاكراً، ولنفسه بالمصالح قاهراً، فاق أصحابه ورعاً وكفافاً، وزهداً وعفافاً، وبراً وحياطة، وزهادة وكفاءة، فأعقب الله من ثلبه اللعائن إلى يوم القيامة.
قال معاوية: فما تقول في عمر بن الخطاب؟ قال: رحم الله أبا حفص، كان والله حليف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومحل الإيمان، وملاذ الضعفاء، ومعقل الحنفاء، للخلق حصناً، وللبأس عوناً، قام بحق الله صابراً محتسباً، حتى أظهر الله الدين، وفتح الديار، وذكر الله في الأقطار والمناهل، وعلى التلال وفي الضواحي والبقاع، وعند الخنا وقوراً، وفي الشدة والرضاء شكوراً، ولله في كل وقت وأوان ذكوراً، فأعقب الله من يبغضه اللعنة إلى يوم الحسرة.
قال معاوية: فما تقول في عثمان بن عفان؟ قال: رحم الله أبا عمرو، كان والله أكرم الحفدة، وأوصل البررة، وأصبر الغزاة، هجاداً بالأسحار، كثير الدموع عند ذكر الله، دائم الفكر فيما يعنيه الليل والنهار، ناهضاً إلى كل مكرمة، يسعى إلى كل منجية فراراً من كل موبقة، وصاحب الجيش والبئر، وختن المصطفى على ابنتيه، فأعقب الله من سبه الندامة إلى يوم القيامة.
قال معاوية: فما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: رحم الله أبا الحسن، كان والله علم الهدى، وكهف التقى، ومحل الحجا، وطود البها، ونور السرى في ظلم الدجى، داعياً إلى المحجة العظمى، عالماً بما في الصحف الأولى، وقائماً بالتأويل والذكرى، متعلقاً بأسباب الهدى، وتاركاً للفجور والأذى، وحائداً عن طرقات الردى، وخير من آمن واتقى، وسيد من تقمص وارتدى، وأفضل من حج وسعى، وأسمح من عدل وسوى، وأخطب أهل الدنيا إلا الأنبياء والنبي المصطفى، وصاحب القبلتين، فهل يوازيه موحد؟ وزوج خير النساء، وأبو السبطين، لم تر عيني مثله، ولا ترى إلى يوم القيامة واللقاء، من لعنه فعليه لعنة الله والعباد إلى يوم القيامة.
قال: فما تقول في طلحة والزبير؟ قال: رحمة الله عليهما، كانا والله عفيفين، برين، مسلمين، طاهرين، متطهرين، شهيدين، عالمين، زلازلة والله غافر لهما – إن شاء الله – بالنصرة القديمة، والصحبة القديمة، والأفعال الجميلة.
قال معاوية: فما تقول في العباس؟ قال: رحم الله أبا الفضل، كان والله صنو أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرة عين صفي الله، كهف الأقوام، وسيد الأعمام، قد علا بصراً بالأمور، ونظراً بالعواقب، قد زانه علم، قد تلاشت الأحساب عند ذكر فضيلته، وتباعدت الأنساب عند فخر عشيرته، ولم لا يكون كذلك؟ وقد ساسه أكرم من دب وهب عبد المطلب. أفخر من مشى من قريش وركب... الحديث.
وقال معاوية في آخره: صدقت يا ابن عباس، أشهد أنك لسان أهل بيتك، فلما خرج ابن عباس من عنده قال: ما كلمته إلا وجدته مستعداً) .
9- وما رواه الحاكم عن أبي سعيد المقبري قال: (لما طعن أبو عبيدة رضي الله عنه قال: يا معاذ صل بالناس، فصلى معاذ بالناس، ثم مات أبو عبيدة بن الجراح، قام معاذ في الناس فقال: يا أيها الناس توبوا إلى الله توبة نصوحاً، فإن عبد الله لا يلقى الله تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أن يغفر له، ثم قال: إنكم أيها الناس قد فجعتم برجل والله ما أزعم أني رأيت من عباد الله عبداً قط أقل عمراً، ولا أبر صدراً، ولا أبعد غائلة، ولا أشد حباً للعاقبة، ولا أنصح للعامة منه، فرتحموا عليه وأصحروا للصلاة عليه. فوالله لا يلي عليكم مثله أبداً.
فاجتمع الناس، وأخرج أبو عبيدة رضي الله عنه فتقدم معاذ رضي الله عنه فصلى عليه، حتى إذا أتى به قبره، دخل قبره معاذ بن جبل وعمرو بن العاص والضحاك بن قيس، فلما وضعوه في لحده وخرجوا، فشنوا عليه التراب فقال معاذ بن جبل: يا أبا عبيدة لأثنين عليك ولا أقول باطلاً أخاف أن يلحقني بها من الله مقت: كنت والله ما علمت من الذاكرين الله كثيراً، ومن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، ومن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوماً، وكنت والله من المخبتين المتواضعين الذين يرحمون اليتيم والمسكين ويبغضون الخائنين المتكبرين) .
ثانياً: ما ورد من أقوال التابعين في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فمن ذلك:
1- ما أخرجه أبو نعيم في (الحلية) عن الحسن البصري رحمه الله (أن بعض القوم قال له: أخبرنا صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبكى وقال: ظهرت منهم علامات الخير في السيما والسمت والهدى والصدق، وخشونة ملابسهم بالاقتصاد، وممشاهم بالتواضع، ومنطقهم بالعمل، ومطعمهم ومشربهم بالطيب من الرزق، وخضوعهم بالطاعة لربهم تعالى، واستقادتهم للحق فيما أحبوا وكرهوا، وإعطاؤهم الحق من أنفسهم، ظمئت هواجرهم، ونحلت أجسامهم، واستخفوا بسخط المخلوقين رضى الخالق، لم يفرطوا في غضب، ولم يحيفوا في جور، ولم يجاوزوا حكم الله تعالى في القرآن، شغلوا الألسن بالذكر، بذلوا دمائهم حين استنصرهم، وبذلوا أموالهم حين استقرضهم، ولم يمنعهم خوفهم من المخلوقين، حسنت أخلاقهم، وهانت مؤنتهم، وكفاهم اليسير من دنياهم إلى آخرتهم) .
2- وما رواه الإمام أحمد عن قتادة بن دعامة رحمه الله أنه قال:
(أحق من صدقتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه) .
3- وما رواه ابن سعد في (الطبقات) عن مسروق قال:
(لقد جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذ.
فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، فوجدت عبد الله بن مسعود من ذلك الإخاذ) .
5- وما رواه الطبراني عن مسروق قال: (شاممت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا الدرداء وزيد بن ثابت، ثم شاممت الستة فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله بن مسعود) .
5- وما رواه ابن سعد عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: (كان ابن عباس قد فات الناس بخصال: بعلم ما سبقه، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم، وسيب ونائل، وما رأيت أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، ولا أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه، ولا أفقه في رأي منه، ولا أعلم بشعر ولا عربية ولا بتفسير القرآن ولا بحساب ولا بفريضة منه، ولا أعلم بما مضى ولا أثقف رأياً فيما احتيج إليه منه.
ولقد كان يجلس يوماً ما يذكر فيه إلا الفقه، ويوماً التأويل، ويوماً المغازي، ويوماً الشعر، ويوماً أيام العرب، وما رأيت عالماً قط جلس إليه إلا خضع له، وما رأيت سائلاً قط سأله إلا وجد عنده علماً) .
6- وما رواه ابن عبد البر في (الاستيعاب) قال: (وسئل الحسن بن أبي الحسن البصري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: كان علي والله سهماً صائباً من مرامي الله على عدوه، ورباني هذه الأمة، وذا فضلها، وذا سابقتها، وذا قرابتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بالنومة عن أمر الله ولا باللومة في دين الله ولا بالسروقة لمال الله، أعطى القرآن عزائمه، ففاز منه برياض مونقة، ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه يا لكع) .
7- وما رواه أبو نعيم في (الحلية) عن أبي صالح قال: (دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية فقال له: صف لي علياً فقال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعفيك، قال: أما إذا لابد فإنه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب. كان والله كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أخرى الليل سدوله، وغارت نجومه، يميل في محرابه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا يا ربنا – يتضرع إليه، ثم يقول للدنيا: إلي تغرتت؟ إلي تشوفت؟ هيهات هيهات، غري غيري، قد بتتك ثلاثاً، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك كبير، آه آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق.
فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء فقال:
كذا كان أبو الحسن رحمه الله، كيف وجدك عليه يا ضرار؟ قال: وجد من ذبح واحدها في حجرها، لا ترقأ دمعتها، ولا يسكن حزنها، ثم قام فخرج) .
8- وروي عن حميد بن زياد أنه قال: (قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي: ألا تخبرني عن أصحاب الرسول عليه السلام فيما كان بينهم؟ وأردت الفتن. فقال لي: إن الله تعالى قد غفر لجميعهم، وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم، قلت له: وفي أي موضع أوجب لهم الجنة؟ قال: سبحان الله! ألا تقرأ قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة: 100] إلى آخر الآية! فأوجب أن لجميع أصحاب النبي عليه السلام الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً شرطه عليهم، قلت: وما ذاك الشرط؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان في العمل وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك، أو يقال: المراد أن يتبعوهم بإحسان في القول، وهو أن لا يقولوا فيهم سوءاً، وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه، قال حميد بن زياد: فكأني ما قرأت هذه الآية قط) .
ثالثاً: ما ورد من أقوال أتباع التابعين فمن بعدهم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فمن ذلك:
1- ما رواه البيهقي عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: (وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله وهناهم بما آتاهم من ذلك، ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين، هم أدوا إلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاهدوه والوحي ينزل عليه، فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاماً وخاصاً وعزماً وإرشاداً، وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد، وورع وعقل استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا لأنفسنا –والله أعلم) .
2- وما قاله الإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في مقدمة كتابه (الجرح والتعديل): (فأما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصرته، وإقامة دينه، وإظهار حقه، فرضيهم له صحابة، وجعلهم لنا أعلاماً وقدوة، فحفظوا عنه صلى الله عليه وسلم ما بلغهم عن الله عز وجل وما سن وشرع، وحكم وقضى، وندب وأمر، ونهى وحظر وأدب، ووعوه فأتقنوه، ففقهوا في الدين، وعلموا أمر الله ونهيه ومراده، بمعاينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله، وتلقفهم منه، واستنباطهم عنه، فشرفهم الله عز وجل بما منّ عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة، فنفى عنهم الشك والكذب والغلط والريبة والغمز، وسماهم عدول الأمة، فقال عز ذكره في محكم كتابه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، ففسر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز ذكره قوله: {وسطاً}، قال: عدلاً، فكانوا عدول الأمة، وأئمة الهدى، ونقلة الكتاب والسنة.
وندب الله عز وجل إلى التمسك بهديهم، والجري على مناهجهم، والسلوك لسبيلهم، والاقتداء بهم، فقال: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115].
ووجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد حض على التبليغ عنه في أخبار كثيرة، ووجدناه يخاطب أصحابه فيها، منها أن دعا لهم فقال:
((نضر الله إمرءاً سمع مقالتي فحفظها ووعاها حتى يبلغها غيره)).
وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته: ((فليبلغ الشاهد منكم الغائب)) وقال: ((بلغوا عني ولو آية وحدثوا عني ولا حرج)) .
ثم تفرقت الصحابة رضي الله عنهم في النواحي والأمصار والثغور، وفي فتوح البلدان والمغازي والإمارة والقضاء والأحكام، فبث كل واحد منهم في ناحيته وبالبلد الذي هو به ما وعاه وحفظه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكموا بحكم الله عز وجل، وأمضوا الأمور على ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظائرها من المسائل، وجردوا أنفسهم مع تقدمة حسن النية والقربة إلى الله تقدس اسمه، لتعليم الناس الفرائض والأحكام، والسنن والحلال والحرام، حتى قبضهم الله عز وجل – رضوان الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين -) .
3- وما قاله الأستاذ الشيخ عبد الحميد بخيت في كتابه (دراسات تاريخية في رجال الحديث): (إن الصحابة – كما يتضح من سلوكهم في أنفسهم وفي المجتمع – يعتبرون من ذلك الضرب الرفيع، الذي لا يكاد يوجد إلا في فترات قليلة جداً من تاريخ البشرية الطويل المديد، لا لأنهم مجرد أصحاب النبي، أو حملة مبادئ عليا، أو عاشوا في عصر معين من الزمان، ولكن لأن مقومات شخصياتهم، ومواهبهم، وفدائيتهم الفريدة للإيمان والعمل وشعائر الحق والعدل والحرية كانت من أبرز مميزاتهم ومظاهر سلوكهم) . – رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين -.
الفرع الثاني: تفضيل الصحابة على سائر الأمة
الصحابة رضوان الله عليهم هم أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وما ذكر من الأدلة... دليل على ذلك فليس أفضل ممن زكاهم الله وعدلهم وأثنى عليهم ورضي عنهم، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنهم أمان لأمته ما بقي منهم فيها أحد فإن هم ذهبوا أتى الأمة ما توعد، وأقسم صلى الله عليه وسلم أن أحداً من الأمة إن أنفق مثل أحد ذهباً لا يبلغ بذلك مد أحدهم ولا نصيفه ، ولقد صرح صلى الله عليه وسلم بأنهم رضوان الله عليهم خير أمته فقال: ((خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم)) . وقال صلى الله عليه وسلم: ((خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيهم)) .
قال الإمام أحمد رحمه الله: (فأدناهم صحبة هو أفضل من القرن الذين لم يروه صلى الله عليه وسلم ولو لقوا الله بجميع الأعمال، كان هؤلاء الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه, وسمعوا منه, ومن رآه بعينه وآمن به ولو ساعة أفضل بصحبته من التابعين ولو عملوا كل أعمال الخير) . وقال ذلك علي بن المديني أيضاً .
الفرع الثالث: تفضيل الصحابة على سائر البشر بعد الأنبياء
الصحابة أفضل أتباع الأنبياء على الإطلاق دل على ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
وفسر لفظ الأمة في الآيتين بأن المراد به الصحابة فهو عام مخصوص وقيل: بل هو وارد في الصحابة دون غيرهم . أي أنه لا عموم في اللفظ، وعليه فاللفظ ظاهر الدلالة على أن الصحابة أفضل الناس بعد الأنبياء.
وفسر اللفظ بأن المراد به أمة محمد صلى الله عليه وسلم عامة . وهو دال على ما ذكر أيضاً لأن أصل الخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان عاماً في أمته فهم المخاطبون أصلاً به, وهم يدخلون في عموم اللفظ دخولاً أولياً، وقد ثبت كونهم أفضل الأمة فهم أفضل الأمة التي هي خير الأمم، فهم أفضل الأمم على الإطلاق.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني)) .
وسأله رجل: أي الناس خير؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((القرن الذي أنا فيه))
ففي الحديثين تعميم تفضيل قرنه صلى الله عليه وسلم على الناس، أي جميع الناس، جميع بني آدم، ويؤكد هذا المعنى. قوله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً حتى كنت من القرن الذي كنت منه)) .
فهذا دال على أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أفضل أصحاب الأنبياء، أفضل بني آدم بعد الأنبياء، رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقال صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}: ((إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله)) . وهذا ظاهر الدلالة على ما ذكرنا.
قال ابن تيمية رحمه الله: (ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما من الله عليهم به من الفضائل علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله) .
المطلب الثاني: تفاوت الصحابة في الفضل والمنزلة
الفرع الأول: الأدلة على وقوع التفاضل بين الصحابة
لقد دلت أدلة الشرع من نصوص الكتاب والسنة على وقوع التفاضل بين الصحابة رضوان الله عليهم.
فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [ الحديد: 10]. ففي الآية تفضيل طائفة من الصحابة وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا على طائفة من الصحابة وهم الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا مع إثبات الفضل للجميع والتنبيه على أن تفضيل بعضهم على بعض لا يفضي إلى تنقيص المفضول إذ {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}.
وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [ التوبة: 100]. ففي الآية الثناء على الصحابة أجمعين مع تخصيص السابقين الأولين بالذكر، وهذا التخصيص ثم التعميم دليل على تفضيل المخصصين بالذكر على العموم.
وقال سبحانه وتعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [ الأحزاب: 32].
قال ابن عباس: (يريد: ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم) . ففي الآية دلالة على تفضيل نساء النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابيات على سائرهن.
ومن السنة: ما اتفق عليه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه – قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) .
وجاء في رواية لمسلم بيان سبب ورود الحديث: أنه كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وفيه دليل على تفضيل بعض الصحابة على بعض إذ فيه تفضيل عبد الرحمن وطبقته ممن أسلم قبل الفتح وقاتل على خالد وطبقته ممن أسلم بعد الحديبية وقاتل...
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان) .
وفي رواية: (كنا نقول ورسول الله حي: أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان) . زاد في رواية: (فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فلا ينكره) .
فهذا إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم التفاضل بين الصحابة، وفيه تفضيل آحاد بأعيانهم على من سواهم, وتفضيل واحد بعينه على صاحبه وهو تفضيل أبي بكر على عمر وعمر على عثمان، وقد قال ابن عبد البر: (فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه بفضائل خص كل واحد منهم بفضيلة وسمه بها وذكره فيها) قال: (ولم يأت عنه عليه الصلاة والسلام أنه فضل منهم واحداً على صاحبه بعينه من وجه يصح) قلت: لعله يريد أنه لم يصح ذلك عنه صلى الله عليه وسلم من قوله لا من إقراره وإلا فحديث ابن عمر صحيح، ثم قال ابن عبد البر: (ولكنه ذكر من فضائلهم ما يستدل به على مواضعهم ومنازلهم من الفضل والدين والعلم, وكان صلى الله عليه وسلم أحلم وأكرم معاشرة, وأعلم بمحاسن الأخلاق من أن يواجه فاضلاً منهم بأن غيره أفضل منه فيجد من ذلك في نفسه، بل فضل السابقين منهم وأهل الاختصاص به على من لم ينل منازلهم فقال لهم: ((لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه))، وهو من معنى قول الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، ومحال أن يستوي من قاتله صلى الله عليه وسلم مع من قاتل عنه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض من لم يشهد بدر وقد رآه يمشي بين يدي أبي بكر: ((تمشي بين يدي من هو خير منك)) . وهذا لأنه كان أعلمنا ذلك في الجملة لمن شهد بدراً والحديبية، ولكل طبقة منهم منزلة معروفة وحال موصوفة) .
قلت: ثبوت تفضيل طائفة موصوفة من الصحابة على طائفة بالكتاب والسنة دليل قوي للقطع بتفضيل واحد بعينه من الطائفة الفاضلة على واحد بعينه من الطائفة المفضولة، وحديث أبي سعيد دليل لصحة هذا المأخذ, فإن سبب وروده نزاع بين واحد بعينه من طائفة فاضلة وهو عبد الرحمن بن عوف ممن أسلم قبل الفتح وقاتل، وآخر بعينه من طائفة مفضولة وهو خالد بن الوليد ممن أسلم متأخراً وقاتل، فقال صلى الله عليه وسلم ما قال مما يدل على تفضيله عبد الرحمن على خالد، والله أعلم. وهذا الحديث وإن لم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الصحابيين باسميهما إلا أنه كالتنصيص منه صلى الله عليه وسلم بتفضيل واحد بعينه على صاحبه، لدلالة سبب الورود على ذلك ولكنه صلى الله عليه وسلم – كما قال ابن عبد البر – أكرم وأحلم وأتم خلقاً وأحسن معاشرة من أن يسمي الفاضل والمفضول تسمية صريحة في مثل هذه الحال، والله أعلم.
وهنا مسألة: وهي: التفاضل ثابت بين الصحابة رضوان الله عليهم فهل نفاضل بينهم؟
روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم)) . ففي هذا اللفظ حصر المفاضلة في الثلاثة دون غيرهم، ولكن قد ثبت بالكتاب والسنة تفضيل بعض الصحابة على بعض ... ولابد من تفضيل من فضله الله واعتقاد ذلك، ولذا قال ابن حجر: (قد اتفق العلماء على تأويل كلام ابن عمر هذا لما تقرر عند أهل السنة قاطبة من تقديم علي بعد عثمان, ومن تقديم بقية العشرة المبشرة على غيرهم, ومن تقديم أهل بدر على من لم يشهدها وغير ذلك فالظاهر أن ابن عمر إنما أراد بهذا النفي أنهم كانوا يجتهدون في التفضيل فيظهر لهم فضائل الثلاثة ظهوراً بيناً فيجزمون به ولم يكونوا حينئذ اطلعوا على التنصيص) .
فمذهب أهل السنة والجماعة تفضيل الصحابة بعضهم على بعض بمقتضى دلالات النصوص، إجمالاً فيما أجملته، وتفصيلاً فيما فصلته.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الفرع الثاني: أوجه التفاضل بين الصحابة
لقد دل الكتاب والسنة على أوجه حكما بها في المفاضلة بين الصحابة، وجماع هذه الأوجه هو ما سلف من كل واحد منهم من أعمال البر والطاعات التي تتفاضل منزلتها عند الله.
فمن أوجه التفاضل بينهم: السبق إلى الإسلام فالسابق إلى الإسلام أفضل من المسبوق، أفاده قوله سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [التوبة: 100].
ومن أوجه التفاضل بينهم: الإنفاق والجهاد قبل الفتح فمن أنفق من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، أفادته آية (سورة الحديد).
ومن أوجه التفاضل بينهم: شهود بدر كما أفاده قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعل الله أن يكون اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) .
ومن أوجه التفاضل بينهم: شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة فمن شهد له بها أفضل.
ومن أوجه التفاضل شهود بيعة الرضوان فمن شهدها أفضل.
ومن أوجه التفاضل بينهم تخصيص الرسول صلى الله عليه وسلم أحدهم بمنقبة.
وغير ذلك من وجوه التفاضل بينهم رضوان الله عليهم، و... كون المفضول قد يختص بفضيلة لا توجد في الفاضل إلا أن ذلك لا يقتضي تفضيله بها مطلقاً، فعثمان بن عفان رضي الله عنه لم يحضر بدرا . ولكنه أفضل بعد أبي بكر وعمر من جميع الصحابة من حضر بدراً ومن لم يحضر..
الفرع الثالث: التفاضل بين أفراد الصحابة رضي الله عنهم
أولا:المفاضلة بين الخلفاء الراشدين
قد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب شتى:
المذهب الأول:
يرى أن أفضل أفراد الصحابة، أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنه.
وهو مذهب أهل السنة، كما ذكر ذلك الإمام النووي حيث قال:
(واتفق أهل السنة على أن أفضلهم أبو بكر ثم عمر، وقال جمهورهم: ثم عثمان، ثم علي) .
والإمام القسطلاني، حيث قال في (المواهب):
(إن أفضلهم على الإطلاق عند أهل السنة إجماعاً أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما، إلى أن قال: ثم اختلفوا فيمن بعدهما، فالجمهور على تقديم عثمان) .
وابن كثير، حيث قال في (الباعث الحثيث):
(وأفضل الصحابة، بل أفضل الخلق بعد الأنبياء – عليهم السلام -: أبو بكر الصديق ثم من بعده عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب) .
وابن الصلاح حيث قال في (مقدمته):
(أفضلهم على الإطلاق: أبو بكر ثم عمر، ثم إن جمهور السلف على تقديم عثمان على علي – رضي الله عنهم أجمعين ) .
وغيرهم من العلماء .
وهو مذهب الإمام الشافعي – رضي الله عنه -، فقد ذكر البيهقي عن الربيع عن الشافعي أنه قال: (أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضوان الله عليهم) .
ومذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه حيث قال:
(كنا نقول أبو بكر وعمر وعثمان ونسكت، حتى صح لنا حديث ابن عمر بالتفضيل) .
قال ابن بدران الدمشقي في (المدخل): (وأما الحديث الذي أشار إليه الإمام، فإني كشفت عليه في المسند فلم أجده، ولست أدري هل هو فيه فزاغ عنه البصر، أم هو مفقود منه؟ وكذلك فتشت عليه في الكتب الستة فلم أجده، لكنني وجدت أن الحافظ أبا القاسم ابن عساكر الدمشقي رواه في ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه من تاريخه الكبير عن ابن عمر قال: كنا نقول ورسول الله حي: أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، فيبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينكره، وفي لفظ: ثم ندع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -فلا نفاضل بينهم-).
قال ابن بدران:
(وحيث إن الإمام أشار إلى صحة هذا الحديث تركنا الكلام عليه، اكتفاء بتوثيق إمام المحدثين) .
وقال الإمام ابن تيمية – رحمه الله – في (منهاج السنة):
(وأما جمهور الناس ففضلوا عثمان، وعليه استقر أمر أهل السنة، وهو مذهب أهل الحديث ومشايخ الزهد والتصوف وأئمة الفقهاء كالشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وأبي حنيفة وأصحابه وإحدى الروايتين عن مالك وأصحابه، وذكر أن هذا هو مذهب جماهير أهل الكلام، ونقل عن أبي أيوب السختياني قوله: من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار قال: وهكذا قال أحمد والدارقطني وغيرهما) .
وهو مذهب المتقدمين من المعتزلة: كأبي عثمان عمرو بن عبيد، وأبي إسحاق النظام: إبراهيم بن يسار، وأبي عثمان الجاحظ، وغيرهم، كما ذكر ذلك القاضي عبد الجبار في (شرح الأصول الخمسة) حيث قال:
(إن المتقدمين من المعتزلة ذهبوا إلى أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي) .
وأيدوا ما ذهبوا إليه:
بأن إجماع الصحابة من المهاجرين والأنصار على الترتيب بينهم في الإمامة، دليل على الترتيب بينهم في الفضل، ومن خرج على ذلك يعتبر - كما يقول أبو أيوب السختياني – ممن أزرى بالمهاجرين والأنصار، قال القسطلاني في (المواهب): (إن هؤلاء الأربعة اختارهم الله لخلافة نبيه، وإقامة دينه، فمنزلتهم عنده بحسب ترتيبهم في الخلافة) .
وقال ابن كثير: (هذا – أي الترتيب بين الأربعة في الفضل كالترتيب بينهم في الخلافة – رأي المهاجرين والأنصار، حين جعل عمر الأمر من بعده شورى بين ستة، فانحصر في عثمان، وعلي، واجتهد فيهما عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام بلياليها حتى سأل النساء في خدورهن على علي، وولاه الأمر قبله، قال: ولهذا قال الدارقطني: من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وصدق رضي الله عنه وأكرم مثواه، وجعل جنة الفردوس مأواه) .
ويشير إلى هذا قول الشافعي:
(أجمع الصحابة وأتباعهم على أفضلية أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي – كما ذكر ذلك ابن حجر في (فتح الباري) .
ثم إن أهل السنة لم يتعرضوا بعد ذلك إلى بيان التفاضل بين بقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم عندهم كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.
قال الشيخ عبد السلام اللقاني في (إتحاف المريد) بعد أن ذكر الستة من العشرة المبشرة: (ولم يرد نص بتفاوت بعضهم على بعض في الأفضلية، فلا قائل به لعدم التوقيف) .
وقد اتفق أهل السنة والجماعة على تفضيل أبي بكر وعمر على عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في العلم والدين من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهو مذهب مالك وأهل المدينة، والليث بن سعد وأهل مصر، والأوزاعي وأهل الشام، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة وأمثالهم من أهل العراق، وهو مذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد وغير هؤلاء من الأئمة) .
وحكى مالك إجماع أهل المدينة على ذلك فقال: (ما أدركت أحدًا ممن يقتدى به يشك في تقديم أبي بكر وعمر) .
ونقل البيهقي في (الاعتقاد) بسنده إلى أبي ثور عن الشافعي أنه قال: (أجمع الصحابة وأتباعهم على أفضلية أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي) .
والأدلة على ما ذهبوا إليه مستفيضة منها على سبيل المثال:
- ما رواه البخاري وغيره عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (كنا نخير بين الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم) .
- وفي رواية قال سالم بن عبد الله: إن عبد الله بن عمر قال: (كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي: أفضل أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم) .
وكلا الحديثين نص في المسألة.
- وقد روي آثار مستفيضة عن علي رضي الله تعالى عنه نفسه ففي صحيح البخاري عن محمد بن الحنفية أنه قال: (قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول عثمان قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين) . قال ابن تيمية: (وروي هذا عن علي بن أبي طالب من نحو ثمانين وجهًا، وأنه كان يقول على منبر الكوفة، بل قال: ((لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري)) ، فمن فضله على أبي بكر وعمر جلد بمقتضى قوله رضي الله عنه - ثمانين سوطًا) .
قلت: وفي هذا أكبر حجة على بطلان قول الرافضة بأنه لم يبايع إلا تقية وكان مكرهًا وإلا فهو أفضل منهما، ولو كان الأمر كذلك لما أعلنه على رؤوس الأشهاد على المنبر، ولما جلد من يقول ذلك حد الافتراء.
ومنها ما رواه البخاري أيضًا وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (إني لواقف في قوم ندعو الله لعمر بن الخطاب وقد وضع على سريره، إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي يقول: رحمك الله إن كنتُ لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كثيرًا ما كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر، فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما، فالتفتُّ فإذا هو علي بن أبي طالب) .
- وروي عن سفيان الثوري أنه قال: (من زعم أن عليًا كان أحق بالولاية منهما فقد خطَّأ أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار رضي الله عن جميعهم وما أراه يرتفع له مع هذا عمل إلى السماء) وفي رواية (... فقد أزرى على اثني عشر ألفًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما أراه... إلخ الحديث) هذا بالإضافة إلى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل منهم من الفضائل.
ثانيا: المفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما
أما المفاضلة بين عثمان وعلي فهذه دون تلك، وقد حصل فيها نزاع بين السلف قال ابن تيمية: (فإن سفيان الثوري وطائفة من أهل الكوفة رجحوا عليًا على عثمان، ثم رجع عن ذلك سفيان وغيره، وبعض أهل المدينة توقَّف في عثمان وعلي وهي إحدى الروايتين عن مالك، لكن الرواية الأخرى عنه تقديم عثمان على علي كما هو مذهب سائر الأئمة كالشافعي وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وغير هؤلاء من أئمة الإسلام) .
أما أبو حنيفة رحمه الله فقد روي عنه (تقديم علي على عثمان) وجاء في (السير الكبير) لمحمد بن الحسن الشيباني: (روى نوح بن أبي مريم عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال: سألته عن مذهب أهل السنة فقال: أن تفضل أبا بكر وعمر، وتحب عليًّا وعثمان، وترى المسح على الخفين ، ولا تكفر أحدًا من أهل القبلة، وتؤمن بالقدر، ولا تنطق في الله بشيء...) ثم قال الشارح: (ومن الناس من يقول: قبل الخلافة كان عليًّا مُقَدَّمًا على عثمان، وبعد الخلافة عثمان أفضل من علي) ثم اعتذر الشارح عن كلام الإمام السابق بقوله: (ولم يُرِدْ أبو حنيفة رضي الله عنه بما ذكر تقديم علي على عثمان، ولكن مراده أن محبتهما من مذهب أهل السنة فالواو عنده لا توجب الترتيب) .
قلت: بل قد صرَّح في الفقه الأكبر بتقديم عثمان على علي فقال: (وأفضل الناس بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام أبو بكر، ثم عمر بن الخطاب الفاروق، ثم عثمان بن عفان ذو النورين، ثم علي بن أبي طالب المرتضى رضي الله تعالى عنهم أجمعين) . وهو ظاهر المذهب قال السرخسي: (فأما المذهب عندنا أن عثمان أفضل من علي رضوان الله عليهما قبل الخلافة وبعدها) .
أدلة تفضيل عثمان على علي رضي الله عنه:
... أن الغالبية العظمى من أهل السنة والجماعة على تقديم عثمان على علي، ولم يخالف إلا القليل، ويدل على صحة ما ذهبوا إليه ما يلي:
- ما تقدّم من قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيّ: (أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم) .
- وكذلك في قصة بيعة عثمان الثابتة في الصحيح - كما مر - أنه لما لم يبق في الشورى إلا عثمان، وعلي، والحكم عبد الرحمن بن عوف، وبقي عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام بلياليها يشاور المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ويشاور أمهات المؤمنين، ويشاور أمراء الأمصار - فإنهم كانوا بالمدينة حجوا مع عمر وشهدوا موته - حتى قال عبد الرحمن: (إن لي ثلاثًا ما اغتمضت بنوم) بعد هذا كله وبعد أخذ المواثيق منهما على أن يبايع من بايعه، أعلن النتيجة بعد هذا الاستفتاء وهي قوله: (إني رأيت الناس لا يعدلون بعثمان) فبايعه علي وعبد الرحمن وسائر المسلمين بيعة رضى واختيار فدلّ ذلك على تقديمه في الأفضلية عليه، قال ابن تيمية: (وهذا إجماع منهم على تقديم عثمان على علي) ولما سأل رجل عبد الله بن المبارك أيهما أفضل علي أو عثمان قال: (قد كفانا ذاك عبد الرحمن بن عوف) ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حينما ولي عثمان الخلافة (أمَّرنا خير من بقي ولم نَأْل) .
ولهذا قال أيوب وأحمد بن حنبل والدارقطني: (من قَدَّم عليًا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار) ويفسِّر ابن تيمية ذلك بأنه: (لو لم يكن عثمان أحق بالتقديم وقد قدموه كانوا إما جاهلين بفضله، وإما ظالمين بتقديم المفضول من غير ترجيح ديني، ومن نسبهم إلى الجهل والظلم فقد أزرى بهم) .
والسلف وإن كان بعضهم يرى التوقف بعد ذكر عثمان، لا يقدِّمون على علي أحدًا بعد الثلاثة، كما قال الإمام أحمد: (من لم يربِّع بعلي فهو أضل من حمار أهله) وإنما من قال بالتوقف في التفضيل عند عثمان يريد الاقتداء بحديث ابن عمر السابق، فيذكرون الثلاثة ثم يجملون بقية أصحاب الشورى كما هي رواية عن الإمام أحمد نفسه فقد ذكر عنه اللالكائي قوله: (وخير الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان. نقدِّم هؤلاء الثلاثة كما قدَّمهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا في ذلك، ثم بعد هؤلاء الثلاثة أصحاب الشورى الخمسة: علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد كلهم يصلح للخلافة وكلهم إمام، ونذهب إلى حديث ابن عمر (كنا نعدّ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيّ وأصحابه متوافرون أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان) .
وبنحوه تمامًا عن علي بن المديني .
وإن كان ورد عنه نفسه رحمه الله روايات ينص فيها على التربيع بعلي منها الرواية السابقة: (من لم يربِّع بعلي فهو أضل من حمار أهله). ومنها رواية الإصطخري حيث قال فيها: (وخير الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم -: أبو بكر، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان بعد عمر، وعلي بعد عثمان، ووقف قوم على عثمان) .
ولذلك كانت خلاصة رأي الإمام أحمد رحمه الله في التفضيل - على ما يراه الخلال - هي من قوله: (من قال: أبو بكر وعمر وعثمان فقد أصاب. وهو الذي العمل عليه، ومن قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم فصحيح أيضًا جيد لا بأس به وبالله التوفيق) .
قلت: لكنه ورد عنه رحمه الله تكذيبه لمن نسبه إلى التوقف عند عثمان فقال في رواية محمد بن عوف الحمصي: (وخير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، فقلت له يا أبا عبد الله، فإنهم يقولون: إنك وقفت على عثمان؟ فقال: كذبوا والله علي، إنما حدثتهم بحديث ابن عمر - وذكر الحديث - ولم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تخايروا بعد هؤلاء بين أحد، ليس لأحد في ذلك حجة، فمن وقف على عثمان ولم يربع بعلي فهو على غير السنة يا أبا جعفر) .
فالحاصل أن من نص على التربيع على علي، ومن توقف عن التنصيص عند عثمان، كلهم لا يقدمون على علي بعد الثلاثة أحدًا، ولا يلزم من عدم التنصيص عليه بعد عثمان أنهم يقدمون عليه أحدًا، قال ابن تيمية: (فليس في أهل السنة من يقدم عليه - أي علي - أحدًا غير الثلاثة، بل يفضلونه على جمهور أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، وعلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وما في أهل السنة من يقول: إن طلحة والزبير وسعدًا وعبد الرحمن بن عوف أفضل منه، بل غاية ما يقولون السكوت عن التفضيل بين أهل الشورى) وقد حكى الحافظ ابن حجر الإجماع على أن ترتيب الخلفاء في الأفضلية كترتيبهم في الخلافة .
لكن من قدم عليًا على عثمان هل هو مبتدع أم لا؟ وعلى هذا السؤال يجيب الخلال، فقد قال بعد ذكره لعدة روايات مسنده عن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل فيمن قدم عليًا على عثمان قال: (فاستقر القول من أبي عبد الله أنه يكره هذا القول ولم يجزم في تبديعه، وإن قال قائل: هو مبتدع لم ينكر عليه وبالله التوفيق) .
هذا وبعض أهل السنة قد خمَّس بالخلفاء الراشدين، ولكن اختلفوا في الخامس، فمنهم من جعله عمر بن عبد العزيز، وُروي ذلك عن سفيان الثوري وروي عن الشافعي أيضًا. ومنهم من جعله الحسن بن علي لخلافته التي مدتها ستة أشهر قبل الصلح، واستدلوا على ذلك بحديث سفينة السابق ((الخلافة بعدي ثلاثون سنة...)) الحديث. وقد عدّوا هذه الأشهر الستة تمام الثلاثين سنة .
وهذا القول أقوى من سابقه، لأن معاوية رضي الله عنه أفضل من عمر بن عبد العزيز ولم يُعَّد منهم، ويكفيه فضلاً صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكتابته الوحي بين يديه وغيرهما وإنما اشتهر فضل عمر بن عبد العزيز لأنه أتى بعد سنوات من الظلم والعَسْفِ، فرفع المظالم ورد الأمانات إلى أهلها. أما معاوية رضي الله عنه فقد جاء بعد أفضل الأمة بعد الأنبياء، وهم الخلفاء الأربعة الراشدون رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ومع ذلك فقد كان له من الفضل والأمانة وحسن سياسة الرعية ومحبتهم له الشيء الكثير، روى الأثرم بسنده إلى أبي هريرة المكتَّب قال: كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله فقال الأعمش: (فكيف لو أدركتم معاوية؟) قالوا في حلمه؟ قال: (لا والله بل في عدله) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (اتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة) . وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث في فضله رضي الله عنه، هذا من ناحية الخلفاء، أما أفضل الصحابة عمومًا بعد الأربعة فهم بقية أهل الشورى.
من السنة المفاضلة بين الخلفاء الراشدين قد يعترض معترض فيقول: الأولى أن نحبّ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - جميعاً ولا نفاضل بينهم، ولهذا المعترض نقول: السنة المفاضلة بينهم على ما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وسار عليه السلف الصالح من تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله تعالى عنهم أجمعين على سائر الصحابة، وقد سئل الإمام أحمد عن رجل يحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يفضل بعضهم على بعض وهو يحبهم قال: (السنة أن يفضل أبا بكر وعمر وعثمان وعلي من الخلفاء) .
وإنما الذي ذموا التحدث فيه والتعرض له هو ما شجر بين الصحابة من قتال وفتن بعد مقتل الشهيد عثمان رضي الله عنه، ثم النزاع الذي حصل بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ومن معهما من الصحابة
الفرع الرابع: المفاضلة بين جماعات الصحابة
لقد دل كتاب الله على تفاضل جماعات الصحابة، فالله عز وجل فضل الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا على الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، والمقصود بالفتح صلح الحديبية . قال سبحانه: {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [ الحديد: 10]. وفضل الله السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على من دونهم، فقال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [ التوبة: 100].
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وهذا نص على تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كما يقول القرطبي . وقد اختلف في تعيين السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على أقوال :
أحدها: أنهم الذين صلوا إلى القبلتين.
الثاني: أنهم أهل بيعة الرضوان.
الثالث: أنهم أهل بدر.
الرابع: أنهم جميع الصحابة بلا استثناء وأن الذين اتبعوهم بإحسان هم تابعوهم من غير الصحابة.
هذه الأقوال المنقولة عن السلف من الصحابة والتابعين، وزاد المتأخرون قولين:
أحدهما: أنهم السابقون بالموت والشهادة، قال ابن الجوزي: (ذكره الماوردي) .
الثاني: أنهم الذين أسلموا قبل الهجرة، قال ابن الجوزي: (ذكره القاضي أبو يعلى) .
قال القرطبي: (واتفقوا على أن من هاجر قبل تحويل القبلة فهو من المهاجرين الأولين من غير خلاف بينهم) . والذي أرى في اللفظ دلالة عليه أن المراد بالسابقين الأولين الذين سبقوا إلى الإسلام والهجرة والنصرة, وابتدروا ذلك قبل تمكن الإسلام وتتابع الناس عليه، ولا شك أن أول من يدخل في هؤلاء أوائل من أسلم من المهاجرين كالخلفاء الأربعة ومن الأنصار الذين أسلموا ليلتي العقبة. ولعل جميع من أسلم حتى غزوة الحديبية من السابقين الأولين . ذلك أن صلح الحديبية كان فتحاً للمسلمين، فقد نزل قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [ الفتح: 1]. في منصرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية . ولم يكن الصحابة يعدون الفتح إلا الحديبية كما قال البراء رضي الله عنه: (تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية) . وفي (مغازي الواقدي) عن أبي بكر وعمر أن كلاً منهما قال: (ما كان فتح في الإسلام أعظم من فتح الحديبية) . فكان يوم الحديبية فتحاً للإسلام والمسلمين تتابع الناس بعده على الإسلام لما ترتب على الصلح من وقوع الأمن ورفع الحرب وتمكن من يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة من ذلك كما وقع لخالد وعمرو وغيرهما، ولعله مما يقوي هذا الرأي تفسير جمع من أهل العلم الفتح بالحديبية في قوله: {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا} فيستأنس بهذا التفضيل في الآية على أنه للسابقين الأولين، وتفسير العلماء للفتح بالحديبية على أن السابقين هم من أسلم قبل الحديبية. والله أعلم.
ودل كتاب الله على تفضيل المهاجرين على الأنصار فقد قدم الله ذكرهم على ذكر الأنصار في كتابه، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [ الأنفال: 74]. فقدم ذكر الذين هاجروا على الذين آووا ونصروا.
وقال سبحانه: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [ التوبة: 117]. فبدأ بذكر المهاجرين بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم بذكر الأنصار، وقال سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [ الحشر: 8-9]. فبدأ بذكر المهاجرين ثم الأنصار، وأفرد سبحانه ذكر المهاجرين في مواضع من كتابه كقوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [ آل عمران: 195]. وقال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [ التوبة: 20].
وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [ النحل: 41-42].
قال ابن تيمية رحمه الله في بيان أصول أهل السنة: (ويفضلون من أنفق من قبل الفتح – وهو صلح الحديبية – وقاتل على من أنفق من بعده وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار) .
وفي عقيدة الإمام أحمد أنه كان يقول: (أفضل الصحابة أهل بيعة الرضوان وخيرهم وأفضلهم أهل بدر، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وأعيانهم الأربعون أهل الدار، وخيرهم عشرة شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وهو عنهم راض, وأعيانهم أهل الشورى الذين اختارهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه للمسلمين, وأفضلهم الخلفاء الأربعة) .
وقد صنف العلماء الصحابة في طبقات اختلفوا في عددها، قال السيوطي في (شرح التقريب) (واختلف في عدد طبقاتهم – (يعني الصحابة) – باعتبار السبق إلى الإسلام, أو الهجرة, أو شهود المشاهد الفاضلة، فجعلهم ابن سعد خمس طبقات, وجعلهم الحاكم اثنتي عشرة طبقة) .
قال أحمد شاكر رحمه الله: (وزاد بعضهم أكثر من ذلك، والمشهور ما ذهب إليه الحاكم) .
والمراتب التي جعلها الحاكم للصحابة هي:
قوم أسلموا بمكة.
أصحاب دار الندوة.
المهاجرة إلى الحبشة.
أصحاب بيعة العقبة الأولى.
أصحاب بيعة العقبة الثانية.
أول المهاجرين الذين وصلوا والنبي في قباء قبل أن يدخلوا المدينة ويبنى المسجد.
أهل بدر.
المهاجرة الذين هاجروا بين بدر والحديبية.
أهل بيعة الرضوان.
المهاجرة بين الحديبية والفتح.
الذين أسلموا يوم الفتح.
صبيان وأطفال رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وفي حجة الوداع وغيرها وعدادهم في الصحابة .
ولعل المراتب السبع الأولى هي مراتب السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والله أعلم.
أما الطبقات الخمس التي جعلها ابن سعد في كتابه للصحابة فالأمر فيها ما قاله أحمد شاكر: (لو كان المطبوع كاملا لاستخرجناها منه وذكرناها) . وأظن أن الطبقات التي جعلها ابن سعد هي الطبقات التي صنف عليها ابن الجوزي في كتابه (صفة الصفوة) من ترجم له من الصحابة، فإنه قال: (بدأت بذكر العشرة ثم ذكرت من بعدهم على ترتيب طبقاتهم) والطبقات التي ذكرها خمس هي:
الطبقة الأولى على السابقة في الإسلام ممن شهد بدراً من المهاجرين والأنصار، وحلفائهم ومواليهم .
من لم يشهد بدراً من المهاجرين والأنصار وله إسلام قديم .
من شهد الخندق وما بعده .
من أسلم عند الفتح وفيما بعد ذلك .
الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أحداث الأسنان .
وفي المطبوع من (طبقات ابن سعد) ذكر الطبقتين الأوليين على نفس الوصف الذي ذكره ابن الجوزي تماماً . والعلماء وإن أرادوا بهذا التقسيم معرفة الصحابة لا ذكر التفاضل إلا أنهم قد اعتبروا وجوه الفضل والتفاضل في التقسيم، والله أعلم.
القسم الثاني: في ترتيب التفاضل بين جماعات الصحابة – رضي الله عنهم:
وقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: مذهب أهل السنة:
ويرى أن أفضل جماعات الصحابة رضي الله عنهم: الخلفاء الأربعة ثم الستة الباقون بعدهم إلى تمام العشرة المبشرين بالجنة.
ثم البدريون ثم أصحاب أحد ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية.
وممن ذكر ذلك أبو منصور البغدادي حيث قال في (أصول الدين):
(أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم: الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون بعدهم إلى تمام العشرة وهم: طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنهم.
ثم البدريون، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية) .
كما ذكر ذلك ابن كثير وغيره .
جاء في عقيدة الإمام أحمد وعلي بن المديني اللتين رواهما اللالكائي بسنده عنهما أنه يلي الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان في الفضل بقية أصحاب الشورى الخمسة: علي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وهما لا يقدمان على علي أحداً بعد الثلاثة بل قالا هذا موافقة لحديث ابن عمر كما تقدم بيانه.
قال ابن تيمية رحمه الله: (ما في أهل السنة من يقول: إن طلحة والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف أفضل منه (يعني من علي) – بل غاية ما يقولون السكوت عن التفضيل بين أهل الشورى وهؤلاء أهل الشورى عندهم أفضل السابقين الأولين والسابقون الأولون أفضل من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا) والحاصل أن بقية أصحاب الشورى الذين جعل عمر رضي الله عنه فيهم الأمر من بعده يختارون أحدهم أفضل الصحابة بعد علي رضي الله عنه عند أهل السنة والجماعة، وقال الإمام أحمد: (ثم من بعد أصحاب الشورى: أهل بدر من المهاجرين ثم أهل بدر من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قدر الهجرة والسابقة أولاً فأول) . وقد نقل جماعة من أهل العلم أن أفضل الصحابة بعد الأربعة بقية العشرة المبشرين بالجنة وهم أصحاب الشورى المذكورون, وسعيد بن زيد, بن عمرو بن نفيل, وأبو عبيدة بن الجراح . ثم من بعد العشرة أهل بدر الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم: ((لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) . وفي لفظ: ((فقد وجبت لكم الجنة)) . وجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين – أو كلمة نحوها – قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة)) . ثم أهل أحد ثم أهل بيعة الرضوان الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [ الفتح: 10]. وقال فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [ الفتح: 18]. وقال فيهم صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل النار، إن شاء الله، من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها)) .
وقد كانوا أكثر من ألف وأربعمائة صحابي كما في الصحيح .
ذكر هذا الترتيب في الفضل بعد العشرة النووي . وابن الصلاح ، وابن كثير . وذكر السفاريني تقديم أهل بيعة الرضوان على أهل أحد بعد أهل بدر وقال: (هو الأصح)، وقال: (لأن الله تعالى قال في أهل بيعة الرضوان: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [ الفتح: 18]. وقال في أهل غزوة أحد: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [ آل عمران: 155]. وفي الآية الأخرى: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ}[ آل عمران: 152]. فوصفهم في الموضعين بالعفو, ووصف أهل البيعة بالرضى, وهو أعلى وأسنى وأفضل من العفو) قال: (وهذا ظاهر والله تعالى أعلم) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
قال بعض العلماء: أن أهل أحد مقدمون على أهل بيعة الرضوان، ومن المعلوم أن من الصحابة من كان من أهل بدر ومن العشرة ومن أهل بيعة الرضوان ومن أهل أحد يعني بعض الصحابة اجتمعت لهم الأوصاف الأربعة وبعضهم لا، إذا قلنا: إن أهل أحد مقدمون على أهل بيعة الرضوان، أيهم أكثر ؟
أهل بيعة الرضوان لأن أهل بيعة الرضوان ألف وأربعمائة وأهل أحد نحو سبعمائة نفر لكن أصابهم من البلاء والتمحيص والقتل ما لم يكن في بيعة الرضوان، لهذا رجَّح بعض العلماء أهل أحد على أهل بيعة الرضوان، ولكن الذي يظهر القول الأول: أن أهل بيعة الرضوان أفضل
الفرع الخامس: المفاضلة بين الصحابيات
لا ريب أن التفاضل كما أنه واقع بين الصحابة واقع بين الصحابيات أيضاً، ولقد ثبت في الكتاب والسنة تفضيل نساء النبي صلى الله عليه وسلم عامة, وخديجة وعائشة خاصة وابنته فاطمة رضي الله عنهن على جميع الصحابيات.
قال تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [ الأحزاب: 32]. فهذا في تفضيل نساء النبي صلى الله عليه وسلم عامة, وأنه لا يلحقهن في فضلهن إن اتقين الله أحد من النساء فهن أكرم على الله من غيرهن.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((خير نسائها مريم ابنة عمران، وخير نسائها خديجة)) . فهذا في تفضيل خديجة رضي الله عنها.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام)) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة)) .
وفي لفظ: ((أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة)) .
وقد اشتهر الخلاف في خديجة وعائشة وفاطمة أيهن أفضل رضي الله عنهن، قال ابن تيمية: (أفضل نساء هذه الأمة خديجة وعائشة وفاطمة، و في تفضيل بعضهن على بعض نزاع وتفصيل) .
وإذا نظرنا في النصوص الواردة في تفضيل كل واحدة منهم – رضي الله عنهن – وجدنا أن اللفظ الوارد في تفضيل خديجة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((خير نسائها خديجة)) إنما يتضح تمام معناه بمعرفة الضمير على أي شيء يعود، وقد ورد ما يفسر ذلك صريحاً فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لقد فضلت خديجة على نساء أمتي)) . وقال صلى الله عليه وسلم: ((أفضل نساء أهل الجنة خديجة, وفاطمة, ومريم, وآسية)) . قال ابن حجر: (وهذا نص صريح لا يحتمل التأويل) . وقال صلى الله عليه وسلم: ((حسبك من نساء العالمين: مريم ابنة عمران, وخديجة بنت خويلد, وفاطمة بنت محمد, وآسية امرأة فرعون)) .
فهذا النص في خديجة رضي الله عنها أنها أفضل نساء الأمة.
ثم إن اللفظ الوارد في تفضيل فاطمة رضي الله عنها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة)) وفي لفظ: ((سيدة نساء أهل الجنة)) فهو صريح لا لبس فيه ولا يحتمل التأويل، وهو نص في أنها أفضل نساء الأمة, وسيدة نساء أهل الجنة، وقد شاركت أمها في هذا التفضيل, فهي وأمها أفضل نساء أهل الجنة، وهي وأمها أفضل نساء الأمة، بهذا وردت النصوص.
وأما اللفظ الوارد في تفضيل عائشة رضي الله عنها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام)) فهو لفظ لا يستلزم الأفضلية المطلقة كما يقول ابن حجر وقال رحمه الله: (وليس فيه تصريح بأفضلية عائشة رضي الله عنها على غيرها، لأن فضل الثريد على غيره من الطعام إنما هو لما فيه من تيسير المؤنة وسهولة الإساغة، وكان أجل أطعمتهم يومئذ، وكل هذه الخصال لا تستلزم ثبوت الأفضلية له من كل جهة فقد يكون مفضولاً بالنسبة لغيره من جهات أخرى) ومحصل القول في الحديث أنه دال على أفضلية عائشة إلا أنه لا يستلزم الأفضلية المطلقة, إذ هو مقيد بما ورد في خديجة وفاطمة رضي الله عنهما, فهو دال على تفضيل عائشة على النساء إلا خديجة وفاطمة.
وأما حديث عمرو بن العاص لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أحب إليك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((عائشة)) فإن ابن حبان رحمه الله دلل على تقييده في نسائه صلى الله عليه وسلم فقد عقد عنواناً في (صحيحه) فقال: (ذكر خبر وهم في تأويله من لم يحكم صناعة الحديث) وأخرج تحته حديث عمرو بلفظ: ((قلت: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، فقلت: إني لست أعني النساء إنما أعني الرجال، فقال: أبو بكر أو قال أبوها)) ثم قال ابن حبان: (ذكر الخبر الدال على أن مخرج هذا السؤال معا كان عن أهله دون سائر النساء في فاطمة وغيرها) وأخرج بسنده عن أنس قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة, قيل له: ليس عن أهلك نسأل، قال: فأبوها)) . ثم هو محمول على إرادة الأحياء من زوجاته الموجودات حين السؤال، ثم هو وإن دل على عموم تفضيلها رضي الله عنها إلا أنه مقيد بالنص في خديجة وفاطمة والله أعلم.
فالنصوص دالة دلالة بينة لا تحتاج إلى تأويل على أن عائشة تلي خديجة وفاطمة في الفضل رضي الله عنهن، وعلى المخالف أن يأتي بالدليل على استثناء عائشة رضي الله عنها، من قوله صلى الله عليه وسلم في كل من خديجة وفاطمة أنها أفضل أهل الجنة وأنها سيدة نساء هذه الأمة.
على أن لعائشة رضي الله عنها من الفضائل كالعلم مثلاً ما تختص به خديجة وفاطمة رضي الله عنهن، وفضائلها رضي الله عنها لا تحصر، إلا أن هذا على نحو ما تقرر من أنه لا يلزم من ثبوت خصوصية شيء من الفضائل ثبوت الفضل المطلق.
هذا، والنص لم يرد بتفضيل خديجة أو فاطمة على عائشة لفظاً كما ورد بتفضيل أبي بكر على عمر مثلاً, ولولا ما حدث من الكلام في هذا الأمر واشتهار الخلاف فيه حتى أنه قد أُلف فيه لكان الواجب الأخذ بالأصل وهو أن يسعنا ما ورد في الشرع من إقرار ما جاء من الفضل لخديجة، وما جاء منه لفاطمة، وما جاء منه لعائشة على نحو ما ورد في النصوص من غير تعرض للمفاضلة بينهن، فإن دعت حاجة شرعية لذكر المفاضلة بينهن ذكرت، والله أعلم.
وقد قامت بعض الأدلة غير التي ذكرت على تفضيل خديجة على عائشة منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت، معها إناء فيه إدام وطعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني, وبشرها ببيت في الجنة من قصب, لا صخب فيه ولا نصب))
وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: ((يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام، فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته, ترى ما لا أرى، تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) . فالسلام لخديجة رضي الله عنها كان من الرب سبحانه ومن جبريل، ولعائشة رضي الله عنها من جبريل فقط . وفي المتفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت في خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم: ((ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين, هلكت في الدهر, فقد أبدلك الله خيراً منها)) . وورد في هذه القصة في غير الصحيحين بأسانيد حسان زيادة أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب حتى أقسمت عائشة ألا تذكر خديجة بعد ذلك إلا بخير , وفي رواية زيادة قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبدلني الله خيراً منها)) وذكره صلى الله عليه وسلم جملة من فضائلها . ولقد قالت عائشة رضي الله عنه: ((ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة, وما رأيتها ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صداق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: إنها كانت وكانت, وكان لي منها ولد)) .
وقد قال ابن العربي في خديجة رضي الله عنها: (وهي أفضل نساء الأمة من غير خلاف) . قال ابن حجر: (رد بأن الخلاف ثابت قديماً وإن كان الراجح أفضلية خديجة) . وعائشة رضي الله عنها أفضل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة، لأنه لم يقيد من عموم تفضيلها على النساء إلا خديجة وفاطمة بالنص, ولقد ورد فيما لا يحصى من النصوص ما يدل على تفضيلها رضي الله عنها على بقية زوجاته صلى الله عليه وسلم، منها حديث: ((كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة، فقلن: يا أم سلمة، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس: أن يهدوا إليه حيث كان، أو حيث دار، قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم، قالت: فأعرض عني، فلما عاد إلي ذكرت له ذلك فأعرض عني، فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها)) وفي رواية: ((أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة رسول الله)) . وحديث: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول: أين أنا غداً؟ حرصاً على بيت عائشة، قالت عائشة: فلما كان يومي سكن)) .
وروى أن زياداً بعث إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بمال وفضل عائشة فجعل مبعوثه يعتذر إلى أم سلمة فقالت: ((يعتذر إلينا زياد فقد كان يفضلها من كان أعظم علينا تفضيلاً من زياد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) .
ثم زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أفضل نساء الأمة لقوله تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} وإنما خصت فاطمة رضي الله عنها من عموم الآية بقوله صلى الله عليه وسلم فيها أنها سيدة نساء الأمة . وقد قيل إن الإجماع انعقد على أفضلية فاطمة .
والحاصل أن فاطمة سيدة نساء هذه الأمة، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المؤمنات على الإطلاق وأفضلهن خديجة وقد شاركتها ابنتها فاطمة في كونهما أفضل نساء الأمة، ثم بعد خديجة عائشة ثم بقية أزواجه صلى الله عليه وسلم بعد عائشة، هذا وفي حديث عائشة رضي الله عنها الطويل الذي فيه ما وقع لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيذاء والمتاعب لما خرجت من مكة بعد قدوم أبيها صلى الله عليه وسلم المدينة قال صلى الله عليه وسلم في زينب: ((هي أفضل بناتي، أصيبت في)) .
وهذا يشكل ما ورد في فاطمة رضي الله عنها من التفضيل لأنه يدل على أن زينب أفضل من فاطمة رضي الله عنهما.
وقد أجاب الطحاوي عن هذا الإشكال بأن ذلك كان متقدماً ثم وهب الله فاطمة من الفضائل والأحوال الشريفة ما لم يشاركها فيه أحد من نساء الأمة، قال: (وكانت – (يعني فاطمة) – قبل ذلك الوقت الذي استحقت زينب ما استحقت من الفضيلة صغيرة غير بالغة مما لا يجري لها ثواب بطاعتها, ولا عقاب بخلافها) .
وذكر ابن حجر وجها آخر من الجواب وهو احتمال تقدير (من) فيكون المراد من أفضل بناتي ..
المطلب الثالث: فضائل الخلفاء الأربعة
الفرع الأول: فضل أبي بكر الصديق
هو أبو بكر عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن مرة التيمي، أول الرجال إسلاماً، وأفضل الأمة على الإطلاق رضي الله عنه....... وأما فضله فقال تبارك وتعالى {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40]، وقال الله تبارك وتعالى {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33]، وقال {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 – 21] حكى جماعة من المفسرين على أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه .
وفي (الصحيحين) من حديث الهجرة الطويل: ((فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: هذا الطلب، قد لحقنا يا رسول الله، فقال: لا تحزن إن الله معنا)) .
وفيهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن أبي بكر رضي الله عنه قال: ((قلت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أنّ أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: ما ظنّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)) .
وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كنّا نخير بين الناس في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم)) .
وفي لفظ قال: ((كنّا في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم)) .
وفيهما واللفظ لمسلم عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنّهما سمعا أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما رجلٌ يسوق بقرةً له قد حمل عليها التفتت إليه البقرة فقالت: إنّي لم أخلق لهذا ولكنّي إنّما خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله تعجباً وفزعاً أبقرة تكلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنّي أؤمن به وأبو بكر وعمر)) وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما راعٍ في غنمه عدا عليها الذئب فأخذ منه شاة فطلبه الراعي حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب فقال له: من لها يوم السبع، يوم ليس لها راع غيري. فقال الناس: سبحان الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنّي أؤمن بذلك أنا وأبو بكر وعمر)) .، وفي رواية لهما: ((ومن ثم أبو بكر وعمر)) . ولمسلم ((وما هما ثم)) .
وفي (صحيح البخاري) عن همام قال: سمعت عماراً يقول: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلاّ خمسة أعبُدٍ وامرأتان وأبو بكر)) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وفيه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ((كنت جالساً عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أمّا صاحبكم فقد غامر، فسلّم وقال: يا رسول الله إنّه كان بيني وبين ابن الخطاب شيءٌ فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى عليّ فأقبلت إليك. فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر (ثلاثاً)، ثم إنّ عمر رضي الله عنه ندم فأتى منزل أبا بكر فسأل: أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فسلّم عليه فجعل وجه النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتمعّر حتى أشفق أبو بكر رضي الله عنه فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله والله أنا كنت أظلم. مرتين. فقال صلى الله عليه وسلم: إنّ الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مرتين. فما أوذي بعدها – وفي رواية – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أنتم تاركو لي صاحبي، هل أنتم تاركو لي صاحبي؟ إنّي قلت يا أيّها الناس إنّي رسول الله إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت)) . قال أبو عبد الله - هو البخاري -: سبق بالخير.
ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أنفق زوجين من شيءٍ من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنّة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصّدقة دعي من باب الصّدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان. فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة. وقال: هل يدعى منها كلها أحدٌ يا رسول الله؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر)) .
وفيه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: ((أيّ الناس أحبّ إليك؟ قال: عائشة، فقلت: من الرجال؟ فقال: أبوها. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب، فعدّ رجالاً)) .
وفيه عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أيّ الناس خيرٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول عثمان فقلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلاّ رجلٌ من المسلمين .
وفيه عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبيّنات من ربّكم .
وفيهما عن سعيد بن المسيب قال: أخبرني أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أنّه توضّأ في بيته ثم خرج فقلت: لألزمنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأكوننّ معه يومي هذا، قال فجاء المسجد فسأل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: خرج ووجّه ههنا، فخرجت على إثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس فجلست عند الباب وبابها من جريد – حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته فتوضّأ، فقمت إليه فإذا هو جالسٌ على بئر أريس وتوسّط قفّها وكشف عن ساقيه ودلاّهما في البئر فسلّمت عليه ثم انصرفت فجلست عند الباب فقلت لأكوننّ بوّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم، فجاء أبو بكر فدفع الباب فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر، فقلت: على رسلك، ثم ذهبت فقلت يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن، فقال: ائذن له وبشّره بالجنة، فأقبلت حتى قلت لأبي بكر: ادخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشّرك بالجنة، فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القف ودلّى رجليه في البئر كما صنع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكفّ عن ساقيه، ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، فقلت: إن يرد الله بفلانٍ خيراً – يريد أخاه – يأت به، فإذا إنسانٌ يحرّك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب، فقلت: على رسلك، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّمت عليه فقلت: هذا عمر بن الخطاب يستأذن، فقال: ائذن له وبشّره بالجنّة، فجئت فقلت له: ادخل وبشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنّة، فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القفّ عن يساره ودلى رجليه في البئر، ثم رجعت فجلست فقلت: إن يرد الله بفلانٍ خيراً يأت به، فجاء إنسانٌ يحرّك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان، فقلت: على رسلك، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: ائذن له وبشّره بالجنّة على بلوى تصيبه، فقلت له: ادخل وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنّة على بلوى تصيبك، فدخل فوجد القفّ قد ملئ فجلس وجاهه من الشّقّ الآخر. قال سعيد بن المسيب: فأولتها قبورهم .
وفيهما عن أنس رضي الله عنه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم فقال: ((اثبت، فإنما عليك نبيٌّ وصدّيقٌ وشهيدان)) .
وله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، ووافق ذلك عندي مالاً، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً. قال فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله. وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكلّ ما عنده فقال: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسبقه إلى شيءٍ أبداً)) هذا حديث حسن صحيح .
ولمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئٍ إلاّ دخل الجنّة)) .
والأحاديث في الصديق كثيرة جداً، قد أفردت بالتصنيف، وفيما ذكر كفاية في التنبيه على ما وراءه، وما أحسن ما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

إذا تذكّرت شجواً من أخٍ ثقةٍ
فاذكر أخاك أبا بكر بما فعـلا

خير البريّة أوفاهـا وأعدلهـا
بعـد النّبيّ وأولاها بما حمـلا

والتالي الثاني المحمود مشهـده
وأوّل النّاس منهم صدّق الرّسلا

عاش حمـيـداً لأمر الله متّبعاً
بأمر صاحبه الماضي وما انتقلا

مواقفه العظيمة
وأما ما منحه الله تعالى من المواقف العظيمة مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم من حين بعثته إلى أن توفاه الله عز وجل من نصرته والذب عنه والشفقة عليه والدعوة إلى ما دعا إليه وملازمته إياه ومواساته بنفسه وماله، وتقدمه معه في كل خير، فأمرٌ لا تدرك غايته، ثم لما توفى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم كان من رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن ولاه أمرهم بعد نبيه، وجمعهم عليه بلطفه، فجمع الله به شمل العرب بعد شتاته، وقمع به كل عدوّ للدين ودمّر عليه وألف له الأمة وردّهم إليه، بعد أن ارتدّ أكثرهم عن دينه وانقلب الغالب منهم على أعقابهم كافرين. حتى قيل: لم يبق يصلى إلاّ في ثلاثة مساجد الحرمين الشريفين, ومسجد العلاء الحضرمي بالبحرين، فردّهم الله تعالى إلى الحق طوعاً وكرهاً وأطفأ به كل فتنة في أقل من ستة أشهر ولله الحمد والمنة.
قال الله تبارك وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} [المائدة:54] الآيات. قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن البصري وقتادة: هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ومانعي الزكاة .
وذلك أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لما قبض ارتد عامة العرب، إلا أهل مكة والمدينة والبحرين من عبد القيس، ومنع بعضهم الزكاة. وهمّ أبو بكر رضي الله عنه بقتالهم فكره ذلك أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقال عمر رضي الله عنه: ((كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم منّي ماله ونفسه إلا بحقه وحسابهم على الله عز وجل، فقال أبو بكر رضي الله عنه: فوالله لأقتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإنّ الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها)) .
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كرهت الصحابة رضي الله عنهم قتال مانعي الزكاة وقالوا أهل القبلة، فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده، فلم يجدوا بداً من الخروج في أثره . قال أبو بكر بن عياش: سمعت أبا حصين يقول: ما ولد بعد النبيين مولود أفضل من أبي بكر رضي الله عنه، لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردّة .
وكان قد ارتد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث فرق: منهم بنو مذحجٍ ورئيسهم الخمار عبهلة بن كعب العنسي ويلقب بالأسود، وكان كاهناً مشعبذاً فتنبأ باليمن واستولى على بلاده، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسك بدينهم وعلى النّهوض لحرب الأسود فقتله فيروز الديلمي على فراشه قال رضي الله عنه: ((فأتى الخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم من السّماء في الليلة التي قتل فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: قتل الأسود البارحة قتله رجلٌ مبارك، قيل: ومن هو؟ قال: فيروز، فاز فيروز)) . فبشّر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بهلاك الأسود وقبض النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الغد وأتى خبر مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول بعد ما خرج أسامة وكان ذلك أول فتح جاء أبا بكر رضي الله عنه .
والفرقة الثانية بنو حنيفة ورئيسهم مسيلمة الكذاب، وكان قد تنبّأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر وزعم أنّه اشترك مع محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله، إلى محمد رسول الله: أما بعد فإنّ الأرض نصفها لي ونصفها لك وبعث إليه رجلين من أصحابه فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لولا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما)). ثم أجاب: ((من محمّدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى مسيلمة الكذاب: أمّا بعد فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين))
ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذّاب في جيشٍ كثير حتى أهلكه الله على يد وحشي غلام مطعم بن عديّ الذي قتل حمزة بن عبد المطلب بعد حرب شديدة، وكان وحشي يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية وشرّ الناس في الإسلام .
والفرقة الثالثة بنو أسد ورأسهم طليحة بن خويلد، وكان طليحة آخر من ارتدّ وادعى النبوّة في حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأوّل من قوتل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الردّة، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد فهزمهم خالد بعد قتال شديد، وأفلت طليحة فمرّ على وجهه هارباً نحو الشام، ثم إنّه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه.
وارتدّ بعد وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه خلق كثير حتى كفى الله المسلمين أمرهم، ونصر دينه على يدي أبي بكر رضي الله عنه، قالت عائشة رضي الله عنها: توفي رسول الله وارتدت العرب واشرأبّ النفاق ونزل بأبي ما لو نزل بالجبال لهاضها ...
وروى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] قال الحسن: هو والله أبو بكر وأصحابه .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي في (سننه) وابن عساكر عن قتادة: قال الله تعالى هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ} [المائدة:54] وقد علم أنّه سيرتد مرتدّون من الناس، فلما قبض الله نبيّه صلى الله عليه وسلم ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل الجواثي من عبد القيس. وقال الذين ارتدوا: نصلي الصلاة ولا نزكي، والله لا تغصب أموالنا. فكلم أبو بكر في ذلك ليتجاوز عنهم، وقيل له: إنّهم لو قد فقهوا أدوا الزكاة. فقال: والله لا أفرّق بين شيء جمعه الله عز وجل، ولو منعوني عقالاً مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه، فبعث الله عصائب مع أبي بكر فقاتلوا حتى أقروا بالماعون وهو الزكاة . قال قتادة: فكنّا نتحدّث أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر وأصحابه {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] إلى آخر الآية .
ولا ينافي هذا ما ورد من أنّها نزلت في أهل اليمن كما أخرج ابن جرير عن شريح بن عبيد قال: لما أنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} [المائدة:54]. الآية، قال عمر رضي الله عنه: أنا وقومي يا رسول الله؟ قال: ((لا بل هذا وقومه)) يعني أبا موسى الأشعري .
وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة في (مسنده) وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه، والبيهقي في (الدلائل) عن عياض الأشعري قال: ((لما نزلت {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] قال رسول الله: هم قوم هذا وأشار إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه)) .
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والحاكم في (جمعه لحديث شعبة) والبيهقي وابن عساكر عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ((تليت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] الآية فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: قومك يا أبا موسى الأشعري، أهل اليمن)) .
وأخرج ابن أبي حاتم في (الكنى) والطبراني في (الأوسط) وأبو الشيخ وابن مردويه بسندٍ حسن عن جابر بن عبد الله قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] الآية فقال: هؤلاء قوم من أهل اليمن ثم كندة ثم السكون ثم تجيب)) .
وأخرج ابن أبي شيبة عنه قال: هم أهل القادسية .
قلت: وكان غالب أهل القادسية من أهل اليمن، بل كانت بجيلة ربع الناس فضلاً عن غيره، وكان بأس الناس الذي هم فيه، كما رواه ابن إسحاق عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: وكان يمر عمرو بن معد يكرب الزبيدي فيقول: يا معشر المهاجرين كونوا أسوداً، فإنما الفارسي تيس . وقد قتل رضي الله عنه أسواراً فارس الفرس وأبلى بلاء حسناً، وكانت له اليد البيضاء يومئذ.
وأخرج البخاري رحمه الله تعالى في (تاريخه) عن القاسم بن ينخسرة قال: أتيت ابن عمير فرحب بي ثم تلا {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] الآية ثم ضرب على منكبي وقال: أحلف بالله أنّه لمنكم أهل اليمن – ثلاثاً .
وكلّ هذا لا ينافي ما قدمناه من نزولها في أبي بكر أولاً، فإن أهل اليمن لم يرتد جميع قبائلهم يومئذٍ، وإنّما ارتدّ كثيرٌ منهم مع الأسود وثبت كثيرٌ منهم على الإيمان مع معاذ بن جبل وأبي موسى وفيروز الديلمي وغيرهم من عمّال النبي صلى الله عليه وسلم ونشب بين مؤمنيهم وكافريهم قتال عظيم حتى قتل الله الأسود على يد فيروز وأيد الله الذين آمنوا منهم على عدوهم فأصبحوا ظاهرين، ولكن لم يرجع أمرهم على ما كانوا عليه قبل العنسي إلاّ في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، فإنّه لم يزل يتابع الكتائب مدداً لمؤمنهم على كافرهم حتى راجعوا الإسلام وكانوا من أعظم أنصاره حتى صار رؤساء ردتهم كعمرو بن معد يكرب وقيس بن مكشوح وغيرهم من أعظم الناس وأشدهم بلاءً في أيام الردة والفتوح، فحينئذٍ عاد المعنى إلى أبي بكر وأصحابه وهم من أصحابه، وكل هذا في شأن السبب لنزول الآية، وإلا فهي عامة لكل مؤمن يحبّ الله ويحبه ويوالي فيه ويعادي فيه ولا يخاف في الله لومة لائم.
وكان أبو بكر وأصحابه أسعد النّاس بذلك وأقدمهم فيه وأسبقهم إليه وأول من تناولته الآية، رضي الله عنه وأرضاه وعن أنصار الإسلام وحزبه أجمعين.
وفي (الصحيحين) وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لمّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم منّي ماله ونفسه إلا بحقّه وحسابه على الله عز وجل فقال أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإنّ الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنّه الحق)) .
وتفاصيل مواقفه العظام رضي الله عنه مشهورة مبسوطة في كتب السيرة وغيرها وكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر، وكانت وفاته رضي الله عنه في يوم الإثنين عشية، وقيل: بعد المغرب ودفن من ليلته وذلك لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة بعد مرض خمسة عشر يوماً، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي بالمسلمين، وفي أثناء هذا المرض عهد بالأمر من بعده إلى عمر بن الخطاب، وكان الذي كتب العهد عثمان بن عفان وقرئ على المسلمين فأقرّوا به وسمعوا له وأطاعوا. وكان عُمْر الصديق رضي الله عنه يوم توفي ثلاثاً وستين سنة السن الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جمع الله بينهما في التربة كما جمع بينهما في الحياة، فرضي الله عنه وأرضاه، ومن جميع أبواب الجنة دعاه، وقد فعل ولله الحمد والمنة.
الفرع الثاني فضل: عمر بن الخطاب
عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب العدوي ثاني الخلفاء وإمام الحنفاء بعد أبي بكر رضي الله عنهما وأوّل من تسمى أمير المؤمنين.... تقدمت إشارات النصوص النبوية وكثير من فضائله... التي شارك فيها أبا بكر. وفي (الصحيحين) عن جابر رضي الله عنه قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ((رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خشخشة فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصراً بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقال: لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك، فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار؟)) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأةٌ تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر، فذكرت غيرته فولّيت مدبراً. فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟)) .
وعن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينا أنا نائم إذ رأيت قدحاً أتيت به فيه لبن فشربت منه حتى إنّي لأرى الريّ يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب. قالوا: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم)) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بينا أنا نائمٌ رأيت الناس عرضوا عليّ وعليهم قمص، فمنها ما يبلغ الثّدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك. وعرض عليّ عمر بن الخطاب وعليه قميصٌ يجتره. قالوا: فما أوّلته يا رسول الله؟ قال: الدين)) .
وعن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: ((استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده نسوةٌ من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهنّ على صوته صلى الله عليه وسلم، فلمّا استأذن عمر بن الخطاب قمن فبادرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنّك يا رسول الله، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: عجبت من هؤلاء اللاتي كنّ عندي، فلمّا سمعن صوتك ابتدرن الحجاب. فقال عمر: فأنت أحقّ أن يهبن يا رسول الله. فقال عمر: يا عدوّات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلن: نعم أنت أفظّ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إيهاً يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجّا قط إلا سلك فجّاً غير فجك)) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ((لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجالٌ يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمّتي منهم أحدٌ فعمر)) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال: لما توفي عبد الله بن أبيّ جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه قميصه وأمره أن يكفنه فيه، ثم قام يصلّي عليه، فأخذ عمر بن الخطاب بثوبه فقال: تصلّي عليه وهو منافق وقد نهاك الله أن تستغفر لهم؟ قال: إنّما خيرني الله – أو أخبرني الله – فقال {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّةً فلن يغفر اللّه لهم} [التوبة:80] فقال: سأزيده على سبعين. قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلينا معه ثم أنزل الله عليه {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84] .
وفي (البخاري) عن ابن عباس رضي الله عنهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه قال: ((لما مات عبد الله بن أبيّ ابن سلول دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلّ عليه، فلمّا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه فقلت: يا رسول الله أتصلي على ابن أبيّ وقد قال يوم كذا كذا وكذا، قال: اعدد عليه قوله. فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أخّر عنّي يا عمر، فلما أكثرت عليه قال: إنّي خيّرت فاخترت، لو أعلم أنّي إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها. قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يلبث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]. قال: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ورسوله أعلم)) .
وفي (صحيح مسلم) من حديث ابن عباس رضي الله عنه في قصة أسارى بدر بطوله قال ابن عباس: ((فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: هم يا نبيّ الله بنو العمّ والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكنّي أرى أن تضرب أعناقهم فتمكّن عليّاً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان – نسيباً لعمر – فأضرب عنقه، فإنّ هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، فلمّا كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله أخبرني من أيّ شيءٍ تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكي للذي عرض عليّ في أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة – شجرة قريبة من نبيّ الله صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله عز وجل {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ – إلى قوله – فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} [الأنفال:67 – 69] فأحل الله الغنيمة لهم)) .
وفي (صحيح البخاري) عن أنس رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه: ((وافقت الله في ثلاث - أو وافقني الله في ثلاث - قلت: يا رسول الله لو اتّخذت من مقام إبراهيم مصلّى فأنزل الله تعالى {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]، وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمّهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب، قال وبلغني معاتبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهم قلت: إن انتهيتنّ أو ليبدلن الله رسوله صلى الله عليه وسلم خيراً منكن، حتى أتيت إحدى نسائه قالت: يا عمر ما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟ فأنزل الله تعالى {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} [التحريم:5])) .
وعنه رضي الله عنه: ((أنّ رجلاً سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: لا شيء، إلاّ أنّي أحبّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فقال: أنت مع من أحببت قال أنس: فما فرحنا بشيءٍ كما فرحنا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت، قال أنس: فأنا أحبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبّي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم)) .
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: ((ما رأيت أحداً قط بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حين قبض كان أجدّ وأجود حتى انتهى من عمر بن الخطاب رضي الله عنه)) .
وعن المسور بن مخرمة قال: لمّا طعن عمر رضي الله عنه جعل يألم، فقال ابن عباس رضي الله عنهما وكأنه يجزعه: يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذلك لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ. ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ. ثم صحبت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنّهم وهم عنك راضون. قال: أمّا ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه فإنّما ذاك من الله تعالى منّ به تعالى عليّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذلك من الله عز وجل ذكره منّ به عليّ. وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أنّ لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه .
وفيهما عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: وضع عمر على سريره فتكنّفه الناس يدعون ويصلّون قبل أن يرفع وأنا فيهم، فلم يرعني إلاّ رجل آخذ منكبي فإذا عليٌّ رضي الله عنه فترحّم على عمر وقال: ما خلفت أحداً أحب إلى أن ألقى الله بمثل عمله منك. وأيم الله إن كنت لأظنّ أن يجعلك الله تعالى مع صاحبيك، وحسبك إنّي كنت أسمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول كثيراً: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر. زاد مسلم في آخره أيضاً. فإن كنت لأرجو أو لأظن أن يجعلك الله تعالى معهما .
والأحاديث في فضله كثيرة جداً قد أفردت بالتصنيف، وفيما ذكرنا كفاية.
قصة استشهاد الفاروق رضي الله عنه:
وكان قصة استشهاده ما ذكره البخاري رحمه الله تعالى قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل حدّثنا أبو عوانة عن حصين عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف وقال: كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا قد حمّلتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: حملناها أمراً هي له مطيقة، ما فيها كبير فضل، قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق. قالا: لا. فقال عمر: لئن سلّمني الله تعالى لأدعنّ أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً. قال فما أتت عليه رابعة حتى أصيب رضي الله عنه. قال إني لقائم ما بيني وبينه إلاّ عبد الله بن عباس غداة أصيب وكان إذا مرّ بين الصّفين قال: استووا، حتى إذا لم ير فيهن خللاً تقدم فكبّر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع النّاس، فما هو إلا أن كبّر حتى سمعته يقول: قتلني – أو أكلني – الكلب حين طعنه، فطار العلج بسكّين ذات طرفين لا يمر على أحدٍ يميناً ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً مات منهم سبعة، فلمّا رأى ذلك رجلٌ من المسلمين طرح عليه برنساً فلما ظنّ العلج أنّه مأخوذٌ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدّمه، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى وأما نواحي المسجد فلا يدرون غير أنّهم فقدوا صوت عمر رضي الله عنه وهم يقولون سبحان الله سبحان الله، فصلّى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاةً خفيفة، فلمّا انصرفوا قال: يا ابن عباس، انظر من قتلني. فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة، فقال: الصّنع؟ قال: نعم. قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجلٌ يدّعي الإسلام، فقد كنت أنت وأبوك تحبّان أن تكثر العلوج بالمدينة. وكان العباس أكثرهم رقيقاً. فقال: إن شئت فعلت، أي إن شئت قتلنا. قال: كذبت، بعدما تكلّموا بلسانكم، وصلّوا إلى قبلتكم، وحجّوا حجّكم؟ فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه وكأنّ الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذٍ فشربه فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جرحه، فعلموا أنّه ميّتٌ، فدخلنا عليه وجاء الناس يثنون عليه، وجاء رجلٌ شابٌّ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدمٍ في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة. قال: وددت أنّ ذلك كفاف، لا عليّ ولا لي. فلمّا أدبر إذا إزاره يمسّ الأرض، قال: ردوا عليّ الغلام، قال: ابن أخي ارفع ثوبك، إنّه أبقى لثوبك، وأتقى لربّك. يا عبد الله بن عمر انظر ما علي من الدّين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوه، قال: إن وفى له مال آل عمر فأدّه من أموالهم، وإلا فسل بني عديّ بن كعب، فإن لم تف أموالهم فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم، فأدّ عنّي هذا المال، وانطلق إلى عائشة فقل: يقرأ عليك عمر السلام – ولا تقل أمير المؤمنين فإنّي لست اليوم للمؤمنين أميراً – وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه. فسلّم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدةٌ تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرنّ به اليوم على نفسي. فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحبّ يا أمير المؤمنين، أذنت. قال: الحمد لله. ما كان من شيءٍ أهمّ إليّ من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلّم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردّتني ردّوني إلى مقابر المسلمين. وجاءت أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال فولجت داخلاً لهم فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف. قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر – أو الرهط – الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمّى عليّاً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن، وقال: ليشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيءٌ – كهيئة التعزية له – فإن أصابت الإمرة سعداً فهو ذاك، وإلاّ فليستعن به أيّكم ما أمّر، فإنّي لم أعزله عن عجزٍ ولا خيانة. وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأوّلين أن يعرف لهم حقّهم، ويحفظ لهم حرمتهم؛ وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوّأوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم ويعفو عن مسيئهم. وأوصيه بأهل الأمصار خيراً فإنّهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم. وأوصيه بالأعراب خيراً فإنّهم أصل العرب ومادّة الإسلام أن يؤخذ من حواشي أموالهم وتردّ على فقرائهم. وأوصيه بذمّة الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم. فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي. فسلّم عبد الله بن عمر قال: يستأذن عمر بن الخطاب. قال: أدخلوه. فأدخل: فوضع هنالك مع صاحبيه. فلمّا فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثةٍ منكم، فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى عليٍّ، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان. وقال سعدٌ: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف. فقال عبد الرحمن: أيكما تبرّأ من هذا الأمر فلنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه؟ فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إليّ والله على أن لا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم. فأخذ بيد أحدهما فقال: لك من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمّرتك لتعدلنّ، ولئن أمّرت عثمان لتسمعنّ ولتطيعنّ؟ ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك. فلمّا أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان، فبايعه وبايع له عليٌّ رضي الله عنه، وولج أهل الدار فبايعوه، رضي الله عنهم أجمعين .
وكانت مدة خلافة الفاروق رضي الله عنه عشر سنين وستة أشهر، وكانت وفاته على المشهور لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وله من العمر ثلاث وستون سنة على الأشهر، وهي السن التي توفي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وبويع لعثمان في ثلاث من المحرم دخول سنة أربع وعشرين، وأوّل من بايعه عبد الرحمن بن عوف ثم علي بن أبي طالب ثم بقية أصحاب الشّورى ثم بقيّة أهل الدار ثم بقيّة المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين.
الفرع الثالث: فضل عثمان بن عفان
عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، من السّابقين الأوّلين إلى الإسلام بدعوة الصّدّيق إياه، وزوّجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية ابنته رضي الله عنها، وهاجر الهجرتين وهي معه، وتخلّف عن بدر لمرضها، وضرب له النّبيّ صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، وبعد وفاتها زوّجه النّبيّ صلى الله عليه وسلم أم كلثوم بمثل صداق رقية على مثل صحبتها وبذلك تسمى (ذو النورين) لأنّه تزوج ابنتي نبيٍّ واحدة بعد واحدة ولم يتفق ذلك لغيره رضي الله عنه.
(ذو الحلم) التام الذي لم يدركه غيره (والحياء) الإيماني الذي يقول فيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ((الحياء شعبةٌ من الإيمان)) . وقال: ((وأصدقهم حياء عثمان)) , (بحر العلوم) الفهم التام في كتاب الله تعالى حتى إن كان ليقوم به في ركعة واحدة فلا يركع إلاّ في خاتمتها إلاّ ما كان من سجود القرآن.
(جامع القرآن) لما خشي الاختلاف في القرآن والخصام فيه في أثناء خلافته رضي الله عنه فجمع الناس على قراءةٍ واحدةٍ وكتب المصحف على القراءة الأخيرة التي درسها جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر سني حياته.
وكان سبب ذلك أنّ حذيفة بن اليمان كان في بعض الغزوات، وقد اجتمع فيها خلق من أهل الشام ممن يقرأ على قراءة المقداد بن الأسود وأبي الدرداء، وجماعة من أهل العراق ممن يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود وأبي موسى، وجعل من لا يعلم بجواز القراءة على سبعة أحرف يفضل قراءته على قراءة غيره وربما خطّأه الآخر أو كفّره، فأدّى ذلك إلى خلاف شديد وانتشار الكلام السيّئ بين الناس، فركب حذيفة إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمّة قبل أن تختلف في كتابها كاختلاف اليهود والنصارى في كتبهم، وذكر له ما شاهد من اختلاف الناس في القراءة فعند ذلك جمع الصحابة وشاورهم في ذلك ورأى أن يكتب المصحف على حرفٍ واحدٍ وأن يجمع الناس في سائر الأقاليم على القراءة به دون ما سواه لما رأى في ذلك من مصلحة كفّ المنازعة ودفع الاختلاف فاستدعى بالصحف التي كان أمر زيد بن ثابت بجمعها فكانت عند الصديق أيام حياته، ثم كانت عند عمر، فلما توفي صارت إلى حفصة أم المؤمنين. فاستدعى بها عثمان وأمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يكتب وأن يملي عليه سعيد بن العاص الأموي بحضرة عبد الله بن الزبير الأسدي وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وأمرهم إذا اختلفوا في شيءٍ أن يكتبوه بلغة قريش، فكتب لأهل الشام مصحفاً، ولأهل مصر آخر، وبعث إلى البصرة مصحفاً، وإلى الكوفة بآخر، وأرسل إلى مكّة مصحفاً، وإلى اليمن مثله، وأقر بالمدينة مصحفاً، ويقال لهذه المصاحف (الأئمة)، ثم عمد إلى بقية المصاحف التي بأيدي الناس مما يخالف ما كتبه فحرقه لئلا يقع بسببه اختلاف.
وروى أبو داود الطيالسي وأبو بكر بن أبي داود السجستاني عن سويد بن غفلة قال: قال لي عليٌّ رضي الله عنه حين حرق عثمان المصاحف: لو لم يصنعه هو لصنعته .
وروى البيهقي عنه رضي الله عنه قال: قال عليّ رضي الله عنه: أيّها النّاس إيّاكم والغلو في عثمان تقولون حرق المصاحف، والله ما حرقها إلا عن ملأٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو وليت مثل ما ولي لفعلت مثل الذي فعل .
(منه استحت ملائك الرّحمن) كما في (الصحيح) عن عطاءٍ وسليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنّ عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في بيتي كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدّث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدّث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوّى ثيابه. قال محمد - يعني ابن أبي حرملة الراوي عنهم -: ولا أقول ذلك في يومٍ واحدٍ فدخل فتحدّث، فلمّا خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتشّ له ودخل عمر ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسوّيت ثيابك. فقال: ألا أستحي من رجلٍ تستحي منه الملائكة)) .
وعن سعيد بن العاص أنّ عائشة رضي الله عنها وعثمان رضي الله عنه حدثاه: ((أنّ أبا بكر رضي الله عنه استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة، فأذن لأبي بكر وهو كذلك فقضى إليه حاجته ثم انصرف، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فقضى حاجته ثم انصرف، قال عثمان ثم استأذنت عليه فجلس وقال لعائشة: اجمعي عليك ثيابك فقضيت إليه حاجتي ثم انصرفت. فقالت عائشة: يا رسول الله مالي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما فزعت لعثمان؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ عثمان رجلٌ حيي وإنّي خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إليّ في حاجته)) .
(بايع عنه) حين ذهب لمكة في حاجة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين (سيد الأكوان) محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم (بكفه) ضرب بها على الأخرى وقال: هذه لعثمان (في بيعة الرضوان) لما غاب عنها فيما ذكرنا، وكان انحباسه بمكة هو سبب البيعة كما قال محمد بن إسحاق بن يسار في (السيرة)، ((ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبعثه إلى مكّة ليبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال: يا رسول الله إنّي أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكّة من بني عدي بن كعب من يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إيّاها وغلظي عليها، ولكني أدلّك على رجلٍ أعزّ بها مني، عثمان بن عفان رضي الله عنه، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب، وأنّه إنّما جاء زائراً لهذا البيت ومعظماً لحرمته. فخرج عثمان رضي الله عنه إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلّغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عثمان رضي الله عنه حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به فقال لعثمان رضي الله عنه حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم. واحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أنّ عثمان رضي الله عنه قد قتل، قال ابن إسحاق: فحدّثني عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أنّ عثمان رضي الله عنه قد قتل: لا نبرح حتى نناجز القوم . ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة. فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، وكان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: إنّ رسول الله لم يبايعهم على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفر . فبايع النّاس ولم يتخلّف أحدٌ من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة فكان جابر رضي الله عنه يقول: والله لكأنّي أنظر إليه لاصقاً بإبط ناقته قد مال إليها يستتر بها من الناس، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ الذي كان من أمر عثمان باطل)) .
وفي (الصحيح) عن عثمان بن موهب قال: ((جاء رجلٌ من أهل مصر حجّ البيت فرأى قوماً جلوساً فقال: من هؤلاء القوم؟ قالوا: هؤلاء قريش، قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر. قال: يا ابن عمر، إنّي سائلك عن شيءٍ فحدّثني عنه، هل تعلم أنّ عثمان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم. قال: هل تعلم أنّه تغيّب عن بدر ولم يشهدها؟ قال: نعم. قال: هل تعلم أنّه تغيّب عن بيعة الرضوان، فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: الله أكبر. قال ابن عمر: تعال أبيّن لك، أما فراره يوم أحد فأشهد أنّ الله عفا عنه وغفر له. وأمّا تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ لك أجر رجلٍ ممن شهد بدراً وسهمه. وأمّا تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحدٌ أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان فكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: هذه يد عثمان فضرب بها على يده فقال: هذه لعثمان. فقال له ابن عمر رضي الله عنه: اذهب بها الآن معك)) .
وفي (الصحيح) عن عروة أنّ عبد الله بن عدي بن الخيار أخبره أنّ المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث قالا: ((ما منعك أن تكلم عثمان لأخيك الوليد فقد أكثر الناس فيه، فقصدت لعثمان حتى خرج إلى الصلاة، قلت: إنّ لي إليك حاجة وهي نصيحةٌ لك. قال: يا أيّها المرء أعوذ بالله منك، فانصرفت فرجعت إليهم إذ جاء رسول عثمان، فأتيته فقال: ما نصيحتك؟ فقلت: إنّ الله سبحانه بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، وكنت ممّن استجاب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فهاجرت الهجرتين، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيت هديه. وقد أكثر الناس في شأن الوليد. قال: أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لا، ولكن خلص إليّ من علمه ما يخلص إلى العذراء في سترها. قال: أمّا بعد فإنّ الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحقّ فكنت ممّن استجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وآمنت بما بعث به وهاجرت الهجرتين – كما قلت – وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته، فوالله ما عصيته، ولا غششته، حتى توفّاه الله عز وجل ثم أبو بكر مثله، ثم عمر مثله، ثم استخلفت، أفليس لي من الحق مثل الذي لهم؟ قلت: بلى. قال: فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم؟ أما ما ذكرت من شأن الوليد فسآخذ فيه بالحقّ إن شاء الله. ثم دعا عليّاً فأمره أن يجلده، فجلده ثمانين)) .
وفي (المسند) و(السنن) عن عمرو بن جاوان قال: قال الأحنف: ((انطلقنا حجاجاً فمررنا بالمدينة، فبينا نحن في منزلنا إذ جاءنا آتٍ فقال: الناس في المسجد. فانطلقت أنا وصاحبي، فإذا الناس مجتمعون على نفرٍ في المسجد، قال فتخللتهم حتى قمت عليهم، فإذا عليٌّ بن أبي طالب والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص، قال فلم يكن ذلك بأسرع من أن جاء عثمان يمشي. فقال: ههنا علي؟ قالوا: نعم، قال: ههنا الزبير؟ قالوا: نعم. قال: ههنا طلحة؟ قالوا: نعم. قال: ههنا سعد بن أبي وقاص؟ قالوا: نعم. قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، تعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يبتاع مربد بني فلان غفر الله له)) فابتعته، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني قد ابتعته، فقال: ((اجعله في مسجدنا وأجره لك))؟ قالوا: نعم. قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، تعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يبتاع بئر رومة)) فابتعتها بكذا وكذا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنّي قد ابتعتها – يعني بئر رومة – قال: ((اجعلها سقايةً للمسلمين، ولك أجرها))؟ قالوا: نعم. قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، تعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر في وجوه القوم يوم جيش العسرة فقال: ((من يجهّز هؤلاء غفر الله له)) فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاماً ولا عقالاً؟ قالوا: اللهم نعم. فقال: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثم انصرف رضي الله عنه)) .
وروى أحمد والترمذي والنسائي عن ثمامة بن حزن القشيري قال: ((شهدت الدار يوم أصيب عثمان، فاطلع عليه اطلاعة، فقال: ادعوا لي صاحبيكم اللذين ألّباكم عليّ، فدعيا له، فقال: أنشدكما الله، تعلمان أّنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ضاق المسجد بأهله فقال: من يشتري هذه البقعة من خالص ماله فيكون كالمسلمين وله خيرٌ منها في الجنة فاشتريتها من خالص مالي فجعلتها بين المسلمين، وأنتم تمنعوني أن أصلّي فيها ركعتين. ثم قال: أنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة لم يكن فيها غير بئر يستعذب منه إلا بئر رومة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشتريها من خالص ماله فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين وله خير منها في الجنّة فاشتريتها من خالص مالي، وأنتم تمنعوني أن أشرب منها. ثم قال: هل تعلمون أنّي صاحب جيش العسرة؟ قالوا: اللهم نعم)). وقال الترمذي حسن .
وله عن عبد الرحمن بن سمرة قال: ((جاء عثمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بألف دينار في كمّه حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجره، فقال عبد الرحمن: فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول: ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم – مرّتين-)) حسّنه الترمذي .
وروى الإمام أحمد وأصحاب (السنن) عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف في قصة توعدهم إيّاه بالقتل، قال: ((ولم يقتلونني؟ فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجلٌ كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً بغير نفس. فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام قط، ولا تمنيت بدلاً بديني منذ هداني الله له، ولا قتلت نفساً. فبم يقتلونني)) .
وروى الإمام أحمد وغيره عن النعمان بن بشير عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأينا إقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان أقبلت إحدانا على الأخرى، فكان من آخر كلمةٍ أن ضرب على منكبه وقال: يا عثمان، إنّ الله تعالى عسى أن يلبسـك قميصاً، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني - ثلاثاً-)) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وروى أحمد والتّرمذي وقال: حسن غريب عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنةً فقال: يقتل فيها هذا المقنع يومئذٍ مظلوماً فنظرنا فإذا هو عثمان بن عفان)) .
وروى أحمد بإسنادٍ جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّكم تلقون بعدي فتنةً واختلافاً أو قال اختلافاً وفتنة - فقال قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله؟ قال: عليكم بالأمين وأصحابه، وهو يشير إلى عثمان بذلك)) .
وله عن مرة البهزي قال: ((بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة قال: كيف تصنعون في فتنة تثور في أقطار الأرض كأنّها صياصي البقر قالوا: نصنع ماذا يا رسول الله؟ قال: عليكم هذا وأصحابه، أو اتبعوا هذا وأصحابه قال: فأسرعت حتى عييت، فأدركت الرجل فقلت: هذا يا رسول الله؟ قال: هذا، فإذا هو عثمان بن عفان، فقال هذا وأصحابه يذكره)) .
وروى الترمذي في (جامعه) عنه رضي الله عنه قال لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكلّمت ((وذكر الفتن فقربها، فمرّ رجلٌ متقنع في ثوب فقال: هذا يومئذٍ على الهدى فقمت إليه فإذا هو عثمان بن عفان. فأقبلت عليه بوجهه فقلت: هذا؟ قال: نعم)) ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح ...
وروى أحمد وابن ماجه وغيرهما عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: ((ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنةً فقرّبها وعظّمها، قال: ثم مرّ رجلٌ مقنع في ملحفة فقال: هذا يومئذ على الحقّ. قال فانطلقت مسرعاً – أو محضراً – وأخذت بضبعيه فقلت: هذا يا رسول الله؟ قال: هذا)) .
وروى أبو داود الطيالسي بإسنادٍ رجاله ثقات عن عبد الله بن حوالة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تهجمون على رجلٍ معتجر ببردة من أهل الجنّة يبايع الناس، قال: فهجمنا على عثمان بن عفان معتجراً يبايع الناس)) .
وقد تقدم من الأحاديث التي تشير إلى خلافته وأشياء من فضائله مع ذكر صاحبيه رضي الله عنهما، وفي فضائله منفرداً ومع غيره من السابقين أحاديث كثيرة، وفيما أشرنا إليه كفاية.
وكان الاعتداء على حياته رضي الله عنه يوم الجمعة لثماني عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين على الصحيح المشهور، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً، لأنه بويع له في مستهل المحرم سنة أربع وعشرين. وأما عمره رضي الله عنه فإنه قد جاوز ثنتين وثمانين سنة. والله أعلم.
الفرع الرابع: فضل علي بن أبي طالب
(والرابـع) في الخلافة والفضل (ابن عم) محمد صلى الله عليه وسلم (خير الرسل) أكرمهم على الله عز وجل (أعني) بذلك (الإمام الحق) بالإجماع بلا مدافعة ولا ممانعة... وهو أمير المؤمنين وأبو السبطين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم رضي الله عنه وأرضاه.
((كان أبو طالب عم النّبيّ صلى الله عليه وسلم أخاً شقيقاً لأبيه عبد الله وأمه فاطمة بنت عمرو، كفل أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت جده عبد المطلب وهو ابن ثمان سنين، ولما بعث آواه الله تعالى به وحماه، وهو مع ذلك على دين قومه، ولله في ذلك حكمة، وقد حرص النّبيّ صلى الله عليه وسلم على هداية عمّه كل الحرص، ولم يكن ذلك حتى خرجت روحه وهو يقول: على ملّة عبد المطلب، وأنزل الله تعالى في ذلك تعزية لنبيه صلى الله عليه وسلم {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} [القصص:56] وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ((لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)) فنهاه الله تعالى عن الاستغفار له بقوله عز وجل {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113])) . الآيات.
وفي (صحيح مسلم): ((عن العباس بن عبد المطلب أنّه قال: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيءٍ فإنّه كان يحوطك ويغضب لك، قال: نعم، هو في ضحضاح من نارٍ، ولولا أنا لكان في الدّرك الأسفل من النّار)) ، وفي لفظ: ((وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاحٍ)) .
وفيه عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: ((لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاحٍ من نارٍ يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه)) .
وفيه عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعلٌ بنعلين يغلي منهما دماغه)) .
وكفل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه وهو صغير، فلما بعث آمن به وهو ابن ثمان سنين، وهو أول من آمن من الصبيان، كما أنّ أبا بكر أول من آمن به من الرجال، وخديجة رضي الله عنها أول من آمن به من النساء، وورقة بن نوفل رضي الله عنه أول من آمن به من الشيوخ، وزيدٌ بن حارثة رضي الله عنه أول من آمن به من الموالي، وبلال رضي الله عنه أوّل من آمن به من الأرقاء صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين.
وكان عليٌّ صاحب دعوة قريش حين نزلـت على الرسول صلــى الله عليه وسلم {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] فأمر عليّاً أن يدعوهم له فيجتمعون للنذارة. وهو الذي فاداه بنفسه فنام على فراشه ليلة مكر المشركين ... وهو الذي أدى الأمانات عنه بعدها. وهو الذي برز مع حمزة وعبيدة لخصمائهم يوم بدر وكان يقول: أنا أوّل من يجثو للخصومة بين يدي الرحمن يوم القيامة .
وشهد مع الرّسول صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها إلا تبوك ...
وهو صاحب عمرو بن ود وخيله يوم الخندق، وفتح الله على يديه يوم خيبر بعد قتله فارسهم مرحب. وكان مع حماة النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
وكان صاحب النداء بسورة براءة تبليغاً عن الرّسول صلى الله عليه وسلم في الموسم، وشريكه في هديه في حجة الوداع، وخليفته في أهله في غزوة تبوك، وصاحب تجهيزه حين توفي مع جماعة من أهل البيت رضي الله عنهم.
وقد ثبت له في الأحاديث الصحاح والحسان من الفضائل الجمة ما فيه كفاية وغنية عن تلفيق الرافضة وخرطهم وكذبهم عليه وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقولهم عليه ما لم يقل قبّحهم الله.
(مبيد) أي مدمر (كل خارجي) نسبة إلى الخروج من الطاعة، ولكن صار هذا الاسم علماً على الحرورية الذين كفروا أهل القبلة والمعاصي وحكموا بتخليدهم في النار بذلك، واستحلّوا دماءهم وأموالهم، حتى الصحابة من السابقين الأولين من أهل بدر وغيرهم، حتى علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وخباب وأقرانهم رضي الله عنهم، ثم صار هذا الاسم عاماً لكل من اتبع مذهبهم الفاسد وسلك طريقتهم الخائبة.
وكل ذنب يكفرون به المؤمنين فهو تكفير لأنفسهم من وجوه عديدة وهم لا يشعرون:
فمنها: أن تكفير المؤمن إن لم يكن كذلك كفر فاعله كما في الحديث: ((أيّما امرئٍ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه)) .
ومنها: أنّ من أكبر الكبائر التي يكفرون بها المؤمنين قتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق وهم أسرع الناس في ذلك يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان.
ومنها: أنّ المؤمن وإن عمل المعاصي فهو لا يستحلها وإنّما يقع فيها لغلبة نفسه إياه وتسويل شيطانه له وهو مقر بتحريمها وبما يترتب عليه من الحدود الشرعية فيما ارتكبه، وهم يقتلون النفس التي حرّم الله قتلها إلاّ بالحق، ويأخذون الأموال التي حرّم الله أخذها إلا بالحق، ويفعلون الأفاعيل القبيحة مستحلّين لها، والذي يعمل الكبيرة مستحلاًّ لها أولى بالكفر ممن يعملها مقراً بتحريمها بل لا مخالف في ذلك إذ هو تكذيب بالكتاب وبما أرسل الله تعالى به رسله عليهم السلام، وإنّما توقّف الصحابة عن تكفير أهل النهروان لأنّهم كانوا يتأوّلون فحكموا أنّهم بغاة...
في (الصحيح) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((أتى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة منصرفة من حنين، وفي ثوب بلال فضّة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها ويعطي الناس، فقال: يا محمد اعدل، قال: ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: معاذ الله أن يتحدّث الناس أنّي أقتل أصحابي، إنّ هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية)) .
وفيه: عن أبي سعيد في قصة الذُّهَيْبَة: ((فجاء رجلٌ كثّ اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرّأس فقال: اتّق الله يا محمد، قال فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن يطع الله إن عصيته؟ أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟ قال ثم أدبر الرجل فاستأذن رجلٌ من القوم في قتله - يرون أنّه خالد بن الوليد - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ من ضئضئ هذا قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السّهم من الرميّة، لئن أدركتهم لأقتلهم قتل عاد)) . وفي لفظٍ ((ثمود)) . وفي لفظ ((فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه فإنّ له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيءٌ، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيّه فلا يوجد فيه شيء وهو القدح، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيءٌ، سبق الفرث والدم، آيتهم رجلٌ أسودٌ إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقةٍ من الناس. قال أبو سعيد: فأشهد أنّي سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أنّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد، فأتى به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت)) .
وفيه: عنه رضي الله عنه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوماً يكونون في أمّته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحالق قال: ((هم شرّ الخلق، أو من أشر الخلق، يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق قال فضرب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لهم مثلاً – أو قال قولاً – الرجل يرمي الرمية أو قال الفوق فينظر في النصل فلا يرى بصيرة، وينظر في النضيّ فلا يرى بصيرة، وينظر في الفوق فلا يرى بصيرة. قال قال أبو سعيد: وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق)) .
وفيه عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تمرق مارقةٌ عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطّائفتين بالحق)) .
وفي روايــة: ((يكون في أمتي فرقتان فتخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحقّ)) .
وفي لفظٍ قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((تمرق مارقةٌ في فرقة من الناس، فيلي قتلهم أولى الطائفتين بالحق)) .
وفي رواية: ((يخرجون على فرقة مختلفة، يقتلهم أقرب الطّائفتين من الحق)) .
وفيه: عن سويد بن غفلة قال: قال عليٌّ رضي الله عنه: ((إذا حدّثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن أخرّ من السماء أحبّ إليّ من أن أقول عليه ما لم يقل، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإنّ الحرب خدعة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيخرج في آخر الزمان قومٌ أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرميّة، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة)) .
وفيه: عن عبيدة عنه رضي الله عنه قال: ((ذكر الخوارج فقال: فيهم رجلٌ مخدّج اليد - أو مودن اليد، أو مودون اليد - لولا أن تطروا لحدّثتكم بما وعد الله تعالى الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. قال قلت: أنت سمعت من محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: إي وربّ الكعبة، إي وربّ الكعبة، إي وربّ الكعبة)) .
وفيه: عن زيد بن وهب الجهني أنّه كان في الجيش الذين كانوا مع علي رضي الله عنه الذين ساروا إلى الخوارج، فقال عليٌّ رضي الله عنه: أيّها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يخرج قومٌ من أمّتي يقرأون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيءٍ، ولا صلاتكم إلا صلاتهم بشيءٍ، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيءٍ، يقرأون القرآن يحسبونه أنّه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيّهم صلى الله عليه وسلم لاتكلوا عن العمل، وآية ذلك أنّ فيهم رجلاً له عضد وليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض، فتذهبون إلى معاوية وأهلّ الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم؟ والله إنّي لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم فإنّهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس، فسيروا على اسم الله، قال سلمة بن كهيل: فنزلني زيدٌ بن وهب منزلاً حتى مررنا على قنطرة فلمّا التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي فقال لهم: ألقوا الرّماح وسلّوا سيوفكم من جفونها فإنّي أخاف أن يناشدونكم كما ناشدوكم يوم حروراء، فرجعوا فوحّشوا برماحهم وسلّوا السّيوف وشجرهم النّاس برماحهم، قال وقتل بعضهم على بعض، وما أصيب من الناس يومئذٍ إلا رجلان. قال عليٌّ رضي الله عنه: التمسوا فيهم المخدج فالتمسوه فلم يجدوه، فقام علي رضي الله عنه نفسه حتى أتى ناساً قد قتل بعضهم على بعض قال أخّروهم، فوجدوه مما يلي الأرض فكبّر ثم قال: صدق الله وبلّغ رسوله، قال فقام إليه عبيدة السلماني فقال: يا أمير المؤمنين، الله الذي لا إله إلا هو لسمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو. حتى استحلفه ثلاثاً وهو يحلف له)) .
وفيه: عن عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أنّ الحرورية لما خرجت وهو مع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قالوا: لا حكم إلا لله، قال علي: كلمة حقٍّ أريد بها باطلٌ. إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف لنا وإنّي لأعرف صفتهم في هؤلاء، يقولون بألسنتهم ولا يجوز هذا منهم - وأشار إلى حلقه - من أبغض خلق الله إليه، منهم أسود إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي. فلما قتلهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: انظروا، فنظروا فلم يجدوا شيئاً، فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذّبت – مرتين أو ثلاثاً – ثم وجدوه في خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه، قال عبد الله: وأنا حاضر ذلك من أمرهم وقول علي رضي الله عنه فيهم)) .
وفيه: عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ بعدي من أمّتي قوماً يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدّين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه، هم شرّ الخلق والخليقة)) . ومثله عن رافع بن عمر الغفاري رضي الله عنه.
وفي (سنن أبي داود) عن أبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سيكون في أمّتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدّين مروق السهم من الرمية، لا يرجعون حتى يرتد على فوقه، هم شرّ الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيءٍ، من قاتلهم كان أولى بالله منهم، قالوا: يا رسول الله ما سيماهم؟ قال: التحليق)) .
وله عن أنس رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سيماهم التحليق والتسبيد، فإذا رأيتموهم فأنيموهم)) . قال أبو داود: التسبيد استئصال الشعر.
والأحاديث في ذم الخوارج والأمر بقتالهم والثناء على مقاتليهم كثيرة جداً وفيما ذكرنا كفاية.
(و) مبيد (كل خبٍّ رافضي فاسق) الخب الخدّاع الخائن، والرافضيّ نسبة إلى الرّفض وهو التّرك بازدراءٍ واستهانة، سمّوا بذلك لرفضهم الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وزعموا أنّهما ظلموا عليّاً واغتصبوه الخلافة ومنعوا فاطمة رضي الله عنها فدك، وبذلك يحطون عليهما ثم على عائشة ثم على غيرها من الصحابة.
وهم أقسام كثيرة لا كثّرهم الله تعالى، أعظمهم غلوّاً وأسوأهم قولاً وأخبثهم اعتقاداً بل وأخبث من اليهود والنصارى هم السّبئية أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي قبّحه الله، كانوا يعتقدون في عليٍّ رضي الله عنه الإلهية كما يعتقد النّصارى في عيسى عليه السلام، وهم الذين أحرقهم علي رضي الله عنه بالنّار، وأنكر ذلك عليه ابن عباس كما في (صحيح البخاري) و(المسند) و(أبي داود) و(الترمذي) و(النّسائي) عن عكرمة رضي الله عنه قال: أتي عليٌّ رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تعذّبوا بعذاب الله)) ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بدّل دينه فاقتلوه)) . حكي عن أبي المظفر الإسفراييني في (الملل والنحل): أنّ الذين أحرقهم علي رضي الله عنه طائفةً من الروافض ادّعوا فيه الإلهية وهم السبئية وكان كبيرهم عبد الله بن سبأ يهوديّاً ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة. وتفصيل ذلك ما ذكره في (الفتح) من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال: قيل لعليٍّ رضي الله عنه إنّ هنا قوماً على باب المسجد يزعمون أنّك ربّهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟ قالوا: أنت ربّنا وخالقنا ورازقنا، قال: ويلكم إنّما أنا عبدٌ مثلكم آكل الطعام كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فاتّقوا الله وارجعوا، فأبوا. فلمّا كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال أدخلهم فقالوا كذلك، فلمّا كان الثالث قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنّكم بأخبث قتلة فأبوا إلا ذلك، فأمر عليٌّ رضي الله عنه أن يخدّ لهم أخدود بين المسجد والقصر، وأمر بالحطب أن يطرح في الأخدود ويضرم بالنّار ثم قال لهم: إنّي طارحكم فيها أو ترجعوا. فأبو أن يرجعوا، فقذف بهم حتى إذا احترقوا قال:

إنّي إذا رأيت أمراً منكراً
أوقدت ناري ودعوت قنبرا

قال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح .......من صار (للرسول) صلى الله عليه وسلم في منزلة (هارون من موسى) عليهما السلام في الاستخلاف، فموسى استخلف هارون في مدة الميعاد، ومحمد صلى الله عليه وسلم استخلف عليّاً في غزوة تبوك، ففي (الصّحيحين) عن إبراهيم بن سعد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه ((أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى)) .
وفيها من رواية مصعب بن سعد عن أبيه ((أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليّاً رضي الله عنه، فقال: أتخلفني في الصّبيان والنساء؟ قال: ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبي بعدي)) . هذا الاستثناء يزيل الإشكال من الرواية الأولى ويخصص عموم المنزلة بخصوص الأخوّة والاستخلاف في أهله فقط لا في النبوة كمشاركة هارون لموسى فيها إذ يقول الله تعالى لموسى {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:31-32]، وقال لهما: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:16].....وفي (الصّحيحين) في تفسير قول الله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] عن قيس بن عدي عن أبي ذر رضي الله عنه إنّه كان يقسم فيها أنّ هذه الآية نزلت في حمزة وصاحبيه وعتبة وصاحبيه، برزوا في يوم بدر .
وفيهما عنه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرّحمن للخصومة يوم القيامة. قال قيس: وفيهم نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] قال: هم الذين بارزوا يوم بدرٍ علي وحمزة وعبيدة، وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة .
وفيهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: ((لأعطينّ هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله. قال فبات الناس يدوكون ليلتهم أيّهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّهم يرجو أن يعطاها فقال: أين عليّ بن أبي طالب؟ فقيل هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه. فأتى به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأنّ لم يكن به وجعٌ، فأعطاه الرّاية فقال عليٌّ: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال عليه الصلاة والسلام: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من أن تكون لك حمر النّعم)) .
وعن سلمة بن الأكوع نحوه مختصراً، ونحوه عند مسلم أيضاً. وفيهما عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه: ((أنّ رجلاً جاء إلى سهل بن سعد فقال: هذا فلان لأمير المدينة يدعو علياً عند المنبر. قال: ماذا يقول له؟ قال: يقول أبو تراب؟ فضحك وقال: والله ما سمّاه إلاّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وما كان له اسم أحب إليه منه، فاستطعمت الحديث سهلاً وقلت: يا أبا العباس كيف؟ قال:دخل عليٌّ رضي الله عنه على فاطمة، ثم خرج فاضطجع في المسجد، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أين ابن عمك؟ قالت: في المسجد فخرج فوجد رداءه قد سقط عن ظهره، وخلص إلى ظهره، فجعل يمسح التّراب عن ظهره، فيقول: اجلس يا أبا تراب مرتين)) .
وفي رواية مسلم عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال استعمل على المدينة رجلٌ من آل مروان، قال فدعا سهل بن سعد فأمره أن يشتم عليّاً فأبى سهل فقال له أمّا إذا أبيت فقل لعن الله أبا تراب، فقال سهل: ما كان لعليٍّ اسم أحب إليه من أبي تراب، وإن كان ليفرح إذا دعي به. فقال له أخبرنا عن قصّته أسمى أبا تراب فذكره .
وفي (صحيح البخاري) عن سعيد بن عبيدة قال جاء رجلٌ إلى ابن عمر رضي الله عنهما فسأله عن عثمان، فذكر من محاسن عمله وقال لعل ذلك يسوؤك؟ قال: نعم. قال فأرغم الله بأنفك. ثم سأله عن عليٍّ فذكر محاسن عمله وقال هو ذاك بيته أوسط بيوت النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم قال: لعل ذاك يسوؤك؟ قال: أجل. قال: فأرغم الله بأنفك. انطلق وأجهد على جهدك . وفيهما عن ابن أبي ليلى قال: حدثنا عليّ رضي الله عنه: ((أنّ فاطمة عليها السلام شكت ما تلقى من أثر الرحى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم سبيٌ، فانطلقت فلم تجده فوجدت عائشة فأخبرتها، فلمّا جاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبت لأقوم، فقال: على مكانكما. فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري وقال: ألا أعلّمكما خيراً مما سألتماني؟ إذا أخذتما مضاجعكما؟ تكبّران أربعاً وثلاثين وتسبّحان ثلاثاً وثلاثين وتحمدان ثلاثاً وثلاثين فهو خيرٌ لكما من خادم)) .
وفي (البخاري) عن ابن سيرين عن عبيدة عن علي رضي الله عنه قال: اقضوا كما كنتم تقضون، فإنّي أكره الاختلاف حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي. فكان ابن سيرين يرى أنّ عامة ما يروى عن عليٍّ رضي الله عنه الكذب .
قلت: وأكثر ما يكذب على عليّ رضي الله عنه الرّافضة الذين يدعون مشايعته ونشر فضائله ومثالب غيره من الصحابة، فيسندون ذلك إليه رضي الله عنه وهو بريء منهم، وهم أعدى عدوٍّ له.
وفي (الصحيحين) من طرق عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تكذبوا عليّ فإنه من كذب عليّ فليلج النار)) .
وفي فضائله رضي الله عنه من الأحاديث الصحاح والحسان ما يغني عن أكاذيب الرافضة، وهم يجهلون غالب ما له من الفضائل فيها.
وفي (صحيح مسلم) عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال: ((أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسبّ أبا تراب؟ فقال: أمّا ما ذكرت فثلاث قالهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن تكون لي واحدة منهمّ أحب إليّ من حمر النّعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له وقد خلّفه في مغازيه فقال له عليٌّ رضي الله عنه: يا رسول الله خلّفتني مع النساء والصبيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبوة بعدي؟ وسمعته يقول يوم خيبر: لأعطينّ الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله، قال فتطاولنا لها قال ادعوا لي عليّاً، فأتي به أرمد فبصق في عينيه ودفع إليه الراية ليلة فتح الله عليه ولما نزلت هذه الآية {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ} [آل عمران:61] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: اللهمّ هؤلاء أهلي)) .
وفي (صحيح مسلم) عن زر قال: قال عليٌّ رضي الله عنه: ((والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، إنّه لعهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم إليّ أن لا يحبني إلاّ مؤمنٌ ولا يبغضني إلا منافق)) .
والأحاديث في فضله كثيرة جداً... والحديث في الإشارة إلى خلافته رضي الله عنه في رؤيا الرجل الصالح الدلو التي شرب منها أبو بكر وعمر وعثمان. ثم جاء علي وأخذ بعراقيها فانتشطت وانتضح عليه منها شيء ، وكان تأويل ذلك ما أصابه رضي الله عنه من اختلاف الناس عليه والفتن الهائلة والدماء المهرقة والأمور الصعاب والأسلحة المسلولة بين المسلمين بسبب السّبئية ومن وافقهم من أهل الأمصار على قتل عثمان، وكان غالبهم منافقين، وقليلٌ منهم من أبناء الصحابة مغرورون، فحصل من ذلك في يوم الجمل وصفين وغيرهما وقائع يطول ذكرها.
... وكان رضي الله عنه أيام خلافته على طريق الحق والاستقامة والتمسك بكتاب الله وهدي محمد صلى الله عليه وسلم مجتهداً في جمع شمل الأمّة وإطفاء الفتن والتذفيف على أهل البدع حتى اعتدى على حياته رضي الله عنه الشَّقي ابن ملجم الخارجيّ قبّحه الله وقد فعل، وذلك يوم الجمعة في وقت الفجر وهو يقول: الصّلاة الصّلاة، فمكث يوم الجمعة ليلة السبت وتوفي ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان سنة أربعين عن ثلاث وستين سنة 597هـ، فكانت مدة خلافته أربع سنين وتسعة أشهر إلا ليال، وهو يومئذ أفضل من على وجه الأرض بالإجماع. وذلك مصداق ما روى الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما عن سفينة أبي عبد الرحمن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الخلافة ثلاثون سنةً، ثم تكون بعد ذلك ملكاً)) قال سفينة: فخذ سنتي أبي بكر وعشر عمر واثنتي عشرة عثمان وست علي رضي الله عنهم أجمعين .
قلت: سفينة رضي الله عنه حذف الزائد والناقص على السنين من الأشهر على ما جرت به عادات العرب في حذف الكسور في الحساب، وعلى ما قدّمنا ضبطه فأيام كلٍّ منهم لا تكمل ثلاثين إّلا بخلافة الحسن بن علي رضي الله عنه، وهي ستّة أشهر، ثم أصلح الله به الفئتين من المسلمين كما أخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وولّي معاوية بذلك واجتمع الناس عليه وكان ذلك العام يسمى (عام الجماعة) وكان معاوية رضي الله عنه أوّل ملوك الإسلام وخيرهم، وروى الإمام أحمد عن عليّ رضي الله عنه قال: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلّى أبو بكر، وثلّث عمر، ثم خبطتنا بعده فتنة فهو ما شاء الله . وفي رواية: يقضي الله فيها ما شاء .
وله عنه رضي الله عنه قال: ليحبني قوم حتّى يدخلوا النار في حبّي، وليبغضني قومٌ حتى يدخلوا النّار في بغضي ...
وكان أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: لا أعلم أحداً يحفظ من الفضائل في الأحاديث الصحاح ما يُحفظ لعليٍّ رضي الله عنه وعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
الفرع الخامس: فضائل باقي العشرة المبشرين بالجنة
أولا: فضل طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه
هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي (يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب ومع أبي بكر الصديق في تيم بن مرة وعدد ما بينهم من الآباء سواء) وأمه -رضي الله عنه- الصعبة بنت الحضرمي امرأة من أهل اليمن وهي أخت العلاء بن الحضرمي أسلمت ولها صحبة وظفرت بشرف الهجرة وطلحة -رضي الله عنه- أحد العشرة الذين بشروا بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأحد الستة أصحاب الشورى، وكان -رضي الله عنه- عند وقعة بدر قد وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعيد بن زيد يتجسسان خبر العير قبل خروجه عليه الصلاة والسلام إلى بدر فلم يرجعا إلا وقد فرغ من موقعة بدر وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمهما وأجرهما .
وقال الواقدي: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج من المدينة إلى بدر طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى طريق الشام يتحسسان الأخبار ثم رجعا إلى المدينة فقدماها يوم وقعة بدر فخروجهما لجس الأخبار يعتبر في صالح المعركة وهو نوع من المشاركة فيها.
وشهد طلحة -رضي الله عنه- أحداً وما بعدها من المشاهد وقد أبلى في غزوة أحد بلاء حسناً فقد وقى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه واتقى النبل عنه بيده حتى شلت أصبعه .
وفضائله -رضي الله عنه- كثيرة مشهورة ومنها:
- ما رواه البخاري بإسناده إلى قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد .
هذا الحديث اشتمل على منقبة عظيمة خص بها طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- وهي أنه وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يوم أحد لما أراد بعض المشركين أن يضربه فاتقى طلحة الضربة بيده حتى أصابها شلل والشلل بطلان في اليد أو في الرجل من آفة تعتريها فالحديث فيه بيان فضيلة عظيمة لطلحة -رضي الله عنه- وأرضاه.
- وروى أيضاً بإسناده إلى أبي عثمان النهدي قال: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير طلحة وسعد عن حديثهما .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وهذا الحديث أيضاً تضمن منقبة ظاهرة لأبي محمد طلحة بن عبيد الله من حيث إنه بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تفرق الناس عنه يوم أحد والمراد بقوله في الحديث: ((في بعض تلك الأيام)) يوم أحد.
- وروى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى الزبير -رضي الله عنه- قال: كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعان فنهض إلى الصخرة فلم يستطع فأقعد تحته طلحة، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى استوى على الصخرة قال: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أوجب طلحة)) .
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم ((أوجب طلحة)) أي: وجبت له الجنة بسبب عمله هذا أو بما فعل في ذلك اليوم فإنه خاطر بنفسه يوم أحد وفدى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها وقاية له حتى طعن ببدنه وجرح جميع جسده حتى شلت يده .
- وروى أبو نعيم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك كله يوم طلحة .
وهذا مدح وثناء عظيم من صديق هذه الأمة وشهادة صادقة لأبي محمد طلحة بن عبيد الله بثباته مع النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد التي أبلى فيها بلاء حسناً وكان موقفه عظيماً في غزوة أحد يذكر به في الآخرين -رضي الله عنه- وأرضاه.
- ومن مناقبه -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن طلحة ممن قضى نحبه ووفى لله بما نذره على نفسه من القتال في سبيله ونصرة دينه.
فقد روى الترمذي بإسناده إلى موسى بن طلحة قال: دخلت على معاوية فقال: ألا أبشرك؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((طلحة ممن قضى نحبه)) .
وروى أيضاً: بإسناده إلى موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما طلحة (أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يتجرؤون هم على مسألته يوقرونه ويهابونه فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم إني اطلعت من باب المسجد وعلي ثياب خضر فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أين السائل عمن قضى نحبه)) قال الأعرابي: أنا يا رسول الله قال: ((هذا ممن قضى نحبه)) .
هذان الحديثان فيهما بيان فضل طلحة بن عبيد الله حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن طلحة ممن قضى نحبه وكان طلحة ضمن جماعة كعثمان بن عفان ومصعب وسعيد وغيرهم نذروا إذا لقوا حرباً ثبتوا حتى يستشهدوا وقد ثبت طلحة يوم أحد وبذل جهده حتى شلت يده ووقى بها النبي صلى الله عليه وسلم -رضي الله عنه- وأرضاه.
قال أبو بكر بن العربي أثناء ذكره لمسائل اشتمل عليها الحديث قال رحمه الله تعالى:
الرابعة: إلا أن قوماً تحققت عاقبتهم وأخبر الله تعالى عن حسن مآلهم وإن كانوا لم يوافوا بعد، فلهم شرف الحالة بذلك وعلو المنزلة وطلحة منهم.
الخامسة: وكان ذلك له -والله أعلم- بوقايته بنفسه للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى شلت يمينه فقدمته يداه إلى الجنة وتقدمه إليها وتعلق بسبب عظيم لا ينقطع منها) ...
- ومن مناقبه -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يموت شهيداً. فقد روى مسلم في (صحيحه) بسنده إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد)) وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم .
قال النووي رحمه الله تعالى: (وفي هذا الحديث معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها إخباره أن هؤلاء شهداء وماتوا كلهم غير النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر شهداء؛ فإن عمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير رضي الله عنهم قتلوا ظلماً شهداء، فقتل الثلاثة مشهور وقتل الزبير بوادي السباع بقرب البصرة منصرفاً تاركاً للقتال وكذلك طلحة اعتزل الناس تاركاً للقتال فأصابه سهم فقتله وقد ثبت أن من قتل ظلماً فهو شهيد والمراد شهداء في أحكام الآخرة وعظم ثواب الشهداء، وأما في الدنيا فيغسلون ويصلى عليهم وفيه بيان فضيلة هؤلاء) .
- ومن مناقبه الرفيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنه راض. قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: (باب ذكر مناقب طلحة بن عبيد الله، وقال عمر: توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض) .
- ومما يدل على عظم مكانته وعلو منزلته أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة ضمن جماعة من فضلاء الصحابة. فقد روى الترمذي بإسناده إلى عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد في الجنة وسعيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة)) ثم قال: وقد روي هذا الحديث عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا .
ففي هذا الحديث منقبة واضحة لطلحة -رضي الله عنه- حيث شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة وأكرم بها من شهادة فإنها تضمنت الإخبار بسعادته في الدنيا والآخرة، ذلك هو الصحابي طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وتلك طائفة من الأحاديث التي دلت على عظيم قدره وعلو منزلته -رضي الله عنه- وأرضاه.
ثانيا: فضل الزبير بن العوام رضي الله عنه
هو أبو عبد الله الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي وعدد ما بينهما من الآباء سواء وهو حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، أمه صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى .
قال عروة بن الزبير: أسلم الزبير بن العوام وهو ابن ثمان سنين هاجر وهو ابن ثمان عشرة سنة وكان عم الزبير يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار ويقول: ارجع إلى الكفر فيقول الزبير: لا أكفر أبداً.
وقال أيضاً: (أسلم الزبير وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين معاً ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
فهو -رضي الله عنه- من السابقين الأولين إلى الإسلام، وشهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم وفضائله -رضي الله عنه- كثيرة مشهورة ومنها:
1- ما رواه البخاري بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إن لكل نبي حوارياً، وإن حواري الزبير بن العوام)) . وعند مسلم بلفظ: ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((لكل نبي حواري وحواري الزبير)) .
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((وحواري الزبير)) أي: خاصتي من أصحابي وناصري ومنه الحواريون أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام أي: خلصائه وأنصاره، وأصله من التحوير: التبييض قيل: إنهم كانوا قصّارين يحورون الثياب أي: يبيضونها... قال الأزهري: الحواريون خلصان الأنبياء وتأويله الذين أخلصوا ونقوا من كل عيب .
فالحواري: هو الناصر المخلص، فالحديث اشتمل على هذه المنقبة العظيمة التي تميز بها الزبير -رضي الله عنه- ولذلك سمع عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- رجلا يقول: أنا ابن الحواري فقال: إن كنت من ولد الزبير وإلا فلا . وقال عبد الله بن عباس: هو حواري النبي صلى الله عليه وسلم وسمي الحواريون لبياض ثيابهم .
وجاء في ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) للعيني: (فإن قلت: الصحابة كلهم أنصار رسول الله عليه الصلاة والسلام خلصاء فما وجه التخصيص به، قلنا: هذا قاله حين قال يوم الأحزاب: من يأتيني بخبر القوم قال الزبير: أنا، ثم قال: من يأتيني بخبر القوم فقال: أنا وهكذا مرة ثالثة، ولا شك أنه في ذلك الوقت نصر نصرة زائدة على غيره) .
2- من مناقبه -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم فداه بأبويه. روى البخاري بإسناده إلى عبد الله بن الزبير قال: ((كنت يوم الأحزاب جعلت أنا وعمر بن أبي سلمة في النساء فنظرت فإذا أنا بالزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثاً فلما رجعت قلت: يا أبت رأيتك تختلف قال: وهل رأيتني يا بني؟ قلت: نعم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟ فانطلقت فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: فداك أبي وأمي)) .
وهذا الحديث فيه منقبة ظاهرة للزبير -رضي الله عنه- حيث فداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبويه (وفي هذه التفدية تعظيم لقدره واعتداد بعمله واعتبار بأمره وذلك لأن الإنسان لا يفدي إلا من يعظمه فيبذل نفسه أو أعز أهله له) .
3- ومن مناقبه -رضي الله عنه- أنه كان ممن استجاب لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح يوم أحد. فقد روى الشيخان في (صحيحيهما) عن عائشة رضي الله عنها {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172] قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبوك منهم: الزبير وأبو بكر لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا قال: ((من يذهب في إثرهم؟)) فانتدب منهم سبعون رجلا قال: كان فيهم أبو بكر والزبير .
فلقد أثنى الله على الذين استجابوا لله والرسول وأخبر أن جزاء المحسنين المتقين منهم أجر عظيم، وكان الزبير بن العوام واحداً من هؤلاء رضي الله عنهم.
4- وروى ابن سعد بإسناد صحيح عن هشام عن أبيه قال كانت على الزبير عمامة صفراء معتجراً بها يوم بدر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الملائكة نزلت على سيماء الزبير)) .
وفي هذا الحديث منقبة ظاهرة للزبير -رضي الله عنه- دلت على عظيم قدره وعلو منزلته فكون الملائكة الذين أنزلهم الله لنصر المسلمين في موقعة بدر كانوا على صورته فإن ذلك دليل على أنه جليل القدر رفيع المنزلة رضي الله عنه وأرضاه.
5- وروى البخاري بإسناده إلى مروان بن الحكم قال: (أصاب عثمان بن عفان رعاف شديد سنة الرعاف حتى حبسه عن الحج وأوصى فدخل عليه رجل من قريش قال: استخلف قال: وقالوه؟ قال: نعم قال: ومن؟ فسكت فدخل عليه رجل آخر أحسبه الحارث فقال: استخلف فقال عثمان: وقالوا؟ فقال: نعم قال: ومن هو؟ فسكت فلعلهم قالوا: إنه الزبير؟ قال: نعم قال: والذي نفسي بيده إنه لخيرهم ما علمت، وإن كان لأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية أخرى قال: (أما والله إنكم لتعلمون أنه خيركم ثلاثا) .
ففي هاتين الروايتين منقبة عظيمة لحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث شهد له ثالث الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بالخيرية وأنه كان من أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الداودي: يحتمل أن يكون المراد من الخيرية في شيء مخصوص كحسن الخلق وإن حمل على ظاهره ففيه ما يبين أن قول ابن عمر: (ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم) لم يرد به جميع الصحابة فإن بعضهم قد وقع منه تفضيل بعضهم على بعض وهو عثمان في حق الزبير وقد تعقب الحافظ رحمه الله هذا الاحتمال الذي قاله الداودي بقوله: (قلت: قول ابن عمر قيده بحياة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعارض ما وقع منهم بعد ذلك) .
6- ومن مناقبه -رضي الله عنه- أنه كان شجاعاً مقداماً في ساحة القتال. فقد روى البخاري بإسناده إلى هشام بن عروة عن أبيه: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للزبير يوم وقعة اليرموك: ألا تشد فنشد معك؟ فحمل عليهم فضربوه ضربتين على عاتقه بينهما ضربة ضربها يوم بدر قال عروة: فكنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير) .
وفي هذا بيان فضيلة للزبير -رضي الله عنه- تضمنها قول الصحابة له يوم اليرموك (ألا تشد فنشد معك... إلخ) فإنه كان شجاعاً مقداماً موفقاً في تسديد الضربات لجيوش الشرك. ولقد أبلى -رضي الله عنه- في يوم اليرموك وفي جميع الغزوات التي غزاها بلاء حسناً.
فقد روى الترمذي بإسناده إلى هشام بن عروة قال: (أوصى الزبير إلى ابنه عبد الله صبيحة الجمل فقال: ما مني عضو إلا وقد جرح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى ذَاكَ إلى فرجه) .
7- ومن أعظم مناقبه وأعلاها شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة. فقد روى الترمذي وغيره من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة...)) الحديث .
8- ومن مناقبه -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بأنه يموت شهيداً فقد روى الإمام مسلم في (صحيحه) بإسناده إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد)) .
فلقد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالشهادة وحصلت له كما أخبر بها المصطفى عليه الصلاة والسلام، فإنه لما كان يوم الجمل ذكره علي بما ذكره به فرجع عن القتال وكر راجعاً إلى المدينة فمر بقوم الأحنف بن قيس وكانوا قد انعزلوا عن الفريقين فقال قائل يقال له الأحنف: ما بال هذا جمع بين الناس حتى إذا التقوا كر راجعاً إلى بيته من رجل يكشف لنا خبره؟ فاتبعه عمرو بن جرموز في طائفة من غواة بني تميم... فأدركه عمرو بواد يقال له وادي السباع – قريب من البصرة – وهو نائم في القائلة فهجم عليه فقتله... ولما قتله اجتز رأسه وذهب بها إلى علي ورأى أن ذلك يحصل له به حظوة عنده فاستأذن فقال علي: لا تأذنوا له وبشروه بالنار وفي رواية: أن علياً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بشر قاتل ابن صفية بالنار)) ودخل ابن جرموز ومعه سيف الزبير فقال علي: إن هذا السيف طال من فرج الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال: إن عمرو بن جرموز لما سمع ذلك قتل نفسه وقيل: بل عاش إلى أن تأمر مصعب بن الزبير على العراق فاختفى منه فقيل لمصعب: إن عمرو بن جرموز هاهنا وهو مختف فهل لك فيه؟ فقال: مروه فليظهر فهو آمن والله ما كنت لأقيد للزبير منه فهو أحقر من أن أجعله عدلا للزبير (وكان قتله -رضي الله عنه- يوم الخميس لعشر خلون من جمادي الآخرة سنة ست وثلاثين) ذلك هو حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلك طائفة من مناقبه التي دلت على عظيم قدره وعلو شأنه -رضي الله عنه- وأرضاه.
ثالثا: فضل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
هو أبو محمد عبد الرحمن بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي الزهري كان اسمه في الجاهلية –عبد عمرو- وقيل عبد الكعبة فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن أمه الشفاء بنت عوف بن عبد الحارث بن زهرة .
(شهد -رضي الله عنه- بدراً والمشاهد كلها وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا بالإسلام) (وأحد الستة أصحاب الشورى الذين أخبر عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه توفي وهو عنهم راض وأسند رفقته أمرهم إليه حتى بايع عثمان) (أسلم قديماً قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم وقبل أن يدعو فيها) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
(وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى بني كلب، وأرخى له عذبة بين كتفيه لتكون أمارة عليه للإمارة) ومناقبه -رضي الله عنه- كثيرة وقد وردت طائفة من الأحاديث الصحيحة بذكر مناقبه -رضي الله عنه- ومنها:
- روى الإمام مسلم بإسناده إلى عروة بن المغيرة بن شعبة أخبره أن المغيرة بن شعبة أخبره أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك قال المغيرة: ((فتبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الغائط فحملت معه إداوة قبل صلاة الفجر فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي أخذت أهريق على يديه من الإداوة وغسل يديه ثلاث مرات ثم ذهب يخرج جبته عن ذراعيه فضاق كما جبته فأدخل يديه في الجبة حتى أخرج ذراعيه من أسفل الجبة وغسل ذراعيه إلى المرفقين ثم توضأ على خفيه، ثم أقبل. قال المغيرة: فأقبلت معه حتى وجد الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى لهم فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين فصلى مع الناس الركعة الآخرة فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم صلاته فأفزع ذلك المسلمين فأكثروا التسبيح فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته أقبل عليهم ثم قال: أحسنتم أو قال: أصبتم يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها)) .
فصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية من صلاة الفجر دلت على منقبة عظيمة له لا تبارى، رضي الله عنه وأرضاه.
- ومن مناقبه -رضي الله عنه- أنه تقاول هو وخالد بن الوليد في بعض الغزوات فأغلظ له خالد في المقال فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)) .
فقوله صلى الله عليه وسلم ((لا تسبوا أحداً من أصحابي)) يعني عبد الرحمن ونحوه الذين هم السابقون الأولون وهم الذين أسلموا من قبل الفتح وقاتلوا وهم أهل بيعة الرضوان فهم أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان وهم الذين أسلموا بعد الحديبية وبعد مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة ومنهم خالد بن الوليد فالحديث تضمن منقبة رفيعة لعبد الرحمن بن عوف حيث كان ممن شرف بالسبق إلى الإسلام.
- ومن مناقبه -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم غيّر اسمه من عبد عمرو إلى عبد الرحمن.
روى الحاكم بإسناده إلى عبد الرحمن بن عوف قال: (كان اسمي في الجاهلية عبد عمرو فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن)
- ومن مناقبه -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله له أن يسقيه من سلسبيل الجنة.
فقد روى الحاكم أيضاً بإسناده إلى أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأزواجه: ((إن الذي يحنو عليكم بعدي هو الصادق البار اللهم اسق عبد الرحمن بن عوف من سلسبيل الجنة)) .
وروى أيضاً: بإسناده إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن حدثه قال: دخلت على عائشة -رضي الله عنها- فقالت لي: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي: أمركن مما يهمني بعدي ولن يصبر عليكن إلا الصابرون، ثم قالت: فسقى الله أباك من سلسبيل الجنة، وكان عبد الرحمن بن عوف قد وصلهن بمال فبيع بأربعين ألفاً)) .
ففي هذين الحديثين فضيلة لعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-.
- ومن أجلّ مناقبه وأعلاها شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة. فقد روى الترمذي رحمه الله بسنده إلى عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة...)) الحديث .
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الرحمن أحد أهل الجنة، جعلنا الله منهم بفضله ومنه آمين.
- ومن مناقبه العظيمة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شهيد. روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه قال: أشهد على التسعة أنهم في الجنة ولو شهدت على العاشر لم آثم قيل: وكيف ذاك قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء فقال: ((اثبت حراء فإنه ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد)) قيل: ومن هم قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف قيل فمن العاشر قال أنا .
فالحديث تضمن منقبة عالية لعبد الرحمن وهي أنه سيموت شهيداً ولا يعارض هذا وفاته -رضي الله عنه- على فراشه فلابد من التسليم والإيمان بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ولابد هناك من سبب ثبتت له به الشهادة ليكون تصديقاً للنبي صلى الله عليه وسلم لم نعلمه نحن.
ذلك هو عبد الرحمن بن عوف الذي قضى حياته كلها في طاعة ربه حتى في اللحظة الأخيرة التي كان فيها في مرض موته فقد قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: (ولما حضرته الوفاة أوصى لكل رجل ممن بقي من أهل بدر بأربعمائة دينار وكانوا مائة فأخذوها حتى عثمان وعلي وقال علي: اذهب يا ابن عوف فقد أدركت صفوها وسبقت زيفها . وأوصى لكل امرأة من أمهات المؤمنين بمبلغ كثير حتى كانت عائشة تقول: سقاه الله من السلسبيل وأعتق خلقاً من مماليكه، ولما مات صلى عليه عثمان بن عفان، وحمل في جنازته سعد بن أبي وقاص ودفن بالبقيع سنة إحدى وثلاثين وقيل سنة اثنتين وهو الأشهر) .
رابعا: فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
هو أبو إسحاق سعد بن مالك بن أهيب ويقال له: ابن وهيب بن عبد مناف ابن زهرة بن كلاب القرشي الزهري (يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كلاب بن مرة وعدد ما بينهما من الآباء متقارب وأمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس لم تسلم) وهو -رضي الله عنه- أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، أسلم قديماً وكان يوم أسلم عمره سبع عشرة سنة وهاجر إلى المدينة وشهد بدراً، وما بعدها من المشاهد وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان فارساً شجاعاً من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في أيام الصديق معظماً جليل المقدار، وكذلك في أيام عمر وقد استنابه على الكوفة وهو الذي بناها، وهو الذي فتح المدائن ، وكانت بين يديه وقعة جلولاء وكان سيداً مطاعاً، وعزله عن الكوفة عن غير عجز ولا خيانة ولكن لمصلحة ظهرت لعمر في ذلك، ثم ولاه عثمان بعده، ثم عزله عنها وكان -رضي الله عنه- مجاب الدعوة مشهوراً بذلك ، ومناقبه -رضي الله عنه- كثيرة مشهورة وردت بها الأحاديث الصحيحة ومنها:
- روى البخاري بإسناده إلى سعيد بن المسيب قال: سمعت سعداً يقول: جمع لي النبي صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد .
- وروى مسلم بإسناده إلى عامر بن سعد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع له أبويه يوم أحد قال: ((كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارم فداك أبي وأمي قال: فنزعت له بسهم ليس فيه نصل فأصبت جنبه فسقط فانكشفت عورته فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظرت إلى نواجذه)) .
- وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن شداد قال: سمعت علياً يقول: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد غير سعد بن مالك فإنه جعل يقول له يوم أحد: ((ارم فداك أبي وأمي)) .
هذه الأحاديث تضمنت منقبة عظيمة لسعد -رضي الله عنه- وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم فداه بأبويه وهذه التفدية فيها دلالة على أنه عظيم المنزلة جليل القدر عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ الإنسان لا يفدي إلا من يعظمه فيضحي بنفسه أو أعز أهله له.
وقول علي -رضي الله عنه-: (ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد غير سعد بن مالك) يفيد الحصر ولكن هذا الحصر فيه نظر لأنه تقدم معنا قريباً أن عليه الصلاة والسلام جمع أبويه يوم الخندق للزبير بن العوام -رضي الله عنه- ويجمع بين الحديثين (بأن علياً -رضي الله عنه- لم يطلع على ذلك أو مراده بذلك تقييده بيوم أحد والله أعلم) .
- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ((سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال: ليت رجلا صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة، قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح فقال: من هذا قال: سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما جاء بك؟ قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام)) .
هذا الحديث تضمن منقبة لسعد -رضي الله عنه- وأنه من الصالحين وأكرم بها من منقبة إذ الصالحون يتولاهم رب العالمين كما قال تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] ولقد حظي -رضي الله عنه- بمفخرة عظيمة وهي حراسته للنبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤه له عليه الصلاة والسلام وكان هذا الحديث قبل نزول قوله تعالى: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] لأنه صلى الله عليه وسلم ترك الاحتراس حين نزلت هذه الآية وأمر أصحابه بالانصراف عن حراسته وهذا الحديث مصرح بأن هذه الحراسة كانت أول قدومه المدينة ومعلوم أن الآية نزلت بعد ذلك بأزمان .
- ومن مناقبه -رضي الله عنه- أن الله تعالى أنزل فيه قرآنا يتلى إلى يوم القيامة. فقد روى الإمام مسلم بإسناده إلى سعد -رضي الله عنه- أنه نزلت فيه آيات من القرآن قال: ((حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبداً حتى يكفر بدينه ولا تأكل ولا تشرب قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك وأنا أمك وأنا آمرك بهذا قال: مكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجهد فقام ابن لها يقال له عمارة فسقاها فجعلت تدعو على سعد فأنزل الله – عز وجل – في القرآن هذه الآية {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} {وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} وفيها {وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] قال وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة فإذا فيها سيف فأخذته فأتيت به الرسول صلى الله عليه وسلم فقلت: نفلني هذا السيف فأنا من قد علمت حاله، فقال: رده من حيث أخذته؛ فانطلقت حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه فقلت: أعطنيه، قال فشد لي صوته: رده من حيث أخذته، قال: فأنزل الله – عز وجل - {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ} [الأنفال: 1] قال: ومرضت فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاني فقلت: دعني أقسم مالي حيث شئت قال: فأبى قلت: فالنصف قال: فأبى قلت: فالثلث قال: فسكت فكان بعد الثلث جائزاً قال: وأتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمراً وذلك قبل أن تحرم الخمر قال: فأتيتهم في حش والحش البستان فإذا رأس جزور مشوي عندهم وزق من خمر قال: فأكلت وشربت معهم قال: فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت: المهاجرون خير من الأنصار قال: فأخذ رجل أحد لحيي الرأس فضربني به فجرح بأنفي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأنزل الله – عز وجل – في يعني نفسه شأن الخمر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90])) .
فهذا الحديث تضمن بيان فضيلة سعد حيث نزلت في شأنه تلك الآيات القرآنية المشار إليها في هذا الحديث.
- ومن مناقبه رضي الله تعالى عنه أن الله تعالى أثنى عليه وأخبر أنه من الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه. فقد جاء في (صحيح مسلم) عنه -رضي الله عنه- قال: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله – عز وجل - {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52])) .
- ومن مناقبه -رضي الله عنه- أنه أسلم قديماً. فقد روى البخاري بإسناده إلى سعد قال: (لقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام) .
وروى أيضاً بإسناده إلى سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: (ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام) .
فقوله -رضي الله عنه- لقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام فيه منقبة عظيمة له وأراد بذلك أنه ثالث من أسلم أولا وأراد بالاثنين أبا بكر وخديجة أو النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر والظاهر أنه أراد الرجال الأحرار (فقد ذكر أبو عمر بن عبد البر في (الاستيعاب) أنه سابع سبعة في الإسلام) وقد قدمنا في فضل الصديق من حديث عمار بن ياسر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وأبو بكر فهؤلاء ستة ويكون هو السابع بهذا الاعتبار أو قال ذلك بحسب اطلاعه والسبب فيه أن من كان أسلم في ابتداء الأمر كان يخفي إسلامه فبهذا الاعتبار قال: وأنا ثلث الإسلام... وقوله -رضي الله عنه-: (ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه) ظاهره أنه لم يسلم أحد قبله وهذا فيه إشكال لأنه قد أسلم قبله جماعة ولكن يحمل هذا على مقتضى ما كان اتصل بعلمه حينئذ، وقد روى ابن منده في (المعرفة) من طريق أبي بدر عن هاشم بلفظ: (ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه) وهذا لا إشكال فيه لأنه لا مانع أن يشاركه أحد في الإسلام يوم أسلم ولا ينافي هذا إسلام جماعة قبل يوم إسلامه وقوله: (ولقد مكثت...إلخ) هذا أيضاً على مقتضى اطلاعه) .
- ومن مناقبه -رضي الله عنه- أنه أول من رمى بسهمه في سبيل الله لمجاهدة أعداء الله وإعلاء كلمة الله. فقد روى البخاري بإسناده إلى سعد -رضي الله عنه- قال: (إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله وكنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى إن أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشاة ما له خلط...) الحديث .
في هذا بيان فضيلة سعد -رضي الله عنه- حيث إنه كان أول رام بسهمه في سبيل الله (وكان ذلك في سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وكان القتال فيها أول حرب وقعت بين المشركين والمسلمين وهي أول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى من الهجرة بعث ناساً من المسلمين إلى رابغ ليلقوا عيراً لقريش فتراموا بالسهام ولم يكن بينهم مسايفة فكان سعد أول من رمى) .
- ومن مناقبه -رضي الله عنه- أنه كان مجاب الدعوة مشهوراً بذلك وسبب ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله له بأن يكون مجاب الدعوة فحقق الله دعوة نبيه عليه الصلاة والسلام فكانت دعوته مستجابة -رضي الله عنه- جاء في (مجمع الزوائد) عن عامر – يعني الشعبي – قال: قيل لسعد بن أبي وقاص: متى أجبت الدعوة؟ قال: يوم بدر كنت أرمي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فأضع السهم في كبد القوس ثم أقول: اللهم زلزل أقدامهم وأرعب قلوبهم وافعل بهم وافعل فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم استجب لسعد)) رواه الطبراني وإسناده حسن .
وفيه أيضاً: عن سعد قال: سمعني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أدعو فقال: ((اللهم استجب له إذا دعاك)). رواه البزار ورجاله رجال الصحيح .
- ومن مناقبه العالية شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة فقد روى الترمذي وغيره من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة...)) الحديث .
- ومن مناقبه -رضي الله عنه- شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه من الشهداء فقد روى مسلم بإسناده إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء فتحرك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد)) وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم .
فقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شهيد مع أنه لم يمت في معركة وإنما توفي بقصره بالعقيق سنة إحدى وخمسين وقيل ست وقيل ثمان والثاني أشهر .
قال النووي: وأما ذكر سعد بن أبي وقاص في الشهداء فقال القاضي: إنما سمي شهيداً لأنه مشهود له بالجنة قال علي بن المديني: وهو آخر العشرة وفاة، وقال غيره: كان آخر المهاجرين وفاة، رضي الله عنه وعنهم أجمعين ذلك هو سعد بن أبي وقاص وتلك طائفة من فضائله العظيمة رضي الله عنه.
خامسا: فضل أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه
هو عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب ويقال: وهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر القرشي الفهري أبو عبيدة بن الجراح مشهور بكنيته وبالنسبة إلى جده، وأمه أميمة بنت غنم بن جابر بن عبد العزى بن عامر بن عميرة . وهو من السابقين الأولين إلى الإسلام (وكان إسلامه هو وعثمان بن مظعون وعبيدة بن الحارث بن المطلب وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد في ساعة واحدة قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم) .
وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وهاجر الهجرتين وشهد بدراً وما بعدها وهو الذي انتزع حلقتي المغفر من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنيتاه بسبب ذلك وثبت يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انهزم الناس ومناقبه -رضي الله عنه- تضمنتها أحاديث صحيحة مشهورة منها:
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
- ما رواه الشيخان من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لكل أمة أميناً وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح)) .
هذا الحديث تضمن منقبة عظيمة لأبي عبيدة -رضي الله عنه- (والأمين هو الثقة المرضي وهذه الصفة وإن كانت مشتركة بينه وبين غيره لكن السياق يشعر بأن له مزيداً في ذلك لكن خص النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد من الكبار بفضيلة ووصفه بها فأشعر بقدر زائد فيها على غيره كالحياء لعثمان والقضاء لعلي ونحو ذلك) .
وروى البخاري بإسناده إلى حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجران: ((لأبعثن عليكم – يعني – أمينا حق أمين)) فأشرف أصحابه فبعث أبا عبيدة رضي الله عنه .
وروى مسلم بإسناده إلى أنس ((أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلا يعلمنا السنة والإسلام قال: فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: هذا أمين هذه الأمة)) .
وروى أيضاً: بإسناده إلى حذيفة قال: جاء أهل نجران إلى رسول الله فقالوا: يا رسول الله ابعث إلينا رجلا أميناً فقال: ((لأبعثن إليكم رجلا أميناً حق أمين)) قال: فاستشرف لها الناس .
إنها لمنقبة عظيمة خص بها أبو عبيدة -رضي الله عنه- حق لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتطلعوا لها (وكان تطلعهم رضي الله عنهم إلى الولاية ورغبتهم فيها حرصاً منهم على أن يكون أحدهم هو الأمين الموعود في الحديث لا حرصاً على الولاية من حيث هي) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: قوله لأهل نجران هم أهل بلد قريب من اليمن وهم العاقب واسمه عبد المسيح والسيد ومن معهما، ذكر ابن سعد أنهم وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع وسماهم ... ووقع في حديث أنس عند مسلم: (أن أهل اليمن قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلا يعلمنا السنة والإسلام فأخذ بيد أبي عبيدة وقال: ((هذا أمين هذه الأمة)) فإن كان الراوي تجوز عن أهل نجران بقوله: (أهل اليمن) لقرب نجران من اليمن وإلا فهما واقعتان والأول أرجح) ا.هـ .
- ومن مناقبه العالية -رضي الله عنه- أنه كان أحد من يصلح للخلافة، وأحد الناس الذين كانوا أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم روى الإمام مسلم بإسناده إلى ابن أبي مليكة قال: سمعت عائشة وسئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا .
وهذا الأثر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تضمن منقبة عظيمة لأبي عبيدة وهي اعتقادها رضي الله عنها أنه صالح للخلافة وأنه أهل لها رضي الله عنه وأرضاه.
وروى الترمذي وابن ماجة بإسناديهما إلى عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة: أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب إليه؟ قالت: أبو بكر قلت: ثم من؟ قالت: ثم عمر، قلت: ثم من؟ قالت ثم أبو عبيدة بن الجراح قلت: ثم من؟ فسكتت .
وفي هذا بيان فضيلة لأبي عبيدة وهي أنه كان أحد الذين هم أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- ومن مناقبه -رضي الله عنه- أن الفاروق -رضي الله عنه- كان يكره مخالفته فيما يراه وأنه كان جليل القدر عنده. فقد روى الشيخان في (صحيحيهما) عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن عمر لما خرج إلى الشام وأخبر أن الوباء قد وقع به فجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشارهم فاختلفوا فرأى عمر رأي من رأى الرجوع فرجع فقال له أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة وكان عمر يكره خلافه، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله.. إلخ) الحديث .
قال الحافظ رحمه الله تعالى: (وذلك دال على جلالة أبي عبيدة عند عمر) .
- ومن مناقبه -رضي الله عنه- أنه عليه الصلاة والسلام قرنه في المدح بالشيخين.
روى الترمذي بسنده إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح)) ثم قال: هذا حديث حسن إنما نعرفه من حديث سهيل.
في هذا الحديث فضيلة ظاهرة لأبي عبيدة حيث قرنه عليه الصلاة والسلام في المدح والثناء عليه مع أبي بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهم جميعاً.
- ومن مناقبه العالية الرفيعة شهادة المصطفى عليه الصلاة والسلام له بالجنة ضمن جماعة من الصحابة كما تقدم في حديث العشرة المبشرين بالجنة، وهو ما رواه الترمذي وغيره بسنده إلى عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة)) .
- ومن مناقبه -رضي الله عنه- أن وفاته كانت شهادة في سبيل الله فقد مات في الطاعون الذي حصل بأرض الشام زمن الفاروق -رضي الله عنه- وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن من كانت وفاته بسبب هذا الداء فإنه شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد وقد جمع الله لأبي عبيدة بين هذين الوصفين. فقد روى الإمام مسلم في (صحيحه) بإسناده إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل، قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد)) قال ابن مقسم: (أشهد على أبيك في هذا الحديث أنه قال: والغريق شهيد) (وهذه الموتات إنما كانت شهادة بتفضل الله تعالى بسبب شدتها وكثرة ألمها) .
قال النووي رحمه الله تعالى: (قال العلماء: المراد بشهادة هؤلاء كلهم غير المقتول في سبيل الله أنهم يكون لهم في الآخرة ثواب الشهداء وأما في الدنيا فيغسلون ويصلى عليهم... والشهداء ثلاثة أقسام: شهيد في الدنيا والآخرة وهو المقتول في حرب الكفار وشهيد في الآخرة دون أحكام الدنيا وهم هؤلاء المذكورون هنا وشهيد في الدنيا دون الآخرة وهو من غل في الغنيمة أو قتل مدبراً) .
(وقد اتفق العلماء على أن أبا عبيدة مات في طاعون عمواس بالشام سنة ثماني عشرة) .
ولما دفن -رضي الله عنه- خطب الناس معاذ بن جبل خطبة بين فيها الكثير من فضائل أبي عبيدة. وقد ذكر أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي سعيد المقبري قال: لما طعن أبو عبيدة قال: يا معاذ صل فصلى معاذ بالناس ثم مات أبو عبيدة بن الجراح فقام معاذ في الناس فقال: يا أيها الناس توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحاً فإن عبداً لله يلقى الله تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أن يغفر له ثم قال: إنكم أيها الناس قد فجعتم برجل والله ما أزعم أني رأيت من عباد الله عبداً قط أقل غمزاً ولا أبر صدراً ولا أبعد غائلة ولا أشد حباً للعاقبة ولا أنصح للعامة منه فترحموا عليه رحمه الله ثم أصحروا للصلاة عليه فوالله لا يلي عليكم مثله أبداً فاجتمع الناس وأخرج أبو عبيدة وتقدم معاذ فصلى عليه حتى إذا أتي به قبره دخل قبره معاذ بن جبل وعمرو بن العاص والضحاك بن قيس فلما وضعوه في لحده وخرجوا فشنوا عليه التراب فقال معاذ بن جبل: يا أبا عبيدة لأثنين عليك ولا أقول باطلا أخاف أن يلحقني بها من الله مقت كنت والله ما علمت من الذاكرين الله كثيراً ومن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ومن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً وكنت والله من المخبتين المتواضعين الذين يرحمون اليتيم والمسكين ويبغضون الخائنين المتكبرين .
فهذا الثناء من معاذ -رضي الله عنه- كله تضمن بيان فضائل لأبي عبيدة بن الجراح ذلك هو أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح وتلك طائفة من مناقبه التي دلت على أنه جليل القدر رفيع المنزلة رضي الله عنه وأرضاه.
سادسا: فضل سعيد بن زيد رضي الله عنه
هو أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رباح ابن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي القرشي العدوي كان أبوه زيد بن عمرو بن نفيل أحد الحنفاء الذين طلبوا دين الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام قبل أن يبعث النبي عليه الصلاة والسلام، وكان لا يذبح للأصنام ولا يأكل الميتة والدم وكان يقول لقومه: يا معشر قريش والله لا آكل ما ذبح لغير الله، والله ما أحد على دين إبراهيم غيري .
وأم سعيد بن زيد فاطمة بنت بعجة بن مليح الخزاعية كانت من السابقين إلى الإسلام وهو ابن عم عمر بن الخطاب وصهره كانت تحته فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب وكانت أخته عاتكة بنت زيد بن عمرو تحت عمر بن الخطاب وكان سعيد بن زيد من السابقين الأولين إلى الإسلام وأحد العشرة المبشرين بالجنة، أسلم قبل عمر بن الخطاب هو وزوجته فاطمة، وهاجرا، وكان من سادات الصحابة. قال عروة والزهري وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق والواقدي وغير واحد: لم يشهد بدراً لأنه قد كان بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وطلحة بن عبيد الله بين يديه يتجسسان أخبار قريش، فلم يرجعا حتى فرغ من بدر فضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهميهما وأجرهما، ولم يذكره عمر في أهل الشورى لئلا يحابى بسبب قرابته من عمر فيولى فتركه لذلك ولم يتول بعده ولاية وما زال كذلك حتى مات .
وقد وردت بعض الأحاديث المتعددة المصرحة بفضله -رضي الله عنه- ومنها:
- ما رواه البخاري بإسناده إلى قيس بن أبي حازم قال: سمعت سعيد بن زيد يقول للقوم في مسجد الكوفة يقول: (والله لقد رأيتني وإن عمر لموثقي على الإسلام قبل أن يسلم عمر ولو أن أحداً أرفض للذي صنعتم بعثمان لكان محقوقاً أن يرفض) .
ففي هذا بيان فضيلة ظاهرة لسعيد -رضي الله عنه- وهي أنه كان ممن حظي بشرف السبق إلى الإسلام وأن إسلامه كان قبل إسلام الفاروق -رضي الله عنه- إذ أنه بين أن صنع عمر هذا به كان قبل أن يسلم.
قال أبو عبد الله الحاكم: (أسلم سعيد بن زيد بن عمرو قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم وقبل أن يدعو فيها الناس إلى الإسلام) .
- ومن مناقبه العالية شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة مع جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
روى الترمذي بإسناده إلى عبد الرحمن بن حميد أن سعيد بن زيد حدثه في نفر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عشرة في الجنة أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة وعلي وعثمان والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص)) قال: فعد هؤلاء التسعة وسكت عن العاشر قال القوم: ننشدك الله يا أبا الأعور من العاشر؟ قال: نشدتموني بالله أبو الأعور في الجنة .
- ومن مناقبه -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه من الشهداء. فقد روى الترمذي بإسناده إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه قال: ((أشهد على التسعة أنهم في الجنة ولو شهدت على العاشر لم آثم قيل: وكيف ذاك؟ قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قال: اثبت حراء فإنه ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد، قيل: ومن هم؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف قيل: فمن العاشر قال: أنا)) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم
ففي هذا فضيلة عظيمة لسعيد بن زيد -رضي الله عنه- حيث شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة وإن مات على فراشه فهو شهيد لخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام بذلك.
وكانت وفاته -رضي الله عنه- سنة (إحدى وخمسين وقيل سنة اثنتين وخمسين وقد غسله سعد وحمل من العقيق على رقاب الرجال إلى المدينة) .
قال الشوكاني رحمه الله تعالى مبيناً فضل سعيد بن زيد -رضي الله عنه- (ويكفي سعيد بن زيد أنه أحد العشرة المبشرين بالجنة وأنه شهد أحداً وما بعده من المشاهد كلها وصار من جملة أهل بدر بما ضربه له رسول الله صلى الله عليه وسلم من السهم والأجر) اهـ .
ذلك هو سعيد بن زيد وتلك طائفة من مناقبه وبه -رضي الله عنه- نختم فضل العشرة المبشرين بالجنة الذين قدمنا فضائلهم التي دلت على مكانتهم وعلو منزلتهم، فيجب على المسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أنهم من أهل الجنة بأعيانهم كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] وكلهم رضي الله عنهم من قريش الذين سبقوا إلى الإسلام وهاجروا إلى الله ورسوله وتركوا ديارهم وأموالهم بغية نصرة دين الإسلام ورفع رايته.
المبحث الرابع: عقيدة أهل السنة في الصحابة
المطلب الأول: وجوب محبتهم
من عقائد أهل السنة والجماعة وجوب محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم وتوقيرهم وتكريمهم والاحتجاج بإجماعهم والاقتداء بهم، والأخذ بآثارهم، وحرمة بغض أحد منهم لما شرفهم الله به من صحبة رسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه لنصرة دين الإسلام، وصبرهم على أذى المشركين والمنافقين، والهجرة عن أوطانهم وأموالهم وتقديم حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك كله، وقد دلت النصوص الكثيرة على وجوب حب الصحابة رضي الله عنهم جميعاً، وقد فهم أهل السنة والجماعة ما دلت عليه النصوص في هذا واعتقدوا ما تضمنته مما يجب لهم من المحبة على وجه العموم رضي الله عنهم وأرضاهم، ومن تلك النصوص:
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
(1) قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10].
(هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة لأنه جعل لمن بعدهم حظاً في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبهم أو واحداً منهم أو اعتقد فيه شراً أنه لا حق له في الفيء، روي ذلك عن مالك وغيره، قال مالك: (من كان يبغض أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ} الآية) .
(2) روى الترمذي بإسناده إلى عبد الله بن مغفل المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه)) .
هذا الحديث تضمن الحث لكل إنسان يأتي بعد الصحابة في أن يحفظ حقهم، والمعنى: لا تنقصوا من حقهم ولا تسبوهم، بل عظموهم ووقروهم، ولا تتخذوهم هدفاً ترمونهم بقبيح الكلام، كما يرمى الهدف بالسهم، وبين عليه الصلاة والسلام أن حبهم ما استقر في قلب إنسان إلا بسبب حبه للنبي صلى الله عليه وسلم، أو بسبب حب النبي صلى الله عليه وسلم إياهم وما وجد بغضهم في قلب إنسان إلا بسبب ما فيه من البغض للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن يأخذه))، أي: يعاقبه في الدنيا أو في الآخرة . فالحديث دل على وجوب حب الصحابة رضي الله عنهم وخطورة بغضهم.
قال المناوي في قوله صلى الله عليه وسلم: ((الله الله في أصحابي)) (أي: اتقوا الله فيهم ولا تلمزوهم بسوء أو اذكروا الله فيهم، وفي تعظيمهم وتوقيرهم، وكرره إيذاناً بمزيد الحث على الكف عن التعرض لهم بمنقص ((فمن أحبهم فبحبي أحبهم)) أي: فبسبب حبهم إياي، أو حبي إياهم، أي: إنما أحبهم لحبهم إياي، أو لحبي إياهم. ((ومن أبغضهم فببغضي)). أي: فبسبب بغضه إياي، ((أبغضهم)) يعني: إنما أبغضهم لبغضه إياي... وخص الوعيد بها لما اطلع عليه مما سيكون بعده من ظهور البدع وإيذاء بعضهم زعماً منهم الحب لبعض آخر، وهذا من باهر معجزاته، وقد كان في حياته حريصاً على حفظهم والشفقة عليهم. أخرج البيهقي عن ابن مسعود: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)) ، وإن تعرض إليهم ملحد وكفر نعمة قد أنعم الله بها عليهم، فجهل منه وحرمان، وسوء فهم، وقلة إيمان، إذ لو لحقهم نقص لم يبق في الدين ساق قائمة لأنهم النقلة إلينا، فإذا جرح النقلة دخل من الآيات والأحاديث التي بها ذهاب الأنام، وخراب الإسلام إذ لا وحي بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم وعدالة المبلغ شرط لصحة التبليغ) .
(3) وروى الإمام البخاري في (صحيحه) من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)) .
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم هذا: (أن علامات كمال إيمان الإنسان، أو نفس إيمانه حب مؤمني الأوس والخزرج لحسن وفائهم بما عاهدوا الله عليه من إيواء نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره على أعدائه زمن الضعف والعسرة وحسن جواره ورسوخ صداقتهم وخلوص مودتهم ولا يلزم منه ترجيحهم على المهاجرين الذين فارقوا أوطانهم وأهليهم وحرموا أموالهم حباً له وروماً لرضاه... (وآية النفاق) بالمعنى الخاص (بغض الأنصار)، صرح به مع فهمه مما قبله لاقتضاء المقام التأكيد، ولم يقابل الإيمان بالكفر الذي هو ضده، لأن الكلام فيمن ظاهره الإيمان، وباطنه الكفر فميزه عن ذوي الإيمان الحقيقي، فلم يقل آية الكفر لكونه غير كافر ظاهراً، وخص الأنصار بهذه المنقبة العظمى، لما امتازوا به من الفضائل، فكان اختصاصهم بها مظنة الحسد الموجب للبغض، فوجب التحذير من بغضهم والترغيب في حبهم، وأبرز ذلك في هذين التركيبين المفيدين للحصر لأن المبتدأ والخبر فيهما معرفتان، فجعل ذلك آية الإيمان والنفاق على منهج القصر الادعائي، حتى كأنه: لا علامة للإيمان إلا حبهم، وليس حبهم إلا علامته، ولا علامة للنفاق إلا بغضهم، وليس بغضهم إلا علامته، تنويهاً بعظيم فضلهم، وتنبيهاً على كريم فعلهم، وإن كان من شاركهم في المعنى مشاركاً لهم في الفضل كل بقسطه) .
(4) وروى مسلم بإسناده إلى عدي بن ثابت، قال: سمعت البراء يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنصار: ((لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)).
قال شعبة: (قلت لعدي: سمعته من البراء؟ قال: إياي حدث) .
(5) وروى أيضاً: بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر)) .
(6) وروى الإمام أحمد بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب الأنصار أحبه الله، ومن أبغض الأنصار أبغضه الله)) .
(7) وروى الحافظ الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أحب الأنصار فبحبي أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم)) .
(8) وروى الإمام أحمد بإسناده إلى البراء بن عازب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحب الأنصار إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)) .
(9) وروى الإمام أحمد بإسناده إلى سعد بن عبادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا الحي من الأنصار محنة حبهم إيمان وبغضهم نفاق)) .
(10) وروى أيضاً: بإسناده إلى الحارث بن زياد الساعدي ((أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو يبايع الناس على الهجرة فقال: يا رسول الله بايع هذا، قال: ومن هذا، قال: ابن عمي حوط بن يزيد أو يزيد بن حوط، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أبايعك إن الناس يهاجرون إليكم ولا تهاجرون إليهم، والذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده لا يحب رجل الأنصار حتى يلقى الله تبارك وتعالى إلا لقي الله – تبارك وتعالى – وهو يحبه، ولا يبغض رجل الأنصار حتى يلقى الله – تبارك وتعالى – إلا لقي الله – تبارك وتعالى – وهو يبغضه)) .
(11) وروى الإمام مسلم بإسناده إلى علي رضي الله عنه أنه قال: ((والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق)) .
فهذه الأحاديث كلها دلت على وجوب حب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً مهاجرين وأنصار، ولا يقال إن ظاهر لفظها في الأنصار فلا يدخل فيها المهاجرون، بل الصحيح أنه يدخل فيها كل فرد من أفراد الصحابة لتحقق مشترك الإكرام، لما لهم من حسن الغناء في الدين رضي الله عنهم أجمعين.
كما اشتملت على ذكر الجزاء الذي ينتظر من يكن لهم المحبة في قلبه ومن يكن لهم البغض، فمن أحبهم فاز بحب الله له، ومن أبغضهم أبغضه الله، وشتان بين الجزائين، كما دلت على أن القلب الذي امتلأ ببغضهم إنما هو قلب ينضح بالنفاق، خذل صاحبه بعدم الإيمان والعياذ بالله.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى مبيناً المراد في قوله صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق بغض الأنصار، وآية المؤمن حب الأنصار)) ، وفي الرواية الأخرى: ((لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، ومن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)) ، وفي الأخرى: ((لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر)) ، وفي حديث علي رضي الله عنه: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إلي أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق) .
(الآية: هي العلامة، ومعنى هذه الأحاديث أن من عرف مرتبة الأنصار وما كان منهم في نصرة دين الإسلام والسعي في إظهاره وإيواء المسلمين وقيامهم في مهمات دين الإسلام حق القيام، وحبهم النبي صلى الله عليه وسلم، وحبه إياهم، وبذلهم أموالهم وأنفسهم بين يديه، وقتالهم ومعاداتهم سائر الناس إيثاراً للإسلام، وعرف من علي بن أبي طالب رضي الله عنه قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب النبي صلى الله عليه وسلم له، وما كان منه في نصرة الإسلام، وسوابقه فيه، ثم أحب الأنصار وعلياً لهذا كان ذلك من دلائل صحة إيمانه، وصدقه في إسلامه لسروره بظهور الإسلام والقيام بما يرضي الله – سبحانه وتعالى – ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أبغضهم كان بضد ذلك، واستدل به على نفاقه وفساد سريرته والله أعلم) .
وقال الذهبي رحمه الله تعالى مبيناً العلة من جعله صلى الله عليه وسلم حب الأنصار علامة الإيمان وبغضهم علامة النفاق حيث قال: (وما ذاك إلا لسابقتهم ومجاهدتهم أعداء الله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك حب علي رضي الله عنه من الإيمان وبغضه من النفاق، وإنما يعرف فضائل الصحابة رضي الله عنهم من تدبر أحوالهم وسيرهم وآثارهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موته من المسابقة إلى الإيمان، والمجاهدة للكفار ونشر الدين وإظهار شعائر الإسلام وإعلاء كلمة الله ورسوله وتعليم فرائضه وسننه ولولاهم ما وصل إلينا من الدين أصل ولا فرع ولا علمنا من الفرائض والسنن سنة ولا فرضاً، ولا علمنا من الأحاديث والأخبار شيئاً) .
وقال العيني رحمه الله تعالى شارحاً لقوله صلى الله عليه وسلم: ((آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)) : (المقصود من الحديث الحث على حب الأنصار وبيان فضلهم، لما كان منهم من إعزاز الدين وبذل الأموال والأنفس والإيثار على أنفسهم والإيواء والنصر وغير ذلك، قالوا: وهذا جار في أعيان الصحابة كالخلفاء وبقية العشرة والمهاجرين بل في كل الصحابة إذ كل واحد منهم له سابقة وسالفة وغناء في الدين وأثر حسن فيه، فحبهم لذلك المعنى محض الإيمان وبغضهم محض النفاق ويدل عليه ما روي مرفوعاً في فضل أصحابه كلهم: ((من أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم)) .
وقال القرطبي: (وأما من أبغض والعياذ بالله أحداً منهم من غير تلك الجهة لأمر طارئ من حدث وقع لمخالفة غرض أو لضرر ونحوه لم يصر بذلك منافقاً ولا كافراً، فقد وقع بينهم حروب ومخالفات، ومع ذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام، فإما أن يقال كلهم مصيب، أو المصيب واحد والمخطئ معذور، مع أنه مخاطب بما يراه ويظنه، فمن وقع له في أحد منهم والعياذ بالله لشيء من ذلك، فهو عاص يجب عليه التوبة، ومجاهدة نفسه بذكر سوابقهم، وفضائلهم، وما لهم على كل من بعدهم من الحقوق إذا لم يصل أحد من بعدهم لشيء من الدين والدنيا إلا بهم وبسببهم قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ} الآية اهـ) .
وقد وفق الله الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة لاعتقاد ما دلت عليه النصوص المتقدم ذكرها من أن حب الصحابة واجب على كل مسلم، (فقد سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: حب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما سنة؟ قال: لا، فريضة) .
وقال الطحاوي رحمه الله تعالى مبيناً ما يجب على المسلم اعتقاده في محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان) .
وقال أبو عبد الله بن بطة في صدد عرضه لعقيدة أهل السنة: (ونحب جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراتبهم ومنازلهم أولاً فأولاً: من أهل بدر والحديبية وبيعة الرضوان وأحد فهؤلاء أهل الفضائل الشريفة والمنازل المنيفة الذين سبقت لهم السوابق رحمهم الله أجمعين) .
فعلى المسلم أن يسلك في حب الصحابة مسلك أهل الحق من أهل السنة والجماعة بحيث يحبهم جميعاً، ولا يفرط في حب أحد منهم وأن يتبرأ من طريقة الشيعة الرافضة الذين يتدينون ببغضهم وسبهم، ومن طريقة النواصب والخوارج الذين ابتلوا بإيذاء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعلم كل مسلم أن أهل السنة والجماعة يتبرؤون من طريقة هذه الفرق فيهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ويتبرؤون من طريقة الروافض والشيعة الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب والخوارج الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل) .
(فمن أراد السلامة لدينه وأن يسلم له إيمانه فليحبهم جميعاً، وأن يحتم ذلك على نفسه، وعلى كل أبناء جنسه لأن ذلك واجب على جميع الأمة واتفق على ذلك الأئمة، فلا يزوغ عن حبهم إلا هالك، ولا يزوغ عن وجوب ذلك إلا آفك) .
أولاً: معنى العدالة في اللغة
جاء في (الصحاح) للجوهري: (العدل خلاف الجور، يقال: عدل عليه في القضية فهو عادل، وبسط الوالي عدله ومعدِلته ومعدَلَتَه، وفلان من أهل المعدلة، أي: من أهل العدل، ورجل عدل، أي: رضا ومقنع في الشهادة، وهو في الأصل مصدر، وقوم عدل وعدول أيضاً: وهو جمع عدل وقد عدل الرجل بالضم عدالة... إلى أن قال: وتعديل الشيء: تقويمه، يقال: عدلته فاعتدل، أي: قومته فاستقام) .
وجاء في (لسان العرب): (رجل عدل بين العدل والعدالة: وصف بالمصدر معناه ذو عدل، قال في موضعين: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ}[الطلاق: 2]، ويقال: رجل عدل ورجلان عدل، ورجال عدل، وامرأة عدل، ونسوة عدل، كل ذلك على معنى رجال ذوو عدل، ونسوة ذوات عدل، فهو لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، فإن رأيته مجموعاً، أو مثنى أو مؤنثاً، فعلى أنه قد أجري مجرى الوصف الذي ليس بمصدر) اهـ.
وجاء في (المصباح المنير): (وعدلت الشاهد نسبته إلى العدالة ووصفته بها و(عدل) هو بالضم، (عدالة) و(عدولة) فهو (عدل) أي: مرضي يقنع به ويطلق (العدل) على الواحد وغيره بلفظ واحد، وجاز أن يطابق في التثنية والجمع فيجمع على عدول، قال ابن الأنباري: وأنشدنا أبو العباس:

وتعاقد العقد الوثيق وأشهدا
من كل قوم مسلمين عدولاً

وربما طابق في التأنيث، وقيل: امرأة عدلة) .
وجاء في (القاموس): (العدل ضد الجور، وما قام في النفوس أنه مستقيم كالعدالة والعَدُولة والمعدِلة والمعدَلة) اهـ.
فمن هذه التعاريف اللغوية تبين أن معنى العدالة في اللغة: الاستقامة، وأن العدل هو الذي لم تظهر منه ريبة ، وهو الذي يرضى الناس عنه، ويقبلون شهادته ويقنعون بها .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ثانياً: تعريف العدالة في الاصطلاح
أما تعريف العدالة في الاصطلاح فقد تنوعت فيها عبارات العلماء من محدثين وأصوليين وفقهاء:
(1) روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى القاضي أبي بكر محمد بن الطيب أنه قال: (العدالة المطلوبة في صفة الشاهد والمخبر هي العدالة الراجعة إلى استقامة دينه، وسلامة مذهبه، وسلامته من الفسق، وما يجري مجراه مما اتفق على أنه مبطل العدالة من أفعال الجوارح والقلوب المنهي عنها) .
(2) وعرفها الخطيب البغدادي بقوله: (العدل هو من عرف بأداء فرائضه ولزوم ما أمر به وتوقي ما نهي عنه، وتجنب الفواحش المسقطة وتحري الحق والواجب في أفعاله ومعاملته والتوقي في لفظه مما يثلم الدين والمروءة فمن كانت هذه حاله فهو الموصوف بأنه عدل في دينه ومعروف بالصدق في حديثه وليس يكفيه في ذلك اجتناب كبائر الذنوب التي يسمى فاعلها فاسقاً حتى يكون مع ذلك متوقياً لما يقول كثير من الناس أنه لا يعلم أنه كبير) .
(3) وعرفها الغزالي بقوله: (والعدالة: عبارة عن استقامة السيرة والدين ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفاً وازعاً عن الكذب، ثم لا خلاف في أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي ولا يكفي أيضاً: اجتناب الكبائر بل من الصغائر ما يرد به كسرقة بصلة وتطفيف في حبة قصداً، وبالجملة كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يستجرئ على الكذب بالأغراض الدنيوية كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة نحو الأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأراذل وإفراط المزح وضابط ذلك فيما جاوز محل الإجماع أن يرد إلى اجتهاد الحاكم فما دل عنده على جرأته على الكذب رد الشهادة به وما لا، فلا) .
(4) وعرفها ابن الحاجب: بقوله: (العدالة: هي محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ليس معها بدعة، وتتحقق باجتناب الكبائر وترك الإصرار على الصغائر وبعض المباح كاللعب بالحمام والاجتماع مع الأراذل والحرف الدنية مما لا يليق به ولا ضرورة) .
(5) وعرفها الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بقوله: (المراد بالعدل من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة، والمراد بالتقوى: اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة) .
(6) وعرفها أيضاً بتعريف آخر فقال: (والعدل والرضا عند الجمهور من يكون مسلماً مكلفاً حراً غير مرتكب كبيرة ولا مصر على صغيرة. زاد الشافعي: وأن يكون ذا مروءة) .
واشتراط الحرية فيه نظر.
(7) وذكر علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي عدة تعريفات للعدالة في كتابه (الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف) حيث قال: (العدالة: هي استواء أحواله في دينه واعتدال أقواله وأفعاله، وقيل: العدل من لم تظهر منه ريبة) .
وذكر أبو محمد الجوزي في العدالة: (اجتناب الريبة وانتفاء التهمة). زاد في (الرعاية): (وفعل ما يستحب وترك ما يكره) اهـ.
(8) وقال السيوطي في تعريف العدالة: (حدها الأصحاب: بأنها ملكة أي: هيئة راسخة في النفس تمنع من اقتراف كبيرة أو صغيرة دالة على الخسة أو مباح يخل بالمروءة وهذه أحسن عبارة في حدها وأضعفها قول من قال: اجتناب الكبائر والإصرار على الصغائر لأن مجرد الاجتناب من غير أن تكون عنده ملكة وقوة تردعه عن الوقوع فيما يهواه غير كاف في صدق العدالة، ولأن التعبير بالكبائر بلفظ الجمع يوهم أن ارتكاب الكبيرة الواحدة لا يضر وليس كذلك، ولأن الإصرار على الصغائر من جملة الكبائر فذكره في الحد تكرار) .
هذه تعريفات أهل العلم للعدالة في الاصطلاح، وهي وإن تنوعت عباراتها إلا أنها ترجع إلى معنى واحد وهو أن العدالة ملكة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة ولا تتحقق للإنسان إلا بفعل المأمور وترك المنهي وأن يبعد عما يخل بالمروءة، وأيضاً: لا تتحقق إلا بالإسلام، والبلوغ، والعقل، والسلامة من الفسق.
والمراد بالفسق: ارتكاب كبيرة من كبائر الذنوب والإصرار على صغيرة من الصغائر لأن الإصرار على فعل الصغائر يصيرها من الكبائر.
والمروءة التي يعبر عنها أهل العلم: هي الآداب النفسية التي تحمل صاحبها على الوقوف عند مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات وما يخل بالمروءة يعود إلى سببين:
الأول: ارتكاب الصغائر من الذنوب التي تدل على الخسة كسرقة شيء حقير كبصلة أو تطفيف في حبة قصداً.
الثاني: فعل بعض الأشياء المباحة التي ينتج عنها ذهاب كرامة الإنسان أو هيبته وتورث الاحتقار، وذلك مثل كثرة المزاح المذموم.
ولم تتحقق العدالة في أحد تحققها في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجميعهم رضي الله عنهم عدول تحققت فيهم صفة العدالة ومن صدر منه ما يدل على خلاف ذلك كالوقوع في معصية فسرعان ما يحصل منه التوجه إلى الله تعالى بالتوبة النصوح الماحية التي تحقق رجوعه وتغسل حوبته فرضي الله عنهم أجمعين.
مطلب الثالث: سلامة ألسنتهم وقلوبهم للصحابة
تمهيد
فمن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سلامة القلب من البغض والغل والحقد والكراهة، وسلامة ألسنتهم من كل قول لا يليق بهم.
فقلوبهم سالمة من ذلك، مملوءة بالحب والتقدير والتعظيم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بهم.
فهم يحبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويفضلونهم على جميع الخلق، لأن محبتهم من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من محبة الله، وألسنتهم أيضاً سالمة من السب والشتم واللعن والتفسيق والتكفير وما أشبه ذلك مما يأتي به أهل البدع، فإذا سلمت من هذا، ملئت من الثناء عليهم والترضي عنهم والترحم والاستغفار وغير ذلك.
فرع: تحريم سب الصحابة
أولا: الأدلة على تحريم سبهم من القرآن
أولا: الأدلة على تحريم سبهم من القرآن
إن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محرم بنص الكتاب العزيز وهو ما تعتقده وتدين به الفرقة الناجية من هذه الأمة، وقد جاءت الإشارة إلى تحريم سبهم في غير ما آية من كتاب الله – جل وعلا – من ذلك:
(1) قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [التوبة: 100] الآية.
ووجه دلالة الآية على تحريم سبهم أن الله تعالى رضي عنهم رضى مطلقاً، فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان، والرضى من الله صفة قديمة فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات الرضى، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً، وقد بين تعالى في آخر هذه الآية أن هؤلاء الذين رضي الله عنهم هم من أهل الثواب في الآخرة يموتون على الإيمان الذي به يستحقون ذلك حيث قال: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] ولذا لما كان هؤلاء الأخيار بهذه المنزلة العظيمة والمكانة الرفيعة أمر الله من جاء بعدهم أن يستغفروا لهم ويدعوا الله ألا يجعل في قلوبهم غلاً لهم، ومن هنا علم أن الاستغفار وطهارة القلب من الغل لهم أمر يحبه الله ويرضاه، ويثني على فاعله كما أنه قد أمر بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19].
وقال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، ومحبة الشيء كراهية لضده، فيكون الله يكره السب لهم، الذي هو ضد الاستغفار، والبغض لهم الذي هو ضد الطهارة، وهذا معنى قول عائشة رضي الله عنها: (أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم) .
(2) قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب: 57].
هذه الآية تضمنت التهديد والوعيد بالطرد والإبعاد من رحمة الله والعذاب المهين لمن آذاه – جل وعلا – بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره وإصراره على ذلك وإيذاء رسوله (يشمل كل أذيّة قولية أو فعلية من سب وشتم أو تنقص له أو لدينه، أو ما يعود إليه بالأذى) . ومما يؤذيه صلى الله عليه وسلم سب أصحابه وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن إيذاءهم إيذاء له، ومن آذاه فقد آذى الله وأي أذية للصحابة أبلغ من سبهم فالآية فيها إشارة قوية ظاهرة إلى أنه يحرم سبهم رضي الله عنهم.
(3) قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58].
وهذه الآية فيها التحذير من إيذاء المؤمنين والمؤمنات بما ينسب إليهم مما هم منه براء لم يعملوه، ولم يفعلوه، والبهتان الكبير أن يحكي أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل العيب والتنقص لهم .
ووجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم أنهم في صدارة المؤمنين فإنهم المواجهون بالخطاب في كل آية مفتتحة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} [البقرة: 104]، ومثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الكهف: 107] في جميع القرآن فالآية دلت على تحريم سب الصحابة لأن لفظ المؤمنين أول ما ينطلق عليهم لأن الصدارة في المؤمنين لهم رضي الله عنهم وسبهم والنيل منهم من أعظم الأذى، وأن من نال منهم بذلك فقد آذى خيار المؤمنين بما لم يكتسبوا وأن من اتخذ شتمهم والنيل منهم ديناً له فإن الوعيد المذكور في الآية يصيبه.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية: (ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله، ثم الرافضة الذين ينتقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم، فإن الله – عز وجل – قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم ويتنقصونهم ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبداً فهم في الحقيقة منكسوا القلوب يذمون الممدوحين ويمدحون المذمومين) اهـ.
وكما هو معلوم (أن سب آحاد المؤمنين موجب للتعزير بحسب حالته وعلو مرتبته، فتعزير من سب الصحابة أبلغ وتعزير من سب العلماء وأهل الدين أعظم من غيرهم) .
(4) قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ في التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ في الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] الآية.
ووجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم أنه لا يسبهم شخص إلا لما وجد في قلبه من الغيظ عليهم، وقد بين تعالى في هذه الآية إنما يغاظ بهم الكفار، فدلت على تحريم سبهم، والتعرض لهم بما وقع بينهم على وجه العيب لهم.
قال أبو عبد الله القرطبي: (روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} حتى بلغ {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}، فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية) – ثم قال -: (لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين، ثم ذكر طائفة من الآيات القرآنية التي تضمنت الثناء عليهم والشهادة لهم بالصدق والفلاح، ثم قال عقبها: "وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم) اهـ.
فهذه الآية اشتملت على تحريم سب الصحابة، لأن سبهم إنما يصدر ممن امتلأ قلبه غيظاً عليهم، لا محل فيه للإيمان نعوذ بالله من الخذلان.
(5) قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12].
وهذه الآية الكريمة تضمنت النهي لجميع العباد عن أن يقول بعضهم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه، ذلك أن يقال له في وجهه والغيبة قد فسرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ((قيل يا رسول الله ما الغيبة؟ قال صلى الله عليه وسلم: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)) .
وبتفسير الشارع للغيبة في هذا الحديث يتبين وجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة وذلك أن سبهم وازدراءهم والتنقص من مكانتهم الرفيعة التي أنزلهم الله فيها إنما هو من البهت لهم بما ليس فيهم، فكل من عابهم وطعن فيهم أو في أحد منهم كل ذلك من البهتان المبين ومن الوقوع في أعراضهم الذي يعد من أربى الربا عند الله – جل وعلا -، فقد روى ابن أبي حاتم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أي الربا أربى عند الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم، ثم قرأ {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58])) .
فإذا كان الكلام في عرض أي مسلم كان من أربى الربا عند الله عز وجل فما الشأن بالاستطالة والسب على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم في مقدمة عباد الله المتقين وعباده الصالحين، ولا يشك مسلم في أن النيل منهم بقول الشيء من سب وغيره أنه انتهاك لحرمة أمر الله عز وجل باحترام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
(6) قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1].
ووجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة يتضح بما قاله السلف في تفسير هذه الآية، فقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه بعد أن سئل عن قوله: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ}، قال: (طعان، لمزة، قال: مغتاب) .
وقال مجاهد: (الهمزة الطعان في الناس، واللمزة الذي يأكل لحوم الناس) .
وقال قتادة: ({وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} قال: تهمزه في وجهه وتلمزه من خلفه...) ، فهذه التفاسير لهذه الآية عن هؤلاء الأئمة ن السلف تدل على تحريم اغتياب عموم المؤمنين وهي تنطبق على من أطلقوا ألسنتهم بالوقوع في الصحابة من الرافضة وغيرهم فهم الهمازون لهم بالقول بحيث يزدرونهم وينتقصونهم بالسب والشتم وينسبون إليهم ما لم يقولوه وما لم يفعلوه، ولا شك أن العذاب الذي توعد الله به في هذه الآية سيصيب كل من اتخذ الطعن فيهم ديدنه إن لم يتب ويقلع عن ذلك ويجعل لسانه رطباً بذكرهم بالجميل والترضي عنهم والترحم عليهم والاستغفار لهم كما جاء الأمر به لكل من جاء بعدهم من أهل الإيمان، والحاصل مما تقدم ذكره أن تحريم سب الصحابة جاءت الإشارة إليه في القرآن الكريم وأن الواجب على كل مسلم أن يعتقد أن الله تعالى حرم سبهم وازدراءهم وعيبهم بما جرى بينهم وأن يحذر طريقة الروافض الذين لم يراعوا لهم حرمة ولم يقدروهم حق قدرهم وأن من سلك طريقهم ألقى نفسه في المهالك التي لا نجاة منها إلا بالرجوع إلى طريقة أهل الحق من أهل السنة والجماعة والتوبة مما أسلفه من جناية في حق الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ثانيا: الأدلة من السنة على تحريم سب الصحابة
لقد دلت السنة النبوية المطهرة على تحريم سب الصحابة والتعرض لهم بما فيه نقص وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع في ذلك لأن الله – تعالى – اختارهم لصحبة نبيه ونشر دينه وإعلاء كلمته، وبلغوا الذروة في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا له وزراء وأنصاراً يذبون عنه وسعوا جاهدين منافحين لتمكين الدين في أرض الله حتى بلغ الأقطار المختلفة ووصل إلى الأجيال المتتابعة كاملاً غير منقوص، ولمقامهم الشريف ولما لهم من القيام التام بأنواع العبادات، وصنوف الطاعات والقربات جاءت النصوص النبوية القطعية بتحريم سبهم وتجريحهم أو الطعن فيهم والحط من قدرهم ومن تلك النصوص:
(1) ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)) .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد أيضاً بلفظ: ((كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أحداً من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)) .
(2) وعند الإمام أحمد من حديث أنس رضي الله عنه قال: ((كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن بن عوف تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد ذهباً أو مثل الجبال ذهباً لما بلغتم أعمالهم)) .
هذان الحديثان اشتملا على النهي والتحذير من سب الصحابة رضي الله عنهم، وفيهما التصريح بتحريم سبهم، وقد عد بعض أهل العلم سبهم (من المعاصي الكبائر) .
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: (واعلم أن سب الصحابة رضي الله عنهم حرام من فواحش المحرمات، سواء من لابس الفتن منهم وغيره لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون) .
والنهي في هذين الحديثين المتقدمين كان موجهاً من النبي صلى الله عليه وسلم لمن كانت له صحبة متأخرة، أن يسب من كانت له صحبة متقدمة (لامتيازهم عنهم من الصحبة بما لا يمكن أن يشركوهم فيه حتى لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، فإذا كان هذا حال الذين أسلموا بعد الحديبية، وإن كان قبل فتح مكة، فكيف حال من ليس من الصحابة بحال مع الصحابة رضي الله عنهم) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فإن قيل: فلم نهى خالداً عن أن يسب أصحابه إذ كان من أصحابه أيضاً؟ وقال: ((لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) .
قلنا: لأن عبد الرحمن بن عوف ونظراءه هم من السابقين الأولين الذين صحبوه في وقت كان خالد وأمثاله يعادونه فيه، وأنفقوا أموالهم قبل الفتح وقاتلوا وهم أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا، وكلا وعد الله الحسنى، فقد انفردوا من الصحبة بما لم يشركهم فيه خالد ونظراؤه ممن أسلم بعد الفتح الذي هو صلح الحديبية وقاتل، فنهى أن يسب أولئك الذين صحبوه قبله، ومن لم يصحبه قط نسبته إلى من صحبه كنسبة خالد إلى السابقين وأبعد.
وقوله: ((لا تسبوا أصحابي)) خطاب لكل أحد أن لا يسب من انفرد عنه بصحبته عليه الصلاة والسلام، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: ((أيها الناس إني أتيتكم، فقلت: إني رسول الله إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت. فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟)) .. أو كما قال بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، قال ذلك لما عاير بعض الصحابة أبا بكر، وذلك الرجل من فضلاء أصحابه ولكن امتاز أبو بكر عنه بصحبته وانفرد بها عنه) اهـ.
فالنهي عن سبهم عام لكل من وجد على ظهر الأرض أيا كان عن أن يسب أي واحد من الصحابة.
قال المناوي بعد قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((دعوا لي أصحابي)): (الإضافة للتشريف تؤذن باحترامهم وزجر سابهم... ((أنفقتم مثل أحد ذهباً ما بلغتم أعمالهم)) أي: ما بلغتم من إنفاقكم بعض أعمالهم لما قارنها من مزيد إخلاص وصدق نية وكمال يقين، وقوله: ((أصحابي)) مفرد مضاف فيعم كل صاحب له لكنه عموم مراد به الخصوص... يدل على أن الخطاب لخالد وأمثاله ممن تأخر إسلامه وأن المراد هنا متقدموا الإسلام منهم الذي كانت له الآثار الجميلة والمناقب الجليلة في نصرة الدين من الإنفاق في سبيل الله واحتمال الأذى في سبيل الله ومجاهدة أعدائه، ويصح أن يكون من بعد الصحابة مخاطباً بذلك حكماً إما بالقياس أو بالتبعية) .
(4) روى الحافظ الطبراني بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي، لعن الله من سب أصحابي)) .
(5) وروى أيضاً بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) .
(6) وروى أيضاً: بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله من سب أصحابي)) .
هذه الأحاديث الثلاثة مشتملة على لعن من سب الصحابة ودلت على أن سبهم من الكبائر، وقد جمع الإمام الذهبي الذنوب التي هي كبائر وعد سب الصحابة منها ، فعلى المسلم أن يحذر من بهم أو يتعرض لهم بما يشينهم رضي الله عنهم (وسبهم معناه: شتمهم ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم ((فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) الطرد والإبعاد عن مواطن الأبرار، ومنازل الأخيار، والسب والدعاء من الخلق وتحريم سبهم يشمل من لابس الفتن ومن لم يلابسها، لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون فسبهم كبيرة ونسبتهم إلى الضلال أو الكفر كفر) .
(7) روى الإمام أحمد وغيره من حديث سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن من أربى الربا الاستطالة على عرض المسلم بغير حق)) .
فكل من أطلق لسانه بالسب لهم فهو مستطيل عليهم بغير حق وهو أفاك أثيم إذ لفظ المسلم في الحديث أول ما ينطلق عليهم إذ هم مقدمة المسلمين الذين انقادوا لله تعالى بالطاعة وأخلصوا العبادة له وحده لا شريك له (وأدنى أحوال الساب لهم أن يكون مغتاباً) .
(8) روى الشيخان من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) .
فإذا كان هذا الوعيد يلحق من سب أي مسلم كان فما الشأن بمن يسب خيار المسلمين والأبرار من عباده المتقين وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
قال النووي رحمه الله تعالى: (السب في اللغة الشتم والتكلم في عرض الإنسان بما يعيبه والفسق في اللغة الخروج والمراد به في الشرع الخروج عن الطاعة، وأما معنى الحديث فسب المسلم بغير حق حرام بإجماع الأمة وفاعله فاسق كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا فالرافضة والخوارج ومن سلك طريقهم من أهل البدع الذين يشتمون الصحابة ويتكلمون فيهم بما يعيبهم بغير حق فهم أكثر من يدخل في وصف الفسق كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المناوي مبيناً معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((سباب المسلم فسوق)) (أي: مسقط للعدالة والمرتبة، وفيه تعظيم حق المسلم والحكم على من سبه بالفسق وأن الإيمان ينقص ويزيد لأن الساب إذا فسق نقص إيمانه وخرج عن الطاعة فضره ذنبه لا كما زعم المرجئة، أنه لا يضر مع التوحيد ذنب) .
فكل من سب الصحابة رضي الله عنهم أو واحداً منهم أسقط نفسه من العدالة وفسق بذلك وأدى إلى نقصان إيمانه بخروجه عن الطاعة.
(9) روى أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ساب الموتى كالمشرف على الهلكة)) .
(أراد: الموتى المؤمنين وإيذاء المؤمن الميت أغلظ من الحي لأن الحي ممكن استحلاله، والميت لا يمكن استحلاله، فلذا توعد عليه بالوقوع في الهلاك) .
(10) وروى أبو القاسم الطبراني أيضاً: عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ساب المؤمن كالمشرف على الهلكة)) .
ومعنى الحديث: (أي: يكاد أن يقع في الهلاك الأخروي، وأراد في ذلك المؤمن المعصوم والقصد به التحذير من السب) .
وهذا الحديث والذي قبله تضمنا العقوبة الشديدة التي تلحق ساب أي ميت من المسلمين وأي مؤمن كان فما الشأن بمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم خيار موتى المؤمنين وأفضل المؤمنين بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكل من سبهم يعد من أهلك الهالكين وأخسر الخاسرين بنص هذين الحديثين، فلا يجوز سب أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي وجه، وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن أي كلام يصدر من بعض الصحابة لآخرين منهم يتضمن الأذى وكان يحذر من ذلك أشد التحذير.
(11) فقد روى أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: ((شكا عبد الرحمن بن عوف خالداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا خالد لا تؤذ رجلاً من أهل بدر فلو أنفقت مثل أحد ذهباً لم تدرك عمله، قال: يقعون في فأرد عليهم، فقال: لا تؤذوا خالداً فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار)) .
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل أي كلام يتضمن الأذى من بعض الصحابة لآخرين منهم، فما الشأن بحال من ليس من الصحابة ويطلق لسانه عليهم بالسب القبيح الذي يستحي المؤمن من حكايته عنهم، لا شك أن من كان هذا شأنه فإنه أنزل نفسه أقبح المنازل وتجرأ على خيار المؤمنين، وعصى سيد المرسلين في أمره بوجوب الإمساك عن الكلام في شأنهم إذا ذكروا.
(12) فقد روى الحافظ الطبراني من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا)) .
فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ذكر أصحابي)) بما شجر بينهم من الحروب والمنازعات (فأمسكوا) وجوباً عن الطعن فيهم والخوض في ذكرهم بما لا يليق فإنهم خير الأمة وخير القرون، ولما جرى بينهم محامل ، فالذي يشغل نفسه بما حصل بينهم من الوقائع ويتخذ ذلك ذريعة لسبهم والطعن فيهم فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم في أمره بالإمساك عن الكلام فيهم إذا ذكر ما شجر بينهم وعصاه أيضاً في أمره بالإحسان إليهم وأمره بحفظه فيهم.
(13) فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى جابر بن سمرة، قال: ((خطب عمر الناس بالجابية، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال: أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) .
فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بالإحسان إلى جميع الصحابة والإحسان يكون بالقول كما يكون بالفعل، فيجب على جميع الناس بعدهم أن يحسنوا إليهم بكف ألسنتهم (عن غمطهم أو الوقيعة فيهم بلوم أو تعنيف لبذلهم نفوسهم وإطراحها بين يدي الله تعالى في الحروب وقتالهم القريب والبعيد في ذات الله، وبذلهم أموالهم وخروجهم من ديارهم وصبرهم على البلاء والجهد الذي لا يطيقه غيرهم، وليس ذلك إلا عن أمر عظيم ملك البواطن وصرفها على حكم محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم فاستوجبوا بذلك الرعاية وكمال العناية) . فالذي يسبهم ويطعن فيهم لم يحسن إليهم ولم يمتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، وإنما أتى بعكس ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أنه فعل ضد ما أمر به وهو الإساءة إليهم بالقول السيئ نعوذ بالله من ذلك.
والأحاديث التي اشتملت على تحريم سب الصحابة والنهي عنه كثيرة فالواجب على كل مسلم أن يحذر من الوقوع في ذلك ويعتقد حرمة ذلك وأنه من أعظم الذنوب التي لا يقع فيها إلا رافضي غال جعل للشيطان على نفسه سبيلاً يتبعه في كل شيء يأمره به مما فيه معصية لله – عز وجل -.
والحاصل مما تقدم أن السنة دلت على أن سب الصحابة من أكبر الكبائر، وأفجر الفجور، وأن من ابتلي بذلك فهو من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وقد وفق الله الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة لاحترامهم ومعرفة حقهم وذكرهم بالجميل اللائق بهم، وحفظوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حيث اعتقدوا ما دل عليه الكتاب والسنة من حرمة سبهم فهم العاملون بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم فيما يجب لهم من الحق على الخلق بعدهم حفظ الله أحياءهم ورحم موتاهم...
ثالثا: الأدلة من كلام السلف على تحريم سب الصحابة
إن النصوص الواردة عن سلف الأمة وأئمتها من الصحابة ومن جاء بعدهم من التابعين لهم بإحسان التي تقضي بتحريم سب الصحابة والدفاع عنهم كثيرة جداً ومتنوعة في ذم وعقوبة من أطلق لسانه على أولئك البررة الأخيار وأقوال السلف التي كانوا يواجهون بها الذين ابتلوا بالنيل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت في غاية الإنكار على من وقع في ذلك وبيان الخسارة الكبيرة التي يكسبها من أراد الله فتنته بالوقوع والنيل من خير القرون.
(1) فقد روى ابن أبي حاتم بإسناده إلى يوسف بن سعد عن محمد بن حاطب قال: (ونزل في داري حيث ظهر علي رضي الله عنه على أهل البصرة، فقال لي يوماً: لقد شهدت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه وعنده عمار وصعصعة والأشتر ومحمد بن أبي بكر رضي الله عنهم، فذكروا عثمان رضي الله عنه فنالوا منه، فكان علي رضي الله عنه على السرير ومعه عود في يده، فقال قائل منهم: إن عندكم من يفصل بينكم فسألوه، فقال علي رضي الله عنه كان عثمان رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى فيهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16]، قال: والله عثمان وأصحاب عثمان رضي الله عنهم قالها ثلاثاً: قال يوسف: فقلت لمحمد بن حاطب الله لسمعت هذا من علي رضي الله عنه، قال: آلله لسمعت هذا من علي رضي الله عنه) .
(2) وكان رضي الله عنه يعاقب بالجلد الموجع على الكلام الذي فيه إيماء أو إشارة إلى النيل من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقد ذكر ابن الأثير (أن رجلين وقفا على باب الدار الذي نزلت فيه أم المؤمنين بالبصرة، فقال أحدهما: جزيت عنا أمنا عقوقاً.
وقال الآخر: يا أمي توبي فقد أخطأت – فبلغ ذلك علياً – فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب فأقبل بمن كان عليه، فأحالوا على رجلين من أزد الكوفة وهما: عجلان، وسعد ابنا عبد الله فضربهما مائة سوط وأخرجهما من ثيابهما) .
(3) روى أبو داود بإسناده إلى رباح بن الحارث قال: ((كنت قاعداً عند فلان في مسجد الكوفة، وعنده أهل الكوفة، فجاء سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فرحب به وحياه وأقعده عند رجله على السرير، فجاء رجل من أهل الكوفة يقال له قيس بن علقمة، فاستقبله فسب وسب، فقال سعيد: من يسب هذا الرجل؟ قال: يسب علياً، فقال: ألا أرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبون عندك ثم لا تنكر ولا تغير؟ أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول – وإني لغني أن أقول عنه ما لم يقل فيسألني عنه غداً إذا لقيته –: أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة، وسكت عن العاشر، قالوا: من هو العاشر؟ فقال: سعيد بن زيد –يعني نفسه-، ثم قال: والله لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم ولو عمر عمر نوح)) .
زاد رزين: ثم قال: ((لا جرم لما انقطعت أعمارهم، أراد الله أن لا يقطع الأجر عنهم إلى يوم القيامة، والشقي من أبغضهم، والسعيد من أحبهم)) .
(4) وذكر ابن الأثير عن رزين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (قيل لعائشة: إن ناساً يتناولون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر، فقالت: وما تعجبون من هذا؟ انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر) .
(5) روى ابن بطة بإسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنه قال: ((لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلمقام أحدهم ساعة – يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم – خير من عمل أحدكم أربعين سنة)) .
وفي رواية وكيع: ((خير من عبادة أحدكم عمره)) .
(6) وروى أبو نعيم بإسناده (أن مزيد بن هزاري أنه لقي سعيد بن جبير بأصبهان، فقال له: إن رأيت أن تفيدني مما عندك؟ فحبس دابته وقال: قال لي ابن عباس: احفظ عني ثلاثاً: إياك والنظر في النجوم فإنه يدعو إلى الكهانة، وإياك والنظر في القدر، فإنه يدعو إلى الزندقة، وإياك وشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكبك الله في النار على وجهك يوم القيامة) .
(7) وروى محمد بن عبد الواحد المقدسي إلى عريب بن حميد قال: (قام رجل فنال من عائشة رضي الله عنها، فقام عمار رضي الله عنه يتخطى الناس فقال: اجلس مقبوحاً منبوحاً أنت تقع في حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله إنها لزوجته في الدنيا والآخرة) .
(8) وروى أبو يعلى والطبراني عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت لأبي عبد الله الجدلي: (يا أبا عبد الله أيسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم، قلت: أنى يسب رسول صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أليس يسب علي ومن يحبه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه) .
(9) وروى محمد بن عبد الواحد المقدسي رحمه الله بإسناده إلى سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي، قال: (قلت لأبي: ما تقول في رجل سب أبا بكر؟ قال: يقتل، قلت: سب عمر؟ قال: يقتل) .
هذه تسعة نماذج عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها توضيح للطريقة التي كانوا يواجهون بها من أزاغ الله قلبه عن معرفة ما يجب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتن بسبهم والنيل منهم، فقد كان إنكارهم عظيماً على من صدر منه ذلك، فلم يسكتوا عن المتقولين فيهم بل كانوا يردون عليهم إما بذكر فضائلهم وما لهم عند الله من المنزلة العظيمة التي لا يلحقهم فيها غيرهم مهما قدم من العمل، وإما أن يعاقبوا بجلدهم بالسياط، وقد حصل الأمران في موقف علي رضي الله عنه ممن قلل من عثمان وعائشة رضي الله عنهما، وبعض الصحابة كان يعتبر سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سباً للرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم ذلك عن أم سلمة، وبعضهم كان يفتي بقتل من سب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وكل ذلك يدل على عظم الجرم الذي يقع فيه من امتلأ قلبه ببغضهم وخبث لسانه بالقول القبيح فيهم الذي لا يليق إلا بمن صدر منه وقد سلك التابعون بإحسان من أهل السنة والجماعة في مواجهة السابين لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقة الغلظة والشدة عليهم ولم يسكتوا عن أي تعريض بهم، بل اعتبروا الطعن في الصحابة والسب لهم مروقاً من الدين أعاذنا الله من ذلك.
(10) فقد روى أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي بإسناده إلى محمد بن علي بن الحسين بن علي أنه قال لجابر الجعفي: (يا جابر بلغني أن قوماً بالعراق يزعمون أنهم يحبونا ويتناولون أبا بكر وعمر، ويزعمون أني آمرهم بذلك، فأبلغهم عني أني إلى الله منهم بريء والذي نفس محمد بيده لو وليت لتقربت إلى الله بدمائهم لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم إن لم أكن أستغفر لهما وأترحم عليهما إن أعداء الله لغافلون عن فضلهما، فأبلغهم أني بريء منهم وممن تبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما) .
(11) وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن الحسن بن علي أنه قال: (ما أرى رجلاً يسب أبا بكر وعمر تيسر له توبة أبداً) .
(12) وقال عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي: (من شتم أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقد ارتد عن دينه وأباح دمه) .
(13) وقال مالك بن أنس رحمه الله تعالى: (الذي يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له سهم أو قال نصيب في الإسلام) .
(14) روى محمد بن عبد الواحد المقدسي بإسناده إلى الحسن بن الربيع قال: (سمعت أبا الأحوص يقول: لو أن الروم أقبلت من موضعها يعني تقتل ما بين يديها وتقبل حتى تبلغ النخيلة ثم خرج رجل بسيفه فاستنقذ ما في أيديها وردها إلى موضعها ولقي الله وفي قلبه شيء على بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما رأينا أن ذلك ينفعه) .
(15) وروى أيضاً: بإسناده إلى عبد الله بن مصعب قال: (قال لي أمير المؤمنين – المهدي – ما تقول في الذين يشتمون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: زنادقة يا أمير المؤمنين، قال: ما علمت أحداً قال هذا غيرك فكيف ذلك؟ قلت: إنما قوم أرادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجدوا أحداً من الأمة يتابعهم على ذلك فيه فشتموا أصحابه رضي الله عنهم يا أمير المؤمنين ما أقبح بالرجل أن يصحب صحابة السوء فكأنهم قالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم صحب صحابة السوء، فقال لي: ما أرى إلا كما قلت) .
(16) روى أبو عبيد الله بن بطة إلى أبي بكر بن عياش أنه قال: (لا أصلي على رافضي ولا حروري لأن الرافضي يجعل عمر كافراً، والحروري يجعل علياً كافراً) .
(17) روى محمد بن عبد الواحد المقدسي بإسناده إلى يعقوب بن حميد قال: (سمعت سفيان بن عيينة يقول: حج هارون الرشيد أمير المؤمنين فدعاني فقال: يا سفيان إن أبا معاوية الضرير حدثني عن أبي جناب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: سيكون بعدي قوم لهم نبز يسمون الرافضة وآية ذلك أنهم يسبون أبا بكر وعمر، فإذا وجدتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون، فقلت: يا أمير المؤمنين اقتلهم بكتاب الله، فقال: يا سفيان وأين موضع ذلك من كتاب الله؟ فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} إلى قوله {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]، يا أمير المؤمنين، فمن غاظه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر) .
(18) وقال أيضاً: (من نطق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة فهو صاحب هوى) .
(19) ذكر القرطبي عن عمر بن حبيب قال: (حضرت مجلس هارون الرشيد فجرت مسألة تنازعها الحضور وعلت أصواتهم فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع بعضهم الحديث وزادت المرافعة والخصام، حتى قال قائلون منهم: لا يقبل هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم، ونصر قولهم، فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره فنظر إليّ الرشيد نظر مغضب وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل: صاحب البريد بالباب، فدخل فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول وتحنط وتكفن، فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه فسلمني منه، فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي.. حاسر عن ذراعيه بيده السيف، وبين يديه النطع، فلما بصر بي قال لي: يا عمر بن حبيب ما تلقاني أحد من الرد والدفع لي بمثل ما تلقيتني به، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء به إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول، فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله) .
(20) روى أبو عبيد الله بن بطة بإسناده إلى هارون بن زياد، قال: (سمعت الفريابي ورجل يسأله عمن شتم أبا بكر، فقال: كافر، قال: فنصلي؟ قال: لا، فسألته: كيف نصنع به وهو يقول: لا إله إلا الله، قال: لا تمسوه بأيديكم، ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته) .
(21) وقال بشر بن الحارث: (من شتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر وإن صام وصلى وزعم أنه من المسلمين) .
(22) وقال أبو بكر المروزي: (سألت أبا عبد الله عمن شتم أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة رضي الله عنهم، فقال: ما أراه على الإسلام) .
(23) وقال محمد بن بشار: قلت لعبد الرحمن بن مهدي: أحضر جنازة من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ (لو كان من عصبتي ما ورثته) .
(24) وروى محمد بن عبد الواحد المقدسي بإسناده إلى إسماعيل بن القاسم، قال: (قال لي عبد الله بن سليمان: يا إسماعيل ما تقول فيمن يسب أبا بكر وعمر، قلت: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، قال لي القتال؟ قلت: نعم، قال: وأني لك هذا؟ قلت: بآية من كتاب الله تعالى، فقال: وآية من كتاب الله؟ قلت: نعم، قال: وأي هي من كتاب الله تعالى، قلت له: قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ} [المائدة: 3]، ولا فساد في الأرض أعظم من سب أبي بكر وعمر عليهما السلام، قال لي: أحسنت يا إسماعيل) .
وهذه الآثار عن هؤلاء الأئمة كلها دلت على تحريم سب الصحابة عموماً وفيها بيان الخسارة الواضحة التي تلحق من أقحم نفسه في هذا الجرم الكبير وأن من ابتلي بداء المبغضين لخيار الأمة وحمله ذلك على سبهم وتجريحهم إنما رام الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبطال الشريعة الإسلامية من أساسها لأن الصحابة إذا كانوا كذابين فجميع أحكام دين الإسلام باطلة، إذ الدين لم يصل إلينا إلا عن طريقهم فهم الذين تلقوه من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم لم يأخذه إلا عنهم، ومن طعن فيهم، أو جرحهم ماذا يبقى له من الدين وكما دلت تلك الآثار عن أولئك الأسلاف على تحريم سب الصحابة دلت كذلك على أن من تكلم فيهم بكلام لا ينبغي فإنه لا يضرهم وإنما يضر نفسه، فهم رضي الله عنهم قدموا على ما قدموا، وقد قدموا الخير الكثير من الأعمال الجليلة والمآثر الحميدة في نصرة دين الإسلام والكلام فيهم بغير حق إن كانت له حسنات فإنهم يأخذون من حسناته ويضاف ذلك إلى حسناتهم ويزدادون بذلك رفعة عند الله تعالى، وإن لم يكن للمتكلم فيهم حسنات فلا تأثير لكلامه فيهم ولا مضرة عليهم، إذ الذي مدحه الله وأثنى عليه لا يضيره ذم الخلق وتنقصهم.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
المطلب الرابع: أهل السنة يمسكون عما شجر بين الصحابة
تمهيد
أجمع أهل السنة والجماعة الذين هم أهل الحل والعقد الذين يعتدّ بإجماعهم على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم بعد قتل عثمان رضي الله عنه والاسترجاع على تلك المصائب التي أصيبت بها هذه الأمة والاستغفار للقتلى من الطّرفين والترحم عليهم وحفظ فضائل الصحابة والاعتراف لهم بسوابقهم ونشر مناقبهم، عملاً بقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10] الآية، واعتقاد أنّ الكلّ منهم مجتهدٌ إن أصاب فله أجران، أجرٌ على اجتهاده وأجرٌ على إصابته، وإن أخطأ فله أجر الاجتهاد والخطأ مغفور، ولا تقول إنّهم معصومون بل مجتهدون إمّا مصيبون وإمّا مخطئون لم يتعمّدوا الخطأ في ذلك. وما روي من الأحاديث في مساويهم الكثير منه مكذوب، ومنه ما قد زيد فيه أو نقص منه وغيّر عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون.
فالصحابة رضي الله عنهم وقعت بينهم بعد مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه نزاعات، واشتد الأمر بعد مقتل عثمان، فوقع بينهم ما وقع، مما أدى إلى القتال.
وهذه القضايا مشهورة، وقد وقعت بلا شك عن تأويل واجتهاد كل منهم يظن أنه على حق، ولا يمكن أن نقول: إن عائشة والزبير بن العوام قاتلا علياً رضي الله عنهم أجمعين وهم يعتقدون أنهم على باطل، وأن علياً على حق.
واعتقادهم أنهم على حق لا يستلزم أن يكونوا قد أصابوا الحق.
ولكن إذا كانوا مخطئين، ونحن نعلم أنهم لن يقدموا على هذا الأمر إلا عن اجتهاد، فإنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر)) ، فنقول: هم مخطئون مجتهدون، فلهم أجر واحد.
فهذا الذي حصل موقفنا نحن منه له جهتان: الجهة الأولى: الحكم على الفاعل. والجهة الثانية: موقفنا من الفاعل.
- أما الحكم على الفاعل، فقد سبق، وأن ما ندين الله به أن ما جرى بينهم، فهو صادر عن اجتهاد، والاجتهاد إذا وقع فيه الخطأ، فصاحبه معذور مغفور له.
وأما موقفنا من الفاعل، فالواجب علينا الإمساك عما شجر بينهم لماذا نتخذ من فعل هؤلاء مجالاً للسب والشتم والوقيعة فيهم والبغضاء بيننا، ونحن في فعلنا هذا إما آثمون وإما سالمون ولسنا غانمين أبدا.
فالواجب علينا تجاه هذه الأمور أن نسكت عما جرى بين الصحابة وأن لا نطالع الأخبار أو التاريخ في هذه الأمور، إلا المراجعة للضرورة.
ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم؛ منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص عن وجهه الصريح، والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون.
قسم المؤلف الآثار المروية في مساويهم ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما هو كذب محض لم يقع منهم، وهذا يوجد كثيراً فيما يرويه النواصب في آل البيت وما يرويه الروافض في غير آل البيت.
القسم الثاني: شيء له أصل، لكن زيد فيه ونقص وغير عن وجهه.
وهذان القسمان كلاهما يجب رده.
القسم الثالث: ما هو صحيح، فماذا نقول فيه؟ بينه المؤلف بقوله: والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون.
والمجتهد إن أصاب، فله أجران، وإن أخطأ، فله أجر واحد، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم، فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر)) .
فما جرى بين معاوية وعلى رضي الله عنهما صادر عن اجتهاد وتأويل.
لكن لا شك أن عليا أقرب إلى الصواب فيه من معاوية، بل قد نكاد نجزم بصوابه، إلا أنّ معاوية كان مجتهداً.
ويدل على أن عليا أقرب إلى الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ويح عماراً تقتله الفئة الباغية)) ، فكان الذي قتله أصحاب معاوية، وبهذا عرفنا أنها فئة باغية خارجة على الإمام، لكنهم متأوّلون، والصواب مع علي إما قطعاً وإما ظناً.
وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره.
وهناك قسم رابع: وهو ما وقع منهم من سيئات حصلت لا عن اجتهاد ولا عن تأويل: فبينه المؤلف بقوله:
وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره.
لا يعتقدون ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) .
ولكن العصمة في إجماعهم؛ فلا يمكن أن يجمعوا على شيء من كبائر الذنوب وصغائرها فيستحلوها أو يفعلوها.
ولكن الواحد منهم قد يفعل شيئاً من الكبائر، كما حصل من مسطح بن أثاثه وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش في قصة الإفك، ولكن هذا الذي حصل تطهروا منه بإقامة الحد عليهم.
بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر عنهم إن صدر
يعني: كغيرهم من البشر، لكن يمتازون عن غيرهم بما قال المؤلف رحمه الله: ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر.
هذا من الأسباب التي يمحو الله بها عنهم ما فعلوه من الصغائر أو الكبائر، وهو ما لهم من السوابق والفضائل التي لم يلحقهم فيها أحد، فهم نصروا النبي عليه الصلاة والسلام، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وبذلوا رقابهم لإعلاء كلمة الله، فهذه توجب مغفرة ما صدر منهم، ولو كان من أعظم الذنوب، إذا لم يصل إلى الكفر.
ومن ذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة: ((حين أرسل إلى قريش يخبرهم عن مسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، حتى أطلع الله نبيه على ذلك، فلم يصلهم الخبر، فاستأذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب عنق حاطب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه شهد بدراً، وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم)) .
حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم خير القرون وإنّ المدّ من أحدهم إذا تصدّق به كان أفضل من جبل أحدٍ ذهباً من بعدهم، ثم إن كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتي بحسنات تمحوه. أو غفر له بفضل سابقته.
وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني)) ، وفي قوله: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) .
يعني: وإذا تاب منه، ارتفع عنه وباله ومعرته، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، - إلى قوله: - إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 68-70]، ومن تاب من الذنب كمن لا ذنب له، فلا يؤثر عليه.
لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} [هود:114].
لقوله تعالى: في الحديث القدسي في أهل بدر: ((اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم)) .
أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم أحق الناس بشفاعته أو ابتلي ببلاءٍ في الدنيا كفر به عنه فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا، فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور. ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم.
فإن البلاء في الدنيا يكفر الله به السيئات، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها)) . والأحاديث في هذا مشهورة كثيرة.
فهذه الأسباب التي ذكرها المؤلف ترفع القدح في الصحابة، وهي قسمان:
الأول: خاص بهم، وهو مالهم من السوابق والفضائل.
والثاني: عام، وهي التوبة، والحسنات الماحية، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، والبلاء.
القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل جداً نزر أقل القليل، ولهذا قال: مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم.
ولا شك أنه حصل من بعضهم سرقة وشرب خمر وقذف وزنى بإحصان وزنى بغير إحصان، لكن كل هذه الأشياء تكون مغمورة في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، وبعضها أقيم فيه الحدود، فيكون كفارة.
ومن نظر في سيرة القوم بعلمٍ وبصيرةٍ، وما مَنَّ الله عليهم به من الفضائل، علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء.
فكل هذه مناقب وفضائل معلومة مشهورة، تغمر كل ما جاء من مساوئ القوم المحققة، فكيف بالمساوئ غير المحققة أو التي كانوا فيها مجتهدين متأوّلين.
هذا بالإضافة إلى ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قوله: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
وعلي هذا تثبت خيرتهم على غيرهم من أتباع الأنبياء بالنص والنظر في أحوالهم.
فإذا نظرت بعلم وبصيرة وإنصاف في محاسن القوم وما أعطاهم الله من الفضائل، علمت يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، فهم خير من الحواريين أصحاب عيسي، خير من النقباء أصحاب موسى، وخير من الذين آمنوا من نوح ومع هود وغيرهم، لا يوجد أحد في أتباع الأنبياء أفضل من الصحابة رضي الله عنهم، والأمر في هذا ظاهر معلوم، لقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وخيرنا الصحابة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم خير الخلق، فأصحابه خير الأصحاب بلا شك.
هذا عند أهل السنة والجماعة، أما عند الرافضة، فهم شر الخلق، إلا من استثنوا منهم.
لا كان ولا يكون مثلهم وأنهم هم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله تعالى.
وأما كون الصحابة صفوة قرون الأمة، فلقوله صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني)) . وفي لفظ: ((خير أمتي قرني)) ، والمراد بقرنه: الصحابة، وبالذين يلونهم: التابعون، وبالذين يلونهم: تابعوا التابعين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والاعتبار بالقرون الثلاثة بجمهور أهل القرن، وهم وسطه، وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة، حتى إنه لم يكن بقي من أهل بدر إلا نفر قليل، وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك وجمهور تابعي التابعين في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية. اهـ.
وكان آخر الصحابة موتاً أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي سنة مائة من الهجرة، وقيل: مائة وعشر.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): واتفقوا على أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين.
الفرع الأول: متى بدأ التشاجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن قتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه ظلماً وعدواناً من قبل الخارجين عليه من أهل مصر، وأهل الكوفة، وأهل البصرة سنة خمس وثلاثين للهجرة كان مصدر بدء التشاجر بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم والقارئ لكتب التواريخ والسير يخرج منها بأن بداية التشاجر بين خير القرون كان بعد قتل ثالث الخلفاء الراشدين وبداية خلافة أبي الحسن رضي الله عنهما
الفرع الثاني دوافع التشاجر بين الصحابة
إن أعظم دافع لهم إلى ذلك ليس إلا مطالبة الخليفة الرابع بوجوب الإسراع بأخذ القود من أولئك الأشرار قتلة عثمان رضي الله عنه وأرضاه ذلك أن طائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير ومعاوية رضي الله عنهم أجمعين كانوا يرون أنه لابد من المطالبة بدم عثمان ووجوب الإسراع بإقامة حد الله عليهم كما أمر الله .
بينما كان يرى علي رضي الله عنه إرجاء الأمر حتى يبايعه أهل الشام ويستتب له الأمر ليتسنى له بعد ذلك التمكن من القبض عليهم لأنهم كانوا كثيرين في جيش علي ومن قبائل مختلفة وكانوا لهم بعض التمكن حينذاك.
قال الحافظ ابن كثير: (ولما استقر أمر بيعة علي دخل عليه طلحة والزبير ورؤوس الصحابة – رضي الله عنهم – وطلبوا منه إقامة الحدود والأخذ بدم عثمان فاعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان، وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا) اهـ.
ومما يؤكد أن سبب البداية للتشاجر بين الصحابة هو قتل عثمان رضي الله عنه (أن علياً رضي الله عنه بعد أن بويع له بالخلافة شرع في إرسال عماله إلى الأمصار فكان من أرسله إلى الشام بدل معاوية سهل بن حنيف فسار حتى بلغ تبوك فتلقته خيل معاوية فقالوا: من أنت؟ فقال: أمير قالوا: على أي شي؟ قال: على الشام فقالوا: إن كان عثمان بعثك فحيهلا بك وإن كان غيره فارجع فقال: أو ما سمعتم بالذي كان؟ قالوا بلى فرجع إلى علي، وأما قيس بن سعد بن عبادة – فاختلف عليه أهل مصر فبايع له الجمهور، وقالت طائفة: لا نبايع حتى نقتل قتلة عثمان، وكذلك أهل البصرة، وأما عمارة بن شهاب المبعوث أميراً على الكوفة فصده طليحة بن خويلد – الأسدي – غضباً لعثمان فرجع إلى علي فأخبره) (وقام في الناس معاوية وجماعة من الصحابة معه، يحرضون الناس على المطالبة بدم عثمان، ممن قتله من أولئك الخوارج منهم عبادة بن الصامت وأبو الدرداء وأبو أمامة، وعمرو بن عنبسة وغيرهم من الصحابة والتابعين: شريك بن حباشة وأبو مسلم الخولاني، وعبد الرحمن بن غنم... وغيرهم من التابعين) . (ولما كان رأي كل واحد من الفريقين مضاداً لرأي الآخر من هنا اختلفت الكلمة وتفاقم الأمر، وانتشرت الفتنة فما كان من علي رضي الله عنه وهو الخليفة الحق الذي تجب طاعته إلا أن قام بإرسال الكتب المتتابعة إلى معاوية رضي الله عنه يدعوه فيها إلى البيعة غير أن معاوية رضي الله عنه لم يرد شيئا فكرر عليه علي رضي الله عنه ذلك مراراً إلى أن دخل الشهر الثالث من مقتل ذي النورين رضي الله عنه، ثم بعث بعد ذلك طوماراً من رجل فدخل به على علي فقال: ما وراءك؟ قال جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القود كلهم موتور... فقال علي: أمني يطلبون دم عثمان؟ ألست موتوراً كترة عثمان؟ اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان) .
وقد وجه علي رضي الله عنه جماعة إلى معاوية رضي الله عنه وهو بصفين منهم بشير بن عمرو الأنصاري وقال لهم: (ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الطاعة والجماعة واسمعوا ما يقول لكم فلما دخلوا على معاوية "قال له بشير بن عمرو: يا معاوية إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، والله محاسبك بعملك ومجازيك بما قدمت يداك إني أنشدك الله أن لا تفرق جماعة هذه الأمة وأن تسفك دماءها بينها – إلى أن قال له: - وإنه – أي علي – يدعوك إلى مبايعته فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في آخرتك فقال معاوية: ويبطل دم عثمان؟ لا والله لا أفعل ذلك أبداً) .
(وقد دخل أبو الدرداء، وأبو أمامة رضي الله عنهما أيام صفين على معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنهما فقالا له: يا معاوية علام تقاتل هذا الرجل؟ فوالله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاماً وأقرب منك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحق بهذا الأمر منك – فكان جوابه عليهم – أقاتله على دم عثمان وأنه آوى قتلته فاذهبا إليه فقولا له: فليقدنا من قتلة عثمان ثم أنا أول من يبايعه من أهل الشام) فهذه الرواية وما قبله تبين لنا أن معاوية رضي الله عنه كان باذلاً للبيعة بالخلافة لعلي رضي الله عنه لكن بشرط تعجيل القود من قتلة عثمان وكان رأي علي رضي الله عنه أن يدخل معاوية في البيعة أولاً ثم بعد ذلك يتتبع القتلة ويقام عليهم الحد الشرعي بعد إقامة الدعوى والإجابة ثم صدور الحكم فيهم كما أمر الله به. ولكن لما رأى علي ومعاوية رضي الله عنهما رأيين متضادين لا يلتقيان أدى ذلك إلى المنازعة واختلاف الكلمة، ولما رأى علي رضي الله عنه أن الكتب التي وجهها إلى معاوية لم تجد شيئاً بل إن الفتنة بدأت تشتد ولم تزدد الأمور إلا تعقيداً حيث استأثر معاوية رضي الله عنه ببلاد الشام ولم يسمح لأمر علي أن يمتد إليها وهو الخليفة الحق بعد ذي النورين، وأن من حقه على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا، وأخذ في إعداد الجيش لقتال أهل الشام، وحاول الحسن ابنه أن يثنيه عن ذلك وقال له: يا أبتي دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين . فلم يسمع لقوله بل هيأ الجيش ودفع اللواء إلى ولده محمد بن علي – المعروف بابن الحنفية – غير أنه لم يتمكن مما قصده من تسيير الجيش إلى بلاد الشام فإنه جاءه ما شغله عن ذلك وهو توجه أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم إلى البصرة وعندما بلغ هذا الخبر علياً – رضي الله عنه – عدل عن وجهته إلى الشام وغير رأيه وتوجه إلى البصرة بدلاً من الشام وهكذا بدأ النزاع يتدرج بين الصحابة رضي الله عنهم من طور الكتابة والمحاورة إلى طور التعبئة وتجهيز الجيوش استعداداً للقتال والمواجهة للضرب بالسيوف وقد تمثل ذلك في موقعتين:
الأولى: موقعة الجمل.
الثانية: موقعة صفين.
أما موقعة الجمل فقد دارت رحا الحرب فيها بين علي رضي الله عنه ومن معه وبين أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير ومن معهم رضي الله عنهم وذلك أنه: (لما وقع قتل عثمان بعد أيام التشريق سنة خمس وثلاثين للهجرة – كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم – أمهات المؤمنين قد خرجن إلى الحج في هذا العام فراراً من الفتنة فلما بلغ الناس أن عثمان قد قتل أقمن بمكة وقد تجمع بمكة خلق كثير وجم غفير من سادات الصحابة منهم طلحة والزبير حيث استأذنا علياً في الاعتمار فأذن لهما فخرجا إلى مكة وتبعهما كثير من الناس وكذا قدم إلى مكة ابن عمر ومن اليمن يعلى بن أمية عامل عثمان عليها وعبد الله بن عامر عامله على البصرة ولم يزل الناس حينذاك يفدون على مكة ولما كثروا فيها قامت فيهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فحثتهم على القيام بطلب دم عثمان وذكرت ما افتات به أولئك من قتله في بلد حرام وشهر حرام ولم يراقبوا جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سفكوا الدماء وأخذوا الأموال، فاستجاب الناس لها وطاوعوها على ما تراه من الأمر بالمصلحة وقالوا لها: حيثما سرت سرنا معك وبعد أن تعددت آراؤهم في تحديد الجهة التي يسيرون إليها أجمعوا على الذهاب إلى البصرة فلما أتوا البصرة منعهم من دخولها عثمان بن حنيف عامل علي عليها حينذاك وجرت بينه وبينهم مراسلة ومحاورة حتى وصل الأمر بهم إلى المشاجرة ثم ما لبثوا أن اصطلحوا بعد ذلك إلى أن يقدم علي رضي الله عنه لأنه بلغهم أنه متوجه إليهم – وكما تقدم قريباً أنه عدل عن المسير إلى الشام بعد أن بلغه مسير أم المؤمنين عائشة إلى البصرة فأخذ في الاتجاه بعدهم في جمع كبير وهو يرجو أن يدركهم قبل وصولهم إلى البصرة فلما علم أنهم قد فاتوه، استمر في طريقه إليهم قاصداً البصرة من أرض العراق) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
لما انتهى إلى البصرة كاتب أبا موسى الأشعري رضي الله عنه – عامله على الكوفة وطلب منه أنه يستنفر الناس ليلحقوا به غير أن أبا موسى رضي الله عنه كان يرى عكس رأي علي فكان يدعو إلى القعود ويقول: (وإنما هي فتنة وجعل كلما جاء رسول من عند علي رده بمثل ذلك حتى أرسل علي ابنه الحسن وعمار بن ياسر فقال الحسن لأبي موسى: لم تثبط الناس عنا؟ فوالله ما أردنا إلا الإصلاح ولا مثل أمير المؤمنين يخاف علي شيء فقال: صدقت بأبي وأمي ولكن المستشار مؤتمن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب)) وقد جعلنا الله إخواناً وحرم علينا دماءنا وأموالنا فكان كلما قام رجل فحرض الناس على النفير يثبطهم أبو موسى من فوق المنبر – ولكن مع ذلك استجاب للنفير كثير من الناس فخرج مع الحسن جمع كبير من أهل الكوفة وقدموا على علي رضي الله عنه فتلقاهم بذي قار إلى أثناء الطريق في جماعة منهم ابن عباس فرحب بهم وقال: يا أهل الكوفة أنتم لقيتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الذي نريده وإن أبوا داويناهم بالرفق حتى يبدءونا بالظلم، ولن ندع أمراً فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله تعالى) وفي هذا توضيح لمقصد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأن مقصده الأول والأخير هو طلب الإصلاح وأن القتال كان غير محبب إلى نفسه لاسيما مع إخوانه البررة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كان مقصد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير من خروجهم من مكة إلى البصرة من أرض العراق هو التماس الإصلاح بين المسلمين بأمر يرتضيه طرفا النزاع ويحسم به الاختلاف وتجتمع به كلمة المسلمين ولم يخرجوا مقاتلين ولا داعين لأحد منهم ليولوه الخلافة هذا ما قرره العلماء من أهل السنة، قال أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى: (وأما أم المؤمنين والزبير وطلحة رضي الله عنهم ومن معهم فما أبطلوا قط إمامة علي ولا طعنوا فيها ولا ذكروا فيه جرحة تحطه عن الإمامة ولا أحدثوا إمامة أخرى ولا حددوا بيعة لغيره هذا ما لا يقدر أن يدعيه أحد بوجه من الوجوه بل يقطع كل ذي علم على أن كل ذلك لم يكن فإذ لاشك في كل هذا فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافاً عليه ولا نقصاً لبيعته ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته هذا مما لا يشك فيه أحد ولا ينكره أحد فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلماً، وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الإراغة والتدبير عليهم فبيتوا عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم فدفع القوم عن أنفسهم حتى خالطوا عسكر علي فدفع أهله عن أنفسهم وكل طائفة تظن ولا شك أن الأخرى بدئ بها بالقتال واختلط الأمر اختلاطاً لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه والفسقة من قتلة عثمان لا يفترون من شن الحرب وإضرامها فكلتا الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها مدافعة عن نفسها) .
وقال أبو بكر بن العربي في صدد ذكره للغرض الذي خرجت له عائشة ومن معها من مكة إلى البصرة: (ويمكن أنهم خرجوا في جمع طوائف المسلمين وضم نشرهم وردهم إلى قانون واحد حتى لا يضطربوا فيقتتلوا وهذا هو الصحيح لا شيء سواه) .
وقال أبو الوليد بن رشد المالكي: بعد ذكره قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] الآية (فأرادت عائشة رضي الله عنها بقولها والله أعلم: ما رأيت ما ترك الناس في هذه الآية نسبة التقصير إلى من أمسك من الصحابة عن الدخول في الحرب التي وقعت بينهم واعتزالهم وكف عنهم ولم يكن مع بعضهم على بعض ورأت أن الأحظ لهم والواجب عليهم إنما كان أن يرموا الإصلاح بينهم) ، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في صدد ذكره لبعض الأدلة التي تدل على أن عائشة رضي الله عنها ما خرجت إلا للإصلاح: (ويدل لذلك أن أحداً لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا علياً في الخلافة ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة) .
فأهل السنة والجماعة مجمعون على أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ما قصدت بخروجها إلى البصرة إلا الإصلاح بين بنيها رضي الله عنها وبهذا وردت أخبار منها:
(1) روى ابن جرير الطبري: (أن عثمان بن حنيف لما بلغه مجيء عائشة رضي الله عنها إلى البصرة أرسل إليها عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي فقال لهما: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها، وعلم من معها فخرجا فانتهيا إليها وإلى الناس وهم بالحفير فاستأذنا فأذنت لهما فسلما وقالا: إن أميرنا بعثنا إليك نسألك عن مسيرك فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت: والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم ولا يغطي لبنيه الخبر إن الغوغاء من أهل الأمصار ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدثوا فيه الأحداث وآووا فيه المحدثين واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا عذر فاستحلوا الدم الحرام، فسفكوه وانتهبوا المال الحرام، وأحلوا البلد الحرام والشهر الحرام ومزقوا الأعراض والجلود وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم ضارين مضرين غير نافعين ولا متقين لا يقدرون على امتناع ولا يأمنون فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا وقرأت {لاَّ خَيْرَ في كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]) .
(2) وروى أيضاً: (أن علياً رضي الله عنه لما نزل بذي قار دعا القعقاع بن عمرو فأرسله إلى أهل البصرة وقال له: الق هذين الرجلين يا ابن الحنظلية فادعهما إلى الألفة والجماعة وعظم الفرقة.. فخرج القعقاع حتى قدم البصرة فبدأ بعائشة رضي الله عنها فسلم عليها وقال: أي أمه ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت أي بني إصلاح بين الناس قال: فابعثي إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما فبعثت إليهما فجاءا فقال: إني سألت أم المؤمنين ما أشخصها وأقدمها هذه البلاد؟ فقالت: إصلاح بين الناس فما تقولان أنتما؟ أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فوالله لئن عرفناه لنصلحن، ولئن أنكرناه لا نصلح قالا: قتلة عثمان رضي الله عنه فإن هذا إن ترك كان تركاً للقرآن) .
(3) لما رجع القعقاع بن عمرو إلى علي رضي الله عنه وأخبره أن أصحاب الجمل استجابوا إلى ما بعثه به إليهم أذعن علي لذلك وبعث إلى طلحة والزبير يقول: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا الأمر فأرسلا إليه: (إنا على ما فارقنا عليه القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس) ففي هذه الأخبار دليل واضح على أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تكن تقصد بخروجها هي ومن معها تفريق الجماعة ولا شفاء حقد بينها وبين علي كما يزعمه ذلك مبغضوا الصحابة من الرافضة، وإنما الغرض الذي كانت تريده الإصلاح بين الناس ابتغاء مرضات الله راجية الثواب على ذلك من الله، كما أن الذين طلبوا منها الخروج وهم طلحة والزبير ومن معهما كانوا كذلك، وكانوا يعلقون آمالاً على خروجها في حسم الاختلاف وجمع الكلمة ولم يكن يخطر على بالهم قتل أحد لأنهم ما أرادوا إلا الإصلاح ما استطاعوا.
قال أبو بكر بن العربي في صدد ذكره لبيان الغرض الذي خرجت من أجله أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي ومن معها قائلاً: (فخرج طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم رجاء أن يرجع الناس إلى أمهم فيراعوا حرمة نبيهم واحتجوا عليها عندما حاولت الامتناع بقول الله تعالى: {لاَّ خَيْرَ في كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] ثم قالوا لها: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج في الصلح وأرسل فيه فرجت المثوبة واغتنمت الفرصة وخرجت حتى بلغت الأقضية مقاديرها) .
وقال أيضاً: في معرض الرد على من قال: إن أهل البصرة لما عرفوا بمجيء عائشة وطلحة والزبير خرجوا ليقاتلوهم وعلى رأسهم حكيم بن جبلة قال في شأن حكيم هذا: (وعن أي شيء كان يدافع؟ وهم ما جاءوا مقاتلين ولا ولاة، وإنما جاءوا ساعين في الصلح راغبين في تأليف الكلمة، فمن خرج إليهم ودافعهم وقاتلهم دافعوا عن مقصدهم كما يفعل في سائر الأسفار والمقاصد) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن بين بطلان الحديث الذي نصه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: ((تقاتلين علياً وأنت ظالمة)) ، بيّن أن هذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة ولا له إسناده معروف وبين أنه إلى الموضوعات أشبه ثم قال بعد ذلك: (فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال وإنما خرجت بقصد الإصلاح بين المسلمين... لا قاتلت ولا أمرت بقتال هكذا ذكر غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى مبيناً القصد الذي خرجت من أجله عائشة رضي الله عنها هي ومن معها: (والعذر في ذلك عن عائشة أنها كانت متأولة هي وطلحة والزبير وكان مرادهم إيقاع الإصلاح بين الناس وأخذ القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنهم أجمعين وكان رأي علي الاجتماع على الطاعة وطلب أولياء المقتول القصاص ممن يثبت عليه القتل بشروطه) .
فلا مقصد إذن من خروج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي ومن معها من الصحابة من مكة إلى البصرة إلا بغية الإصلاح بين المسلمين ولم تخرج لقتال ولا أمرت به ثم أيضاً: إن فكرة الصلح لم تكن عند أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي ومن معها فحسب بل كانت أيضاً: تجول في فكر علي رضي الله عنه ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم معنا قريباً أن علياً رضي الله عنه بعث إلى طلحة والزبير يقول: (إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا الأمر فأرسلا إليه: إنا على ما فارقنا عليه القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس) ولما كان جوابهم على علي رضي الله عنه بهذا (اطمأنت النفوس وسكنت واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين فلما أمسوا بعث علي عبد الله بن عباس إليهم وبعثوا إليه محمد بن طلحة السجاد وعولوا جميعاً على الصلح وباتوا بخير ليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية) . فهكذا كانت فكرة الصلح مسيطرة على عقول الجميع من الطرفين كما كانت هدفهم الذي يهدفون إليه حتى في وقت استعدادهم للقتال وفي أثناء تنظيم الجيوش.
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: (ولما خرج طلحة والزبير نزلت مضر جميعاً وهم لا يشكون في الصلح، ونزلت ربيعة فوقهم وهم لا يشكون في الصلح ونزلت اليمن أسفل منهم ولا يشكون في الصلح... ونزل علي بحيالهم، فنزلت مضر إلى مضر وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن فكان بعضهم يخرج إلى بعض لا يذكرون إلا الصلح وكان أصحاب علي عشرون ألفاً، وخرج علي وطلحة والزبير فتوافقوا فلم يروا أمراً أمثل من الصلح ووضع الحرب فافترقوا على ذلك) .
ولما أرسلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى علي رضي الله عنه تعلمه أنها إنما جاءت للصلح فرح هؤلاء وهؤلاء لاتفاقهم على رأي واحد وهو الصلح ولما رجع القعقاع بن عمرو من عند أم المؤمنين وطلحة والزبير بمثل رأيهم (جمع علي الناس ثم قام خطيباً فيهم – فحمد الله – عز وجل وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الجاهلية وشقاءها، والإسلام والسعادة وإنعام الله على الأمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذي يليه ثم حدث هذا الحدث الذي جره على هذه الأمة أقوام طلبوا هذه الدنيا، حسدوا من أفاءها الله عليه على الفضيلة وأرادوا رد الأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره، ومصيب ما أراد ألا وإني راحل غداً فارتحلوا، ألا ولا يرتحلن معي أحد أعان على قتل عثمان في شيء من أمور الناس) .
ففكرة الصلح كانت هي المقصد الذي يطلبه الفريقان واتفقوا عليه وكان المسلمون حينئذ مجمعين على وجوب إقامة الحد وتنفيذ القصاص في قتلة عثمان ولم يخطر القتال على بال أحد منهم، ولكن المفسدين في الأرض الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه أصابهم الغم وأدركهم الحزن من اتفاق الكلمة وجمع الشمل، وأيقنوا أن الصلح الذي حصل الاتفاق عليه بين علي وأم المؤمنين وطلحة والزبير رضي الله عنهم سيكشف أمرهم وسيسلم رؤوسهم إلى سيف الحق وقصاص الخليفة فباتوا يدبرون أمرهم بليل شديد الظلمة فلم يجدوا سبيلاً لنجاتهم إلا بأن يعملوا على إبطال الصلح وتفريق صفوف المسلمين وذلك بأن يقوموا بعمل يحير العقلاء ويجعل كل فريق يسيء الظن بالآخر. فقد أجمعوا على إنشاب الحرب في السر واستسروا بذلك خشية أن يفطن بما حاولوا من الشر وخاصة بعد أن تيقنوا أن رأي علي فيهم موافق لرأي طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم وقض مضجعهم قوله رضي الله عنه في خطبته التي ذكرناها آنفاً: (ألا وإني راحل غداً فارتحلوا ألا ولا يرتحلن معي أحد أعان على قتل عثمان في شيء من أمور الناس) (فلما قال هذا اجتمع من رؤوسهم جماعة كالأشتر النخعي، وشريح بن أوفى وعبدالله بن سبأ – المعروف بابن السوداء- وسالم بن ثعلبة وعلياء بن الهيثم وغيرهم في ألفين وخمسمائة وليس فيهم صحابي ولله الحمد فقالوا: ما هذا الرأي؟ وعلي والله أعلم بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقرب إلى العمل بذلك وقد قال ما سمعتم غداً يجمع عليكم الناس، وإنما يريد القوم كلهم أنتم فكيف بكم وعددكم قليل في كثرتهم؟
فقال الأشتر: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم فإن كان اصطلح معهم فإنما اصطلحوا على دمائنا، فإن كان الأمر هكذا ألحقنا علياً بعثمان فرضي القوم منا بالسكوت فقال ابن السوداء: بئس ما رأيت لو قتلناه فإنا يا معشر قتلة عثمان – في ألفين وخمسمائة – وطلحة والزبير وأصحابهما في خمسة آلاف لا طاقة لكم بهم وهم إنما يريدونكم.
فقال علياء بن الهيثم: دعوهم وارجعوا بنا حتى نتعلق ببعض البلاد فنمتنع بها فقال ابن السوداء: بئس ما قلت، إذاً والله كان يتخطفكم الناس، ثم قال ابن السوداء: قبحه الله يا قوم إن عزكم في خلطة الناس فإذا التقى الناس فأنشبوا الحرب والقتال بين الناس ولا تدعوهم يجتمعون، فمن أنتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع ويشغل الله طلحة والزبير ومن معهما عما يحبون ويأتيهم ما يكرهون فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه) فاجتمعوا على هذا الرأي الذي تفوه به الخبيث عبد الله بن سبأ اليهودي (فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم جيرانهم فخرجوا متسللين وعليهم ظلمة فخرج مضريهم إلى مضريهم، وربيعهم إلى ربيعهم ويمانيهم إلى يمانيهم فوضعوا فيهم السلاح بغتة فثار أهل البصرة، وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين أتوهم، وبلغ طلحة والزبير ما وقع من الاعتداء على أهل البصرة فقالا: ما هذا؟ قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلاً وفي نفس الوقت حسب خطة أولئك المفسدين ذهبت منهم فرقة أخرى في ظلمة الليل ففاجأت معسكر علي بوضع السيف فيهم وقد وضعت السبئيه رجلاً قريباً من علي يخبره بما يريدون فلما سمع علي الصوت عندما هجموا على معسكره قال: ما هذا؟ قال ذلك الرجل: ما شعرنا إلا وقوم من أهل البصرة قد بيتونا) .
(فثار كل فريق إلى سلاحه ولبسوا اللأمة وركبوا الخيول، ولا يشعر أحد منهم بما وقع الأمر عليه في نفس الأمر وكان أمر الله قدراً مقدوراً وقامت الحرب على قدم وساق وتبارز الفرسان، وجالت الشجعان فنشبت الحرب وتوافق الفريقان وقد اجتمع مع علي عشرون ألفاً، والتف على عائشة ومن معها نحو من ثلاثين ألفاً فإنا لله وإنا إليه راجعون والسبئية أصحاب ابن السوداء – قبحه الله – لا يفترون عن القتل ومنادي علي ينادي ألا كفوا، ألا كفوا فلا يسمع أحد) فاشتدت المعركة وحمي الوطيس وقد كان من سنتهم في هذا اليوم أنه لا يذفف على جريح ولا يتبع مدبر وقد قتل من هذا خلق كثير جداً حتى حزن علي رضي الله عنه أشد الحزن وجعل يقول لابنه الحسن: (يا بني ليت أباك مات منذ عشرين سنة فقال له: يا أبه قد كنت أنهاك عن هذا قال: يا بني إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا) ثم نزل بنفسه إلى ميدان المعركة لإنهاء القتال (وطلب طلحة والزبير ليكلمهما فاجتمعوا حتى التقت أعناق خيولهم فذكرهما بما ذكرهما به فانتهى الأمر برجوع الزبير يوم الجمل وفي أثناء رجوعه رضي الله عنه نزل وادياً يقال له: وادي السباع فاتبعه رجل يقال له عمرو بن جرموز فجاءه وهو نائم فقتله غيلة) وأما طلحة رضي الله عنه فإنه بعد (أن اجتمع به علي فوعظه تأخر فوقف في بعض الصفوف فجاءه سهم غرب فوقع في ركبته وقيل في رقبته والأول أشهر، وانتظم السهم مع ساقه خاصرة الفرس فجمح به حتى كان يلقيه وجعل يقول: إلي عباد الله فأدركه مولى له فركب وراءه وأدخله البصرة فمات بدار فيها ويقال: إنه مات بالمعركة) ولم تنته موقعة الجمل برجوع الزبير واستشهاد طلحة رضي الله عنهما بل اشتدت الحرب بين الفريقين (حتى أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقدمت وهي في هودجها وناولت كعب بن سور قاضي البصرة مصحفاً وقالت ادعهم إليه وذلك حين اشتد الحرب وحمي القتال فلما تقدم كعب بن سور بالمصحف يدعو إليه استقبله مقدمة جيش الكوفيين وكان عبد الله بن سبأ – وهو ابن السوداء – وأتباعه بين يدي الجيش يقتلون من قدروا عليه من أهل البصرة لا يتوقفون في أحد، فلما رأوا كعب بن سور رافعاً المصحف رشقوه بنبالهم رشقة رجل واحد فقتلوه ووصلت النبال إلى هودج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فجعلت تنادي الله الله يا بني اذكروا يوم الحساب ورفعت يديها تدعو على أولئك النفر من قتلة عثمان، فضج الناس معها بالدعاء حتى بلغت الضجة إلى علي فقال: ما هذا؟ فقالوا: أم المؤمنين تدعو على قتلة عثمان وأشياعهم فقال: اللهم العن قتلة عثمان) .
(ولما رأى علي رضي الله عنه أن المعركة حميت حول الجمل أمر بعقره على ما يقال كي لا تصاب أم المؤمنين لأنها بقيت غرضاً للرماة ولينفصل هذا الموقف الذي تفانى فيه الناس ولما سقط البعير إلى الأرض انهزم من حوله من الناس وانتهت المعركة وحملت أم المؤمنين بأمر من علي وهي مكرمة معززة ودخلت البصرة ومعها أخوها محمد بن أبي بكر) . وأما علي رضي الله عنه، فإنه (أقام بظاهر البصرة ثلاثاً ثم صلى على القتلى من الفريقين... ثم جمع ما وجد لأصحاب عائشة في المعسكر، وأمر به أن يحمل إلى مسجد البصرة فمن عرف شيئاً هو لأهلهم فليأخذه إلا سلاحاً كان في الخزائن عليه سمة السلطان وكان مجموع من قتل يوم الجمل من الفريقين – عشرة آلاف خمسة من هؤلاء وخمسة من هؤلاء رحمهم الله ورضي عن الصحابة منهم وقد سأل بعض أصحاب علي علياً أن يقسم فيهم أموال أصحاب طلحة والزبير فأبى عليهم) .
(ولما أرادت أم المؤمنين عائشة الخروج من البصرة بعث إليها علي رضي الله عنه بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك وأذن لمن نجا ممن جاء في الجيش معها – أن يرجع إلا أن يحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر، فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه، جاء علي فوقف على الباب وحضر الناس وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس ودعت لهم وقالت: يا بني لا يعتب بعضنا على بعض إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها فقال علي: صدقت والله ما كان بيني وبينها إلا ذاك وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة وسار علي معها مودعاً ومشيعاً أميالاً، وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم وكان يوم السبت مستهل رجب سنة ست وثلاثين، وقصدت في سيرها ذلك إلى مكة، فأقامت بها إلى أن حجت عامها ذلك ثم رجعت إلى المدينة رضي الله عنها) .
ومما تقدم ذكره بشأن موقعة الجمل تبين أن القتال وقع بين الصحابة فيما بينهم كان بدون قصد منهم ولا اختيار وأن حقيقة المؤامرة التي قام بها قتلة عثمان خفيت على كلا الفريقين حتى ظن كل منهما أن الفريق الآخر قصده بالقتال.
وقد وضح حقيقة هذه المؤامرة العلامة ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله قال أبو محمد بن حزم: (وأما أهل الجمل فما قصدوا قط قتال علي رضوان الله عليه ولا قصد علي رضوان الله عليه قتالهم وإنما اجتمعوا بالبصرة للنظر في قتلة عثمان رضوان الله عليه وإقامة حق الله تعالى فيهم، فتسرع الخائفون على أنفسهم أخذ حد الله تعالى منهم وكانوا أعداداً عظيمة يقربون من الألوف – فأثاروا القتال خفية حتى اضطر كل واحد من الفريقين إلى الدفاع عن أنفسهم إذ رأوا السيف قد خالطهم) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في القتال ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم فإنه لما تراسل علي وطلحة والزبير وقصدوا الاتفاق على المصلحة وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة وكان علي غير راض بقتل عثمان ولا معيناً عليه كما كان يحلف فيقول: والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله وهو الصادق البار في يمينه فخشي القتلة أن يتفق علي معهم على إمساك القتلة فحملوا دفعاً عن أنفسهم فظن علي أنهم حملوا عليه فحمل دفعاً عن نفسه فوقعت الفتنة بغير اختيارهم) .
فهكذا أنشب الحرب بين علي وأخويه الزبير وطلحة قتلة عثمان الأشرار دون أن يفطن لذلك أولئك الأخيار من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
وأما موقعة صفين:
فقد دارت رحا الحرب فيها بين أهل العراق من أصحاب علي رضي الله عنه وبين أهل الشام من أصحاب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ذلك أن علياً رضي الله عنه لما فرغ من موقعة الجمل ودخل البصرة وشيع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما أرادت الرجوع إلى مكة ثم سار من البصرة إلى الكوفة فدخلها وكان في نيته أن يمضي ليرغم أهل الشام على الدخول في طاعته كما كان في نية معاوية ألا يبايع حتى يقام الحد على قتلة عثمان رضي الله عنه، أو يسلموا إليه ليقتلهم ولما دخل علي رضي الله عنه الكوفة شرع في مراسلة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما فقد بعث إليه جرير بن عبد الله البجلي ومعه كتاب أعلمه فيه (باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته ودعاه فيه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس فلما انتهى إليه جرير بن عبد الله أعطاه الكتاب فطلب معاوية عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام فاستشارهم فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان، أو أن يسلم إليهم قتلة عثمان وإن لم يفعل لم يبايعوه حتى يقتل قتلة عثمان رضي الله عنه فرجع جرير إلى علي فأخبره بما قالوا: وحينئذ خرج من الكوفة عازماً على دخول الشام فعسكر بالنخيلة وبلغ معاوية أن علياً قد خرج بنفسه فاستشار عمرو بن العاص فقال له: اخرج أنت أيضاً بنفسك فتهيأ أهل الشام وتأهبوا، وخرجوا أيضاً: إلى نحو الفرات من ناحية صفين حيث يكون مقدم علي بن أبي طالب رضي الله وسار علي رضي الله عنه بمن معه من الجنود من النخيلة قاصداً أرض الشام فالتقى الجمعان في صفين – أوائل ذي الحجة سنة ست وثلاثين) .
ومكث علي يومين لا يكاتب معاوية، ولا يكاتبه معاوية، ثم دعا علي بشير بن عمرو الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني، وشبث بن ربعي التميمي فقال لهم: (ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الطاعة والجماعة واسمعوا ما يقول لكم: فلما دخلوا على معاوية جرى بينه وبينهم حوار لم يوصلهم إلى نتيجة فما كان من معاوية إلا أن أخبرهم أنه مصمم على القيام بطلب دم عثمان الذي قتل مظلوماً) . ولما رجع أولئك النفر إلى علي رضي الله عنه وأخبروه بجواب معاوية رضي الله عنه لهم وأنه لن يبايع حتى يقتل القتلة أو يسلمهم (عند ذلك نشبت الحرب بين الفريقين واقتتلوا مدة شهر ذي الحجة كل يوم، وفي بعض الأيام ربما اقتتلوا مرتين ولما دخل شهر المحرم تحاجز القوم رجاء أن تقوم بينهم مهادنة وموادعة يؤول أمرها إلى الصلح والمراسلة بين الناس وحقن دمائهم) ثم في خلال هذا الشهر بدأت مساعي الصلح والمراسلة تتكرر بين الطرفين ولكن انسلخ شهر المحرم ولم يحصل لهم أي اتفاق، ولم يقع بينهم صلح.
(ثم نشبت الحرب بين الطائفتين أياماً ثمانية وكان أشدها وأعنفها ليلة التاسع من صفر سنة سبع وثلاثين حيث سميت هذه الليلة (ليلة الهرير) تشبيهاً لها بليلة القادسية اشتد القتال فيها حتى توجه النصر فيها لأهل العراق على أهل الشام) وتفرقت صفوفهم وكادوا ينهزمون فعند ذلك رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح وقالوا: (هذا بيننا وبينكم قد فني الناس فمن لثغور أهل الشام بعد أهل الشام، ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق، فلما رأى الناس المصاحف قد رفعت قالوا: نجيب إلى كتاب الله – عز وجل – وننيب إليه) (ولما رفعت المصاحف بالرماح توقفت الحرب ولما رفع أهل الشام المصاحف اختلف أصحاب علي رضي الله عنه وانقسموا عليه فمنهم من رأى الموافقة على التحكيم، ومنهم من كان يرى الاستمرار في القتال حتى يحسم الأمر، وهذا كان رأي علي رضي الله عنه في بادئ الأمر، ثم وافق أخيراً على التحكيم) .
فتم الاتفاق بين الفريقين على التحكيم بعد انتهاء موقعة صفين وهو أن يحكم كل واحد منهما رجلاً من جهته، ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة المسلمين فوكل معاوية عمرو بن العاص ووكل علي أبا موسى الأشعري رضي الله عنهم جميعاً، ثم أخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما والأمة أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين - كليهما - عهد الله وميثاقه أنهما على ما في ذلك الكتاب وأجلا القضاء إلى رمضان وإن أحبا أن يؤخرا ذلك فعلى تراض منهما وكتب في يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان، ومع كل واحد من الحكمين أربعمائة من أصحابه، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح ولما كان شهر رمضان جعل الاجتماع كما تشارطوا عليه وقت التحكيم بصفين وذلك أن علياً رضي الله عنه لما كان مجيء رمضان بعث أربعمائة فارس مع شريح بن هانئ ومعهم أبو موسى، وعبد الله بن عباس، وإليه الصلاة، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة فارس من أهل الشام ومعهم عبد الله بن عمر، فتوافوا بدومة الجندل بأذرح وهي نصف المسافة بين الكوفة والشام بينها وبين كل من البلدين تسع مراحل – وشهد معهم جماعة من رؤوس الناس كعبد الله بن هشام المخزومي وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري، وأبو جهم بن حذيفة فلما اجتمع الحكمان وتراوضا على المصلحة للمسلمين ونظرا في تقدير الأمور ثم اتفقا على أن يكون الفصل في موضوع النزاع بين علي ومعاوية يكون لأعيان الصحابة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم هذا ما اتفق عليه الحكمان فيما بينهما لا شيء سواه.
أما ما يذكره المؤرخون من أن الحكمين لما اجتمعا بأذرح من دومة الجندل وتفاوضا واتفقا على أن يخلعا الرجلين فقال عمرو بن العاص لأبي موسى: اسبق بالقول فتقدم فقال: إني نظرت فخلعت علياً عن الأمر وينظر المسلمون لأنفسهم كما خلعت سيفي هذا من عنقي أو من عاتقي وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض، وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال: إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر: كما أثبت سيفي هذا في عاتقي وتقلده، فأنكر أبو موسى فقال عمرو: كذلك اتفقنا وتفرق الجمع على ذلك الاختلاف .
فهذه الحكاية وما يشبهها من اختلاف أهل الأهواء والبدع الذين لا يعرفون قدر أبي موسى وعمرو بن العاص ومنزلتهما الرفيعة في الإسلام. قال أبو بكر بن العربي مبيناً كذب ذلك: (هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة ووضعته التاريخية للملوك فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع) .
ولم يكتف الواضعون من أهل التاريخ بهذا بل وسموا الحكمين بصفات يتخذون منها وسيلة للتفكه والتندر، وليتخذ منه أعداء الإسلام صوراً هزيلة لأعلام الإسلام في المواقف الحرجة، فقد وصفوا عمرو بن العاص رضي الله عنه بأنه كان صاحب غدر وخداع ووصفوا أبا موسى بأنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوع في القول كما وصفوه بأنه كان على جنب كبير من الغفلة ولذلك خدعه عمرو بن العاص في قضية التحكيم حيث اتفقا على خلع الرجلين فخلعهما أبو موسى واكتفى عمرو بخلع علي دون معاوية كل هذه الصفات الذميمة يحاول المغرضون إلصاقها بهذين الرجلين العظيمين اللذين اختارهما المسلمون ليفصلا في خلاف كبير أدى إلى قتل الآلاف من المسلمين وكل ذي لب يعلم أن المسلمين لا يسندون الفصل في هذا الأمر إلى أبي موسى وعمرو بن العاص رضي الله عنهما إلا لعلمهم بما هما عليه من الفضل، وأنهما من خيار الأمة المحمدية، ومن أكثرهم ثقة وورعاً وأمانة فكيف يصف الغافلون هذين الرجلين بما وصفوهما به من المكيدة والخداع وضعف الرأي والغفلة، ولكن تلك الأوصاف هي أليق بمن تفوه بها من أهل الأهواء، وقد تجاهل أولئك الواصفون لأبي موسى وعمرو بما تقدم ذكره أموراً لو دققوا النظر فيها لاستحيوا من ذكر تلك الأوصاف وتلك الأمور هي:
الأمر الأول:
أنهم تجاهلوا أن معاوية لم يكن خليفة ولا هو ادعى الخلافة يومئذ حتى يحتاج عمرو إلى خلعها عنه أو تثبيتها له.
الأمر الثاني:
أن سبب النزاع هو أخذ الثأر لعثمان رضي الله عنه من قتلته فلما طلب علي البيعة من معاوية (اعتل بأن عثمان قتل مظلوماً وتجب المبادرة إلى الاقتصاص من قتلته وأنه أقوى الناس على الطلب بذلك والتمس من علي أن يمكنه منهم ثم يبايع له بعد ذلك) ومعنى هذا أن معاوية كان مسلماً لعلي بالخلافة لأنه طلب منه بوصفه الخليفة تسليم القتلة، أو إقامة الحد عليهم باعتباره أمير المؤمنين، وكان رأي علي أن يدخل معاوية ومن معه من أهل الشام فيما دخل فيه الناس من البيعة له، ثم يتقدم أولياء عثمان بالمحاكمة إليه (فإن ثبت على أحد بعينه أنه ممن قتل عثمان اقتص منه فاختلفوا بحسب ذلك) .
 
أعلى