الموسوعة العقدية

طباعة الموضوع

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وقال أيضاً رحمه الله: (وليس لأحد أن يتبع زلات العلماء، كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم والإيمان إلا بما هم له أهل، فإن الله تعالى عفا للمؤمنين عما أخطأوا، كما قال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [ البقرة: 286]. قال الله: ((قد فعلت)) .
وأمرنا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا ولا نتبع من دونه أولياء، وأمرنا أن لا نطيع مخلوقاً في معصية الخالق، ونستغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، فنقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [ الحشر: 10].
وهذا أمر واجب على المسلمين في كل ما كان يشبه هذا من الأمور، ونعظم أمره تعالى بالطاعة لله ورسوله، ونرعى حقوق المسلمين، لاسيما أهل العلم منهم، كما أمر الله ورسوله، ومن عدل عن هذه الطريق فقد عدل عن اتباع الحجة إلى اتباع الهوى في التقليد، وآذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فهو من الظالمين، ومن عظم حرمات الله، وأحسن إلى عباد الله، كان من أولياء الله المتقين، والله سبحانه أعلم) .
لا يُشْتَرَطُ في العالم أنْ لا يُخْطِئ، فعلماء الحديث والأثر وأهل الفقه والنظر ربما حصل منهم أغلاط لأنَّهُم غير معصومين، وهذه الأغلاط التي قد تحصل منهم، حُصُولها من نِعَمِ الله - عز وجل -.
ولمَّا سُئِلَ بعض الأئمة عن غلط العالم؛ كيف يغلط العالم، كيف يخالف السنة، كيف يكون في سلوكه مُقَصِّرْ، كيف يغيب عن ذهنه في مسألة التدقيق ويتساهل؟
فقال (لئلا يُشَابِهْ العلماء الأنبياء)، لأنَّ النبي هو الذي لا ينطق عن الهوى، هو الذي يصيب في كل شيء وهو الذي يُتَّبَعْ في كل شيء، فإذا كان العالم على صوابٍ كثير وربما وقع في اجتهاد هو عليه مأجور ولكنه أخطأ في ذلك، لم يكن عند الناس رَفْعْ لعالم في منزلة النبي فَيُتَّبَعْ على كل شيء، فيحصل في النفوس التوحيد والبحث عن الحق من الكتاب والسنة والنظر فيما يُبَرِّئْ الذمة في ذلك.
وهذه عبوديات في القلب يسلكها الناس مع وجود هذا الخلاف بين أهل العلم.
ولهذا إذا نظرت في هؤلاء الذين عَنَاهُمْ الطحاوي (أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل) هو عَنَى بهم أوَّلِيًّا الأئمة الأربعة:
- أبو حنيفة: وهو من أهل الفقه والنظر ليس هو من أهل الحديث والأثر.
- والإمام مالك والشافعي وأحمد: وهؤلاء هم أئمة أهل الحديث كما أنهم أئمة أهل الفقه في المذاهب المتبوعة المعروفة.
هؤلاء بينهم خلاف في مذاهبهم، أبو حنيفة يذهب إلى قول، مالك يذهب إلى قول، الشافعي يذهب إلى قول، الإمام أحمد يذهب إلى قول.
هؤلاء منهم من يكون قوله هو الصواب، ومنهم من يكون قوله خلاف الأولى، أو يكون قوله مرجوحاً وهكذا.
فالعالم يُدَقِّقْ ويَتَحَرَّى من الأقوال ولا يُقَلِّدُ عالماً في كل ما قال؛ لأنَّ المسائل كثيرة جداً وهو بشر فقد يتهيأ له في المسألة أَنْ يُدَقِّقْ وفي مسألة أخرى لا يدقق وهكذا.
لهذا وجب على أهل الإيمان أنْ يَتَوَلَّوا جميع العلماء وأن يذكروهم بخير وأن لا يذكروا أحداً منهم بسوء
ثانيا: أن نثبت له الأجر ولا نقلده على خطئه
لقوله عليه الصلاة والسلام: ((الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر)) .
هذا الحديث يدل على أن العالم – إذا كان مستوفياً لشروط الاجتهاد – إذا اجتهد في مسألة ما واستفرغ جهده للوصول إلى الحق أجر على ذلك أجران إن أصاب الحق، أجر على اجتهاده وأجر على إصابته الحق.
وإذا لم يصب الحق أجر أجراً واحداً وذلك على اجتهاده ورفع عنه الإثم والحرج على عدم إصابته للحق لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] لكن الأمر الذي يجب أن يتنبه له هو أن هذا الخطأ الذي أخطأ فيه العالم لا يجوز متابعته عليه بل يجب أن يحذر العامة كي لا يغتروا به، إلا أن المتتبعين للرخص يحتجون بتقليد العالم في هذه الزلة فيقال لهم: طالما وأنتم مقلدون فما هو الحامل لكم على تقليد هذا العالم ومخالفة الكثيرين من العلماء من أفتى بخلافه.
ثم يقال لهم أيضاً إن كنت حسب ما تقولون إنكم مقلدون لهذا العالم في هذه الزلة (والتي تسمونها رخصة)، فلم لا تقلدونه في الأمور الأخرى مما لم يرخص فيه؟
بل نراكم تبحثون عن عالم آخر تأخذون عنه زلاته التي خالف فيها العالم الأول وهكذا دواليك. والحقيقة أنهم اتخذوا التقليد ستاراً لتحقيق رغبات أنفسهم.
هذا ولقد حذر سلفنا الصالح من زلات العلماء وذلك لأن العالم إذا زل تابعه على ذلك كثير من الناس ولذلك قيل: (زلة العالِم – بكسر اللام – زلة العالَم – بفتح اللام-).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما روى ذلك عنه الدارمي في (السنن)، وابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) بإسناد صحيح قال: (ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون) .
وقال ابن عباس كما في (المدخل) للبيهقي والخطيب في (الفقيه والمتفقه) وابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) بإسناد حسن: قال: ويل للأتباع من زلة العالم، قيل: وكيف ذلك؟ قال: يقول العالم الشيء برأيه فيلقى من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه فيخبره ويرجع ويقضي الأتباع بما حكم .
وقال الإمام الشاطبي كما في كتابه (الموافقات): (وقد روي عن ابن المبارك أنه قال: كنا في الكوفة فناظروني في ذلك –يعني في النبيذ المختلف فيه- فقلت لهم: تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة. فإن لم نبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه. فاحتجوا، فما جاؤوا عن واحد برخصة إلا جئناهم بشدة فما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود وليس احتجاجهم عنه في رخصة النبيذ بشيء يصح عنه. قال ابن المبارك: فقلت للمحتج عنه في الرخصة: يا أحمق: عدَّ أن ابن مسعود لو كان ههنا جالساً فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر أو تحير أو تخشى فقال قائلهم: يا أبا عبد الرحمن: فالنخعي والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام؟
فقلت لهم: دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال، فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا، وعسى أن يكون منه زلة أفلأحد أن يحتج بها؟ فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاووس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة؟ قالوا: كانوا خياراً. قال فقلت: فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يداً بيد؟ فقالوا: حرام. فقال ابن المبارك: إن هؤلاء رأوه حلالاً فماتوا وهم يأكلون الحرام، فبقوا وانقطعت حجتهم هذا ما حكى) اهـ المراد.
وقال الغزالي في (المستصفى): فمن اعتقد أن الشافعي رحمه الله أعلم والصواب على مذهبه أغلب فليس له أن يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي وليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده) اهـ المراد.
وقال الفتوحي في (شرح الكوكب المنير):
(... ويحرم عليه -أي على العامي- تتبع الرخص وهو أنه كلما وجد رخصة في مذهب عمل بها ولا يعمل بغيرها في ذلك المذهب.
ويفسق به -أي تتبع الرخص- لأنه لا يقول بإباحة جميع الرخص أحد من علماء المسلمين، فإن القائل بالرخصة في هذا المذهب لا يقول بالرخصة الأخرى التي في غيره.
قال ابن عبد البر: لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً.
ومما يحكى أن بعض الناس تتبع رخص المذاهب من أقوال العلماء وجمعها في كتاب وذهب به إلى بعض الخلفاء فعرضه على بعض العلماء الأعيان فلما رآها قال: (يا أمير المؤمنين هذه زندقة في الدين ولا يقول بمجموع ذلك أحد من المسلمين) .
قلت: هذه الحكاية نقلها الإمام الشوكاني في كتابه (إرشاد الفحول ص: 272) فقال: (وحكى البيهقي عن إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد فرفع إلي كتاباً لأنظر فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم. فقلت: مصنف هذا زنديق. فقال: لم تصح هذه الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر.
وما من عالم إلا وله زلة ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه.
فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب).
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: (أما لو اختار المقلد من كل مذهب ما هو الأهون عليه والأخف له فقال أبو إسحاق المروزي: يفسق، وقال ابن أبي هريرة: لا يفسق. قال الإمام أحمد بن حنبل: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة بالسماع وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً) .
قلت: وانظر (روضة الطالبين) للنووي .
ثالثا: عدم الاعتماد عليها وترك العمل بها

أن يعلم أن زلة العالم ليست من الشرع في شيء، فلا تنسب إليه، ولا هي من الخلاف السائغ، ولا يجوز اقتداء به فيها، بل يتعين تبرئة الشريعة منها.
قال الإمام الشاطبي في (الموافقات):
(إن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بها تقليداً له؛ وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع، ولذلك عدت زلة، وإلا فلو كانت معتداً بها؛ لم يجعل لها هذه الرتبة، ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها.
كما أنه لا ينبغي أن يشنع عليه بها، ولا ينتقص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً؛ فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين)اهـ .
وقال الإمام الشاطبي أيضاً: (إنه لا يصح اعتمادها – أي زلة العالم – خلافاً في المسائل الشرعية؛ لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد، ولا هي من مسائل الاجتهاد، وإن حصل من صاحبها اجتهاد؛ فهو لم يصادف فيها محلاً، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد، وإنما يعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة، كانت مما يقوى أو يضعف، وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا؛ فلذلك قيل: (إنه لا يصح أن يعتد بها في الخلاف، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل، والمتعة، ومحاشي النساء, وأشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها)اهـ .
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (ومن أنواع النصح لله تعالى وكتابه ورسوله – وهو مما يختص به العلماء رد الأهواء المضلة بالكتاب والسنة، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلات العلماء، وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردها) اهـ .
ومع أهمية التنبيه إلى زلة العالم، فإن هذا لا يستلزم هجره وإطراح ما عدا ذلك من علومه النافعة، كما يفعل الغلاة من المنتسبين إلى طلب العلم، وفي هذا يقول العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله تعالى:
(فهذه الآراء المغلوطة لم تكن سبباً في الحرمان من علوم هؤلاء الأجلة، بل مازالت منارات يهتدي بها في أيدي أهل الإسلام، وما زال العلماء على هذا المشرع ينبهون على خطإ الأئمة مع الاستفادة من علمهم وفضلهم، ولو سلكوا مسلك الهجر لهدمت أصول وأركان، ولتقلص ظل العلم في الإسلام، وأصبح الاختلال واضحاً للعيان، والله المستعان) اهـ.
رابعا: أن يلتمس العذر للعالم، ويحسن الظن به، ويقيله عثرته
قال الإمام السبكي – رحمه الله -: (فإذا كان الرجل ثقة مشهوداً له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يحمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تعود منه ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله) .
وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى:
(والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما: أعظم الباطل، ويريد بها الآخر: محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه، ويناظر عنه) .
وأسند البخاري في كتاب الشروط من (صحيحه) قصة الحديبية ومسير النبي صلى الله عليه وسلم إليها، وفيها:
((وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل)) إلخ الحديث.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فقه الحديث: (جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها، لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله؛ لأن خلأ القصواء لولا خارق العادة لكان ما ظنه الصحابة صحيحاً، ولم يعاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لعذرهم في ظنهم) اهـ.
قال الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله: (فقد أعذر النبي صلى الله عليه وسلم غير المكلف من الدواب باستصحاب الأصل، ومن قياس الأولى إذا رأينا عالماً عاملاً، ثم وقعت منه هنة أو هفوة، فهو أولى بالإعذار، وعدم نسبته إليها والتشنيع عليه بها – استصحاباً للأصل – وغمر ما بدر منه في بحر علمه وفضله، وإلا كان المعنف قاطعاً للطريق ردءاً للنفس اللوامة، وسبباً في حرمان العالم من علمه، وقد نهينا أن يكون أحدنا عونا للشيطان على أخيه) اهـ.
ثم نقل قول الصنعاني رحمه الله تعالى: (وليس أحد من أفراد العلماء إلا وله نادرة ينبغي أن تغمر في جنب فضله وتجتنب) اهـ.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: ((من أقال مسلما أقال الله عثرته)) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)) .
قال الإمام الشافعي – رحمه الله – (ذوو الهيئات الذين يقالون عثراتهم الذين ليسوا يعرفون بالشر، فيزل أحدهم الزلة) .
وقال الإمام العز بن عبد السلام – رحمه الله: (لو رفعت صغائر الأولياء إلى الأئمة والحكام لم يجز تعزيرهم عليها، بل يقيل عثرتهم، ويستر زلتهم، فهم أولى من أقيلت عثرته، وسترت زلته) .
وقال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله: (الظاهر أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشرف والسؤدد، فإن الله تعالى خصهم بنوع تكريم وتفضيل على بني جنسهم، فمن كان مستوراً مشهوراً بالخير حتى كبا به جواده، ونبا عضب صبره، وأديل عليه شيطانه، فلا تسارع إلى تأنيبه وعقوبته، بل تقال عثرته مالم يكن حداً من حدود الله فإنه يتعين استيفاؤه من الشريف كما يتعين أخذه من الوضيع) اهـ.
يجب على كل مسلم بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين، كما نطق به القرآن، خصوصا الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم، يهدى بهم في ظلمات البر والبحر. وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم علماؤها شرارها، إلا المسلمين، فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول من أمته، والمحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وكلهم متفقون اتفاقا يقينا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه - فلا بد له في تركه من عذر.
وجماع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
والثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.
والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ، فلهم الفضل علينا والمنة بالسبق، وتبليغ ما أرسل به الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا، وإيضاح ما كان منه يخفى علينا، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
خامسا: أن يحفظ للعالم قدره، ولا يجحد محاسنه
قال الذهبي في ترجمة القفال الشاشي: (قال أبو الحسن الصفار: سمعت أبا سهل الصعلوكي، وسئل عن تفسير أبي بكر القفال، فقال: (قدسه من وجه، ودنسه من وجه)، أي دنسه من جهة نصر الاعتزال، قلت: قد مر موته، والكمال عزيز – وإنما يمدح العالم بكثرة ماله من الفضائل، فلا تدفن المحاسن لورطة، ولعله رجع عنها، وقد يغفر له في استفراغه الوسع في طلب الحق، ولا حول ولا قوة إلا بالله) .
واستدرك الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله بعض ألفاظ الشيخ أبي إسماعيل الهروي، وقال: (في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير، يجبره حسن حال صاحبه وصدقه، وتعظيمه لله ورسوله، ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له) .
وقال أيضاً: (شيخ الإسلام حبيبنا، ولكن الحق أحب إلينا منه، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: (عمله خير من علمه)، وصدق رحمه الله، فسيرته بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد أهل البدع، لا يشق له فيها غبار، وله المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله، وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، وقد أخطأ في هذا الباب لفظاً ومعنى..) ..
بحيث لا نسقط مكانته من نفوس الناس ولا نشنع عليه من أجلها ونلغي ما عنده من العلم وموافقة الحق مع التحذير من الزلة التي وقعت منه وتحذير الأمة من الاغترار بها ومتابعتها.
أقوال أهل العلم في ذلك:
قال الإمام الشاطبي رحمه الله:
(لا ينبغي أن ينسب صاحبها – أي الزلة – إلى التقصير ولا أن يشنع عليه بها ولا ينتقص من أجلها أو يعتقد فيه المخالفة بحتاً فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين) اهـ
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله:
(من له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد يكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لاجتهاده فلا يجوز أن يتبع فيها ولا يجوز أن تهدر مكانته ومنزلته في قلوب المسلمين) اهـ
ثم اعلم أن الزلات تتفاوت فمنها ما يكون ذا أثر على الناس فيجب في هذه الحالة تحذيرهم من الاغترار بها وليكن هذا التحذير بأسلوب حسن بحيث لا يشعر الناس بالتنقص من هذا العالم ولا يطعن في العالم ولا في رتبته.
وأما إن كانت غير مؤثرة على الناس فيجب سترها وإقالة عثرة هذا العالم.
كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)) ، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((من أقال مسلماً أقال الله عثرته)) .
فالعلماء ولا شك من ذوي الهيئات الذين تقال عثراتهم.
سادسا: إسداء النصح له
إن العالم كغيره من الناس له حق النصح إذا أخطأ وهو مندرج تحت قوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث تميم بن أوس الداري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) رواه مسلم . وأبو داود . والترمذي ، وعنده أنه قال الدين النصيحة ثلاث مرات، فالعلماء يعتبرون من أئمة المسلمين.
ولكن من الذي ينصحهم؟ أهم أصحاب الألسن الحادة والكلمات الجارحة من المتحمسين والمتشنجين...؟
أم ذلك الذي لا يرى الحق إلا ما كان على مثل ما هو عليه؟
أقول: إن الذين ينصحون هم أولئك الذين عرفوا الحق ورحموا الخلق، فكلماتهم بلسم على الجراح، يأتون بالعبارة التي يفوح منها الحنان والشفقة بالمنصوح لا يشعرونه بأنهم مترفعون عليه ولا شامتين به، إنهم العلماء الربانيون الذين لا يشهرون بالمنصوح بحجة النصح ولا يحرجونه بحجة التقويم ويضعون نصب أعينهم ما يلي:
الإخلاص لله تعالى في هذه النصيحة فإنها من جملة العبادات التي كلفنا بها ولا تقبل إلا إذا كانت خالصة لوجه الله تعالى قال عز وجل {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} [ البينة:5].
أن يكون القصد منها الإصلاح {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [ هود:88].
أن يكون القصد إظهار الحق حتى قال الإمام الشافعي (قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب) وقوله (ما ناظرت أحدا إلا سألت الله أن يظهر الحق على لساني أو على لسانه).
أن يكون مبتعدا عن كل ما يجعل المنصوح معاندا متماديا على الباطل متأسيا بذلك بسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام حيث كان إذا أراد النصح قال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا) (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله) .
أن يكون التركيز على الرأي أو المسألة لا على قائلها لقوله عليه الصلاة والسلام: ((ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله..)) الحديث، . مع معرفته عليه الصلاة والسلام بالذين اشترطوا تلك الشروط في قضية عتق بريرة، وفي الثلاثة النفر الذين سألوا عن أعماله فكأنهم تقالّوها، والسنة مليئة بمثل هذا.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
المبحث الثالث: خطر الطعن على العلماء, وشؤم الحط من أقدارهم
الجناية على العلماء خرق في الدين، فمن ثم قال الطحاوي في (عقيدته): (وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين – أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر – لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء، فهو على غير السبيل) .
قال ابن المبارك: (من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته) .
وقال أبو سنان الأسدي: (إذا كان طالب العلم قبل أن يتعلم مسألة في الدين يتعلم الوقيعة في الناس؛ متى يفلح؟!) .
وقال الإمام أحمد بن الأذرعي: (الوقيعة في أهل العلم ولا سيما أكابرهم من كبائر الذنوب) .
وعن جعفر بن سليمان قال: سمعت مالك بن دينار يقول:
(كفى بالمرء شراً أن لا يكون صالحاً، وهو يقع في الصالحين) .
والطاعنون في العلماء لا يضرون إلا أنفسهم، وهم يستجلبون لها بفعلتهم الشنيعة أخبث الأوصاف: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [ الحجرات: 11]. وهم من شرار عباد الله؛ بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن عبد الرحمن بن غنم يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت)) .
وهم مفسدون في الأرض، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [ يونس: 81].
وهم عرضة لحرب الله تعالى، القائل في الحديث القدسي: ((من عادى لي ولياً، فقد آذنته بالحرب)) .
وهم متعرضون لاستجابة دعوة العالم المظلوم عليهم، فدعوة المظلوم – ولو كان فاسقاً – ليس بينها وبين الله حجاب، فكيف بدعوة ولي الله الذي قال فيه: ((ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) .
قال الإمام الحافظ أبو العباس الحسن بن سفيان لمن أثقل عليه: (ما هذا؟! قد احتملتك وأنا ابن تسعين سنة، فاتق الله في المشايخ، فربما استجيبت فيك دعوة) .
ولما أنكر السلطان على الوزير نظام الملك صرف الأموال الكثيرة في جهة طلبة العلم، أجابه:
(أقمت لك بها جنداً لا ترد سهامهم بالأسحار)، فاستصوب فعله، وساعده عليه .
وقيل: إن أولاد يحيى – أي ابن خالد البرمكي – قالوا له وهم في القيود مسجونين: (يا أبة صرنا بعد العز إلى هذا؟!) قال: (يا بني دعوة مظلوم غفلنا عنها، لم يغفل الله عنها) .
وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة: مثل البغي، وقطيعة الرحم)) .

يا صاحب البغي إن البغي مصرعة
فاعدل فخير فعال المرء أعدله

فلو بغى جبل يوما على جبل
لاندك منه أعاليه وأسفله


وبما أن الجزاء من جنس العمل؛ فليبشر الطاعن في العلماء المستهزئ بهم؛ بعاقبة من جنس فعله:
فعن إبراهيم رحمه الله قال: (إني أجد نفسي تحدثني بالشيء، فما يمنعني أن أتكلم به إلا مخافة أن أبتلى به).
وقال عمرو بن شرحبيل: (لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحكت منه؛ لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً).
وقد حكي أن رجلاً كان يجرئ تلامذته على الطعن في العلماء وإهانتهم، وذات يوم تكلم بكلام لم يرق أحد تلامذته، فقام إليه فصفعه على رؤوس الأشهاد: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [ آل عمران: 182]، قال خالد بن زهير الهذلي:

فلا تجزعن من سنة أنت سرتها
فأول راض سنة من يسيرها

وليعلم أنه يخشى على من تلذذ بغيبة العلماء والقدح فيهم أن يبتلى بسوء الخاتمة عياذاً بالله منها، فهذا القاضي الفقيه الشافعي محمد بن عبد الله الزبيدي (ولد سنة عشر وسبعمائة) (شرح التنبيه في أربعة وعشرين مجلداً، درس وأفتى، وكثرت طلابه ببلاد اليمن، واشتهر ذكره، وبعد صيته، قال الجمال المصري: إنه شاهده عند وفاته وقد اندلع لسانه واسود، فكانوا يرون أن ذلك بسبب كثرة وقيعته في الشيخ محيي الدين النووي رحمهم الله جميعاً .

إن السعيد له في غيره عظة
وفي التجارب تحكيم ومعتبر

ثم الخائض في أعراض العلماء ظلماً وعدواً إن حمل عنه ذلك، واقتدى به فيه، فقد سن سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، والدال على الشر كفاعله، والسعيد من إذا مات ماتت معه سيئاته، قال تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [ يــس: 12].

وما من كاتب إلا سيلقى
غداة الحشر ما كتبت يداه

فلا تكتب بكفك غير شيء
يسرك في القيامة أن تراه

وروي عن الإمام أحمد أنه قال: (لحوم العلماء مسمومة، من شمها مرض، ومن أكلها مات) .
وعن مخلد قال: حدثنا بعض أصحابنا قال: ذكرت يوماً عند الحسن بن ذكوان رجلاً بشيء، فقال: (مه لا تذكر العلماء بشيء، فيميت الله قلبك).

لحوم أهل العلم مسمومة
ومن يعاديهم سريع الهلاك

فكن لأهل العلم عونا، وإن
عاديتهم يوما فخذ ما أتاك

قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى:
(واعلم يا أخي – وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته – أن لحوم العلماء – رحمة الله عليهم – مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمر عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاف على من اختاره الله منهم لِنَعش العلم خلق ذميم) .
وقال أيضاً رحمه الله: (.. ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب؛ ابتلاه الله تعالى قبل موته بموت القلب، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [ النــور: 63]) .
ومن مخاطر الطعن في العلماء:
التسبب إلى تعطيل الانتفاع بعلمهم:
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب الديك؛ لأنه يدعو إلى الصلاة فكيف يستبيح قوم إطلاق ألسنتهم في ورثة الأنبياء الداعين إلى الله عز وجل؟!
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [ فصلت: 33].
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (ما نحن لولا كلمات الفقهاء؟!).
وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: (الدنيا كلها ظلمة، إلا مجالس العلماء) .
وقال الإمام السخاوي رحمه الله: (إنما الناس بشيوخهم، فإذا ذهب الشيوخ فمع من العيش؟!) .
ومن شؤم الطعن في العلماء:
أن القدح بالحامل يفضي إلى القدم بما يحمله من الشرع والدين، ولهذا أطبق العلماء على أن من أسباب الإلحاد: (القدح في العلماء).
لما استهزأ رجل من المنافقين بالصحابة رضي الله عنهم، قائلاً: (ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء) أنزل الله عز وجل:{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [ التوبة: 65 - 66] .
ويقول العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله تعالى:
(بادرة ملعونة.. وهي تكفير الأئمة: النووي، وابن دقيق العيد، وابن حجر العسقلاني، أو الحط من أقدارهم، أو أنهم مبتدعة ضلال، كل هذا من عمل الشيطان، وباب ضلالة وإضلال، وفساد وإفساد، وإذا جرح شهود الشرع جرح المشهود به، لكن الأغرار لا يفقهون ولا يتثبتون) .
ومن شؤم تلويث الجو الدعوي بالطعن في العلماء، وتجريح الأخيار:
التسبب في انزواء بعض هؤلاء الأخيار، وابتعادهم عن ساحة التربية والتعليم والدعوة، صيانة لأعراضهم، وحفظاً لحياة قلوبهم؛ لأن القلوب الحرة يؤذيها التعكير:
(إن الحساسية تبلغ مداها لدى الداعية السوي، ونفسه تعاف كل جو خانق غير نقي، إن روحه لا تطيق الأجواء المغبرة وانعدام الأوكسجين، ومؤلمة هي لفحات التراب.. أسلوب في القتل هو الخنق، ونمط في الإرهاب الطائش هو العصف) .
(.. وإذا لم نتقيد بالضوابط في الممارسات الدعوية، فإن الأذواق ستفسد، ويكثر الصخب الذي يرهق الثقة المؤهل للتقدم، فينزوي حفاظاً على عرضه وسمعته، ولئلا يقسو قلبه عبر قيل وقال) .
فأقبح به من تعويق، وتثبيط، وتزهيد حذرنا منه العلامة الشيخ طاهر الجزائري (ت 1338هـ) وهو على فراش الموت بكلمات حقها أن تكتب بماء العيون لا بماء الذهب؛ إذ قال رحمه الله:
(عدوا رجالكم، واغفروا لهم بعض زلاتهم، وعضوا عليهم بالنواجذ لتستفيد الأمة منهم، ولا تنفروهم لئلا يزهدوا في خدمتكم) .
فإذا خلت الساحة من أهل العلم والتقى، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، يفتونهم بغير علم، وإذا أفتوهم بغير علم فلا تسأل عن الحرمات التي تستباح، والدم المعصوم الذي يهراق، والعرض الذي ينتهك، والمال الذي يهدر، ونظرة واحدة إلى الواقع الأليم في بعض بلاد المسلمين وما يقع فيها من مجازر ومذابح بأيدي الأدعياء الذين استبدوا برأيهم، وتأولوا بأهوائهم، وركبوا رؤوسهم، ولم يصغوا إلى نصائح العلماء؛ تنبئك عن مخاطر تغييب العلماء، وقطع الصلة بينهم وبين الشباب.
إن العلماء هم (عقول الأمة) والأمة التي لا تحترم عقولها غير جديرة بالبقاء..
قال الطحاوي: وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين أهل الخبر والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل.
هذه الجملة من هذه العقيدة المباركة قَرَّرَ فيها الطحاوي منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع أهل العلم من أهل الأثر وأهل الفقه.
فإنهم كما قال (لَا يُذْكَرُونَ إِلَّا بِالْجَمِيلِ) لأنَّهُم نَقَلَةْ الشريعة ولأنهم المُفتون في مسائل الشريعة، ولأنهم المُبَيِّنُون للناس معنى كلام الله عز وجل في كتابه ومعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين يدفعون عن الدين ويذبُّونَ عنه بتثبيت العقيدة الصحيحة وتثبيت سنة النبي صلى الله عليه وسلم ورد الموضوعات والأحاديث المنكرة والباطلة التي أضيفت للنبي صلى الله عليه وسلم.
فهم إذاً حُمَاةُ الشريعة الحماية العلمية، ولهذا كان العلماء ورَثَةَ الأنبياء؛ لأنَّ الأنبياء لم يُوَرِّثُوا دينارا ولا درهما وإنما وَرَّثُوا العلم، والذين حَمَى العلم هم الصحابة رضوان الله عليهم، وهم التابعون من علماء السلف وعلماء تابعي التابعين من أهل الحديث ومن أهل الفقه.
فهؤلاء منهج أهل السنة والجماعة أن يُذْكَرَ الجميع بالجميل، وأن لا نقع في عالمٍ من العلماء لا من أهل الحديث ولا من أهل الفقه، بل يُذْكَرُونَ بالجميل ولا يُذْكَرُونَ بسوء، وإنما يُرْجَى لهم فيما أخطؤوا فيه أنهم إنِّمَا اجتهدوا ورَجَوا الأجر والثواب والخطأ لا يُتَابَعُ عليه صاحبه.
وهذا الأصل ذكره الطحاوي في هذا المقام لأجل أنَّ طائفةً من غلاة أهل الحديث في ذاك الزمن كانوا يقعون في أهل الفقه، وطائفة من غلاة أهل الفقه كانوا يقعون في أهل الحديث ويصفونهم بالجمود.
وأهل السنة الذين تحققوا بالكتاب وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم وبهدي الصحابة يعلمون أنَّ الجميع مُحْسِنْ، وأنَّ هؤلاء وهؤلاء ما أرادوا إلا نصرة الشريعة والحفاظ على العلم والفقه.
نعم هم درجات في مقامهم وفي علمهم، لكنَّهُم لا يُذْكَرُونَ إلا بالجميل، والله - عز وجل - سَخَّرَ هؤلاء لشيء وسَخَّرْ هؤلاء لشيء، والوسط هو سِمَةُ أهل الاعتدال وسِمَةُ أهل السنة والجماعة كما كان عليه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والشافعي ومالك وأبي حنيفة وجماعات أهل العلم فإنهم كانوا على هذا السبيل.
ونذكر هاهنا مسائل:
المسألة الأولى:
أنَّ ذِكر العلماء بالجميل وعدم ذكرهم بأي سوءٍ أو قدح هذا امتثال لأمرين:
1- الأمر الأول: امتثال لقول الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[التوبة:71]، ولقوله: {يَرْفَع اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المجادلة:11]، ولقوله عز وجل: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء:83]، فَبَيَّنَ الله - عز وجل - منزلة أهل العلم وبَيَّنَ فضل العلم وفضل أهله وأنهم مرفُوعون عن سائر المؤمنين درجات لِمَا عندهم من العلم بالله عز وجل.
وبَيَّنَ أنَّ المؤمن للمؤمن مُوالي، أنَّ المؤمن يُوالي المؤمن، ومعنى هذه الموالاة في قوله {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[التوبة:71]، هي من الوَلَاية وهي المحبة والنُّصْرَة.
وهذه المحبة والنُّصْرَة عند أهل السنة والجماعة تتفاضل بتفاضل تحقق وصف الإيمان.
فالمؤمن يحب ويوالي المؤمن الآخر إذا كان كامل الإيمان أكثر من نُصْرَتِهِ ومحبته لمن كان دونه.
ومعلومٌ أنَّ العلماء هم الذين أثنى الله - عز وجل - عليهم وأثنى عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، فواجبٌ إذاً بنص الآية أن يُوَالَوا وأن يُذْكَرُوا بالجميل وأن يُحَبُّوا وأن يُنْصَرُوا وأن لا يُذْكَرُوا بغير الحَسَنِ والجميل.
2- الأمر الثاني: أنَّ القدح في أهل العلم فيما أخطؤوا فيه... يرجع في الحقيقة عند العامة إلى قَدْحٍ في حَمَلَةِ الشريعة ونَقَلَةِ الشريعة وبالتالي فيضعف في النفوس محبة الشّرع؛ لأنَّ أهل العلم حينئذٍ في النفوس ليسوا على مقامٍ رفيع وليسوا على منزلةٍ رفيعة في النفوس.
فحينئذ يُشَكْ فيما ينقلونه من الدين وفيما يحفظون به الشريعة، فتؤول الأمور حينئذ إلى الأهواء والآراء فلا يكون ثَمَّ مرجعية إلى أهل العلم فيما أشكل على الناس فَتَتَفَصَّمْ عرى الإيمان....
لهذا كان ذِكْرُ العلماء بسوء هو من جنس ذكر الصحابة بسوء، ولهذا أتْبَعَ الطحاوي ذكر الصحابة بذكر العلماء، يعني لمَّا فَرَغَ من ذِكْرِ الصحابة ذَكَرَ العلماء؛ لأنَّ القدح في الصحابة والقدح في العلماء منشؤه واحد ونهايته واحدة، فإنَّ القدح في الصحابة طعنٌ في الدين، والقدح في العلماء المستقيمين، العلماء الربانيين فيما أخطؤوا فيه أو فيما اجتهدوا فيه هذا أيضاً يرجع إلى القدح في الدين، فالباب بابٌ واحد.
الباب الثاني: الإمامة
تمهيد
الإمامة هل هي من مواضيع العقيدة أم من مواضيع الفقه؟
الحق أن لها جوانب عقدية، ولها جوانب فقهية، كما أن لها جوانب تاريخية، ولذلك فعلماء السلف رحمهم الله عند ذكرهم لعقائدهم يذكرون ذلك، فلا نكاد نجد أحدًا ذكر عقيدته إلا وينص على التربيع بالخلفاء الأربعة وأن ترتيبهم في الخلافة على ترتيبهم في الفضل، كما ينصون على أن الإمامة في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبَّه الله في النار، وينصون على الصلاة خلف كل إمام بر أو فاجر والجهاد والحج معه، وعلى تحريم الخروج على الأئمة، وعلى السمع والطاعة لهم في غير معصية، وهذه كلها من مباحث الإمامة، ولذلك نجد المتكلمين ينصون على باب الإمامة في أواخر كتبهم في العقيدة.
كما أنهم يوردون ذلك في مسائل العقيدة للرد على الانحرافات والبدع التي نشأت حول هذا الموضوع، كبدعة الروافض، واعتقاداتهم الفاسدة في الإمامة، وأنها من أركان الدين، واعتقاد العصمة، والرجعة، وعلم الغيب ونحو ذلك في أئمتهم، فيذكرها علماء السلف للرد عليهم، ولتبيين مخالفتهم في ذلك، ومع بدعة الروافض بدعة الخوارج في وجوب الخروج على الأئمة الفسقة ونحو ذلك.
وكذلك مما يجعلها من المسائل المتعلقة بالعقيدة في العصر الحاضر هو إنكار بعض المنتسبين للدين أنها من الدين، وهذه من أخطر المسائل الفكرية المعاصرة
الفصل الأول: تعريف الإمامة
المبحث الأول: تعريف الإمامة لغةً
الإمامة في اللغة مصدر من الفعل (أمَّ) تقول: (أمَّهم وأمَّ بهم: تقدمهم، وهي الإمامة، والإمام: كل ما ائتم به من رئيس أو غيره) .
ويقول ابن منظور: (الإمام كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين.. والجمع: أئمة، وإمام كل شيء قيَّمه والمصلح له، والقرآن إمام المسلمين، وسيدنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمام الأئمة، والخليفة إمام الرعية، وأممت القوم في الصلاة إمامة، وائتُم به: اقتدي به.
والإمام: المثال، وإمام الغلام في المكتب ما يتعلمه كل يوم، وإمام المثال ما امتثل عليه، والإمام: الخيط الذي يُمَدُّ على البناء فيبنى عليه ويسوى عليه ساف البناء..) اهـ .
وقال صاحب (تاج العروس): (والإمام: الطريق الواسع، وبه فُسِّر قوله تعالى: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} [سورة الحجر: 79] أي: بطريق يُؤم، أي: يقصد فيتميز) قال: (والخليفة إمام الرعية، قال أبو بكر: يقال فلان إمام القوم معناه: هو المتقدم عليهم، ويكون الإمام رئيسًا كقولك: إمام المسلمين)، قال: (والدليل: إمام السفر، والحادي: إمام الإبل، وإن كان وراءها لأنه الهادي لها..) اهـ .
وقال الجوهري في (الصحاح): (الأمُّ بالفتح القصد، يقال: أَمّه وأممه وتأممه إذا قصده) . إلى غير ذلك من المعاني المقاربة.
ومن جميع ما سبق نلاحظ تقارب مدلول هذه الألفاظ عند أصحاب اللغة.
المبحث الثاني: تعريف الإمامة اصطلاحاً
أما من حيث الاصطلاح: فقد عرفها العلماء بعدة تعريفات، وهي وإن اختلفت في الألفاظ فهي متقاربة في المعاني، ومن هذه التعريفات ما يلي:
(1) ما ذكره الماوردي حيث قال: (الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به) اهـ .
(2) ويقول إمام الحرمين الجويني: (الإمامة رياسة تامة، وزعامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا) اهـ .
(3) وعرفها النسفي في عقائده بقوله: (نيابة عن الرسول عليه السلام في إقامة الدين بحيث يجب على كافة الأمم الاتباع) .
(4) ويقول صاحب (المواقف): (هي خلافة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إقامة الدين بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة) .
5) أما العلامة ابن خلدون فيعرفها بقوله: (هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به) أهـ .
(6) ويقول الأستاذ محمد نجيب المطيعي: (المراد بها - أي الإمامة- الرئاسة العامة في شؤون الدنيا والدين) .
إلى غير ذلك من التعريفات التي تدور حول هذه المعاني.
المبحث الثالث: لفظ (الإمام) في الكتاب والسنة
هذا وقد ورد لفظ (الإمام) في القرآن الكريم بصيغة الإفراد في عدة مواضع منها قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [ البقرة: 124]. والمعنى: (أني مُصَيِّرُك للناس إمامًا يؤتم به، ويقتدى به) .
كما ورد في قوله تعالى حكاية عن دعاء المؤمنين: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان: 74] أي: (أئمة يقتدي بنا من بعدنا) وقال البخاري: (أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا) .
وورد اللفظ بصيغة الجمع في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [ الأنبياء: 73]. أي: (أئمة يؤتم بهم في الخير في طاعة الله في اتباع أمره ونهيه، ويقتدى بهم، ويتبعون عليه) .
وفي قوله تعالى: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] أي: ولاة وملوكًا .
كما ورد اللفظ بمعنى: من يؤتم بهم في الشر. فقال تعالى: {فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: 12] أي: (رؤساء الكفر بالله) وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ} [القصص: 41] أي: (جعلنا فرعون وقومه أئمة يأتم بهم أهل العتو على الله والكفر به) . لكن إذا أطلق لفظ (الإمام) فإنه لا ينصرف إلى أئمة الباطل، لأنه ورد ذكرهم في القرآن بهذه الكلمة مقيدة. كما في هذه الآيات.
وورد اللفظ أيضًا في مواطن كثيرة من الحديث النبوي الشريف منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإمام الأعظم الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته..)) الحديث . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الأئمة من قريش)) . والمراد: الحاكم أو الخليفة.
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة.
وهكذا أخذت الإمامة معناً اصطلاحيًا إسلاميًا، فقصد بالإمام: خليفة المسلمين وحاكمهم، وتوصف الإمامة أحيانًا بالإمامة العظمى أو الكبرى تمييزًا لها عن الإمامة في الصلاة، على أن الإمامة إذا أطلقت فإنها توجه إلى الإمامة الكبرى أو العامة، كما أوضح ذلك ابن حزم رحمه الله .
المبحث الرابع: الترادف بين ألفاظ: الإمام والخليفة وأمير المؤمنين
والذي يبدو من استعراض الأحاديث الواردة في باب الخلافة والإمامة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين الذين رووها لم يفرقوا بين لفظ خليفة وإمام، ومن بعد تولية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أضافوا إليها لفظ: أمير المؤمنين - وإلى ذلك ذهب العلماء فجعلوها من الكلمات المترادفة المؤدية إلى معنى واحد فيقول النووي: (يجوز أن يقال للإمام: الخليفة، والإمام، وأمير المؤمنين) .
ويقول ابن خلدون: (وإذ قد بيَّنَّا حقيقة هذا المنصب وأنه نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا به تسمى خلافة وإمامة والقائم به خليفة وإمام) اهـ. ، ويعرف ابن منظور الخلافة بأنها الإمارة .
وإلى ذلك ذهب الأستاذ محمد نجيب المطيعي في تكملته (للمجموع) للنووي حيث قال: (الإمامة والخلافة وإمرة المؤمنين مترادفة) وكذلك الأستاذ محمد رشيد رضا ، ويفسر الشيخ أبو زهرة الترادف بين لفظي الخلافة والإمامة بقوله: (المذاهب السياسية كلها تدور حول الخلافة وهي الإمامة الكبرى، وسميت خلافة لأن الذي يتولاها ويكون الحاكم الأعظم للمسلمين يخلف النبي -صلى الله عليه وسلم - في إدارة شؤونهم، وتسمى إمامة: لأن الخليفة كان يسمى إمامًا، ولأن طاعته واجبة، ولأن الناس كانوا يسيرون وراءه كما يصلون وراء من يؤمهم الصلاة) أي يأتمون به، وقد كان الخلفاء هم الذين يتولون إمامة الصلاة خاصة الجمع والأعياد لكن لما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وضعفت الناحية العلمية عند الخلفاء، أخذوا ينيبون عنهم من يقومون مقامهم في إمامة الصلاة، وخطب الجمع والأعياد.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
كما يفسر الأستاذ محمد المبارك رحمه الله سبب اختيار هذه الألفاظ (الإمام، والخليفة، وأمير المؤمنين) بأنه: ابتعاد بالمفهوم الإسلامي للدولة ورياستها عن النظام الملكي بمفهومه القديم عند الأمم الأخرى من الفرس والرومان المختلف اختلافًا أساسيًا عن المفهوم الإسلامي الجديد) .
هذا وقد كان الخلفاء الأُوَّل يلقبون بالخلفاء كما يلقبون بالأئمة، ومنذ خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه استعمل المسلمون لقب (أمير المؤمنين) فيذكر ابن سعد في طبقاته: أنه لما مات أبو بكر رضي الله تعالى عنه وكان يُدْعَى خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيل لعمر: خليفة خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال المسلمون: من جاء بعد عمر قيل له: خليفة خليفة خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيطول هذا، ولكن اجتمعوا على اسم تدعون به الخليفة، يدعى به من بعده من الخلفاء، قال بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نحن المؤمنون وعمر أميرنا، فدعي عمر (أمير المؤمنين) فهو أول من سمي بذلك .
وروي أن لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم رضي الله عنهما لما قدما من المدينة، قالا لعمرو بن العاص: استأذن لنا يا عمرو أمير المؤمنين، فقال: أنتما والله أصبتما اسمه، فهو الأمير ونحن المؤمنون، فدخل عمرو على عمر فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: ما هذا؟ فقال: أنت الأمير، ونحن المؤمنون، فجرى الكتاب من يومئذ . وقيل في سببها غير ذلك
أما لفظ الأمير بإطلاق فقد كان مستعملاً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن لم يكن مقصورًا على الخليفة، وإنما يسمى به أمراء الجيوش والأقاليم والمدن ونحو ذلك، وقد ورد في الحديث: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)) .
الفصل الثاني: وجوب الإمامة
تمهيد
يقول الإمام ابن حزم: (اتفق جميع أهل السنة، وجميع المرجئة، وجميع الشيعة، وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل، يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاشا النجدات من الخوارج فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمامة، وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم). اهـ .
وقال القرطبي: (ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة، إلا ما روي عن الأصم، حيث كان عن الشريعة أصم. وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه) .
والموجبون لها منهم من يرى وجوبها عن طريق الشرع، وهم أهل السنة والجماعة وأكثر المعتزلة ، ومنهم من يوجبها عقلاً، والموجبون لها عقلاً منهم من يوجبها على الله تعالى - تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا - وهم الشيعة، ومنهم من يوجبها على الناس. وهم المعتزلة البغداديون ، والجاحظ من معتزلة البصرة .
مبحث: الأدلة على وجوب الإمامة
المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم
1- قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59]، أورد الطبري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن أولي الأمر هم الأمراء) ثم قال الطبري: (أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الأمراء والولاة فيما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة) وقال ابن كثير: (الظاهر - والله أعلم أن الآية عامة في جميع أولي الأمر من الأمراء والعلماء) وهذا هو الراجح.
ووجه الاستدلال من هذه الآية: أن الله سبحانه أوجب على المسلمين طاعة أولي الأمر منهم وهم الأئمة، والأمر بالطاعة دليل على وجوب نصب ولي الأمر، لأن الله تعالى لا يأمر بطاعة من لا وجود له، ولا يفرض طاعة من وجوده مندوب، فالأمر بطاعته يقتضي الأمر بإيجاده، فدل على أن إيجاد إمام للمسلمين واجب عليهم.
2- ومن الأدلة أيضًا قول الله تعالى مخاطبًا الرسول - صلى الله عليه وسلم -: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ...} [المائدة: 83]، وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49].
فهذا الأمر من الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يحكم بين المسلمين بما أنزل الله - أي بشرعه -، وخطاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - خطاب لأمته ما لم يرد دليل يخصصه به، وهنا لم يرد دليل على التخصيص، فيكون خطابًا للمسلمين جميعًا بإقامة الحكم بما أنزل الله إلى يوم القيامة، ولا يعني إقامة الحكم والسلطان إلا إقامة الإمامة، لأن ذلك من وظائفها ولا يمكن القيام به على الوجه الأكمل إلا عن طريقها، فتكون جميع الآيات الآمرة بالحكم بما أنزل الله دليلاً على وجوب نصب إمام يتولى ذلك.. والله أعلم.
3- ومن الأدلة أيضًا قول الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].
فمهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام ومن أتى بعدهم من أتباعهم أن يقيموا العدل بين الناس على وفق ما في الكتاب المنزل، وأن ينصروا ذلك بالقوة، وهذا لا يأتي لأتباع الرسل إلا بتنصيب إمام يقيم فيهم العدل، وينظم جيوشهم المناصرة، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فالدين الحق لا بد فيه من الكتاب الهادي والسيف الناصر.. فالكتاب يبين ما أمر الله به وما نهى عنه، والسيف ينصر ذلك ويؤيده) اهـ .
4- ومن الأدلة القرآنية أيضًا جميع آيات الحدود والقصاص ونحوها من الأحكام التي يلزم القيام بها وجود الإمام.
وآيات وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوها من الآيات، فالواقع أن جميع الآيات القرآنية التي نزلت بتشريع حكم من الأحكام التي تتعلق بموضوع الإمامة وشؤونها جاءت على أساس أن قيام الإمامة الشرعية والقيادة العامة في المجتمع الشرعي شيء مفروغ من إثباته ولا نقاش في لزومه، ذلك لأن الأحكام المشار إليها من الأمور التي يتوقف امتثالها وتنفيذها على وجود الإمام لأنها من مسؤولياته ووظائفه، فتشريع مثل هذه الأحكام يلزمه مسبقًا المفروغية من تشريع حكم لزوم الإمامة وقيام الدولة الإسلامية في المجتمع المسلم، وهذا ينهينا إلى أن لزوم الإمامة وإقامة الدولة في المجتمع الإسلامي من بدهيات وضروريات الشريعة الإسلامية.
المطلب الثاني: الأدلة من السنة
أ- الأدلة من السنة القولية:
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة فيها دلالة على وجوب نصب الإمام، ومن هذه الأدلة ما يلي:
1- ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) أي: بيعة الإمام، وهذا واضح الدلالة على وجوب نصب الإمام لأنه إذا كانت البيعة واجبة في عنق المسلم، والبيعة لا تكون إلا لإمام، فنصب الإمام واجب.
2- ومنها ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)) . ومثله عن أبي هريرة، وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمّروا أحدهم)) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإذا كان قد أوجب في أقلِّ الجماعات وأقصر الاجتماعات، أن يولى أحدهم، كان هذا تشبيهًا على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك) اهـ .
3- ومنها الحديث الذي رواه أبو أمامة الباهلي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لينقضن عرى الإسلام عروة، عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضًا الحكم، وآخرهن الصلاة)) . قال الأستاذ عبد الكريم زيدان (والمقصود بالحكم: الحكم على النهج الإسلامي، ويدخل فيه بالضرورة وجود الخليفة الذي يقوم بهذا الحكم، ونقضه يعني التخلي عنه وعدم الالتزام به، وقد قرن بنقض الصلاة وهي واجبة، فدلّ على وجوبه) .
4- ومنها أيضًا الحديث المشهور في السنن عن العرباض بن سارية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال - من حديث طويل – ((إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)) .
وقد تواتر عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم بايعوا أبا بكر رضي الله عنه بالخلافة بعد لحاق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى، ثم استخلف أبو بكر عمر رضي الله تعالى عنهما، ثم استخلف عمر أحد الستة الذين اختاروا عثمان رضي الله عنه، ثم بعد استشهاده بايعوا عليًا بالخلافة، فهذه سنتهم رضي الله عنهم في الخلافة، وعدم التهاون في منصبها، فوجب الاقتداء بهم في ذلك بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على وجوب طاعة الحكام فيما لا معصية فيه، وأحاديث البيعة، والأمر بالوفاء بها للأول فالأول، وحرمة الخروج على أئمة المسلمين، والحث على ضرب عنق من جاء ينازع الإمام الحق، ... كل هذه الأحاديث تقتضي وجود الإمام المسلم، فدلّ ذلك على وجوب نصبه. والله أعلم.
ب - من السنة الفعلية:
إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقام أول حكومة إسلامية في المدينة، وصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول إمام لتلك الحكومة، فبعد أن هيأ الله لهذا الدين من ينصره ورسوله بدأ - صلى الله عليه وسلم - في تشييد أركانها، فأصلح ما بين الأوس والخزرج من مشاكل وحروب طاحنة قديمة، ثم آخى بين الأنصار والمهاجرين، ونظم الجيوش المجاهدة لنشر هذا الدين والذود عن حماه، وقد أرسل الرسل والدعوات إلى ملوك الدول المجاورة يدعوهم إلى الإسلام، وعقد الاتفاقات والمعاهدات مع اليهود وغيرهم، وأبان أحكام الأسرى وما يتعلق بهم، وأحكام الحرب وأهل الذمة، وقام بتدبير بيت مال المسلمين وتوزيعه كما أمر الله عز وجل، وعيَّن الأمراء والقضاة لتدبير شؤون المسلمين، وأقام الحدود الشرعية والعقوبات.. إلى غير ذلك من مظاهر الدولة ووظائف الإمامة. يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: (ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا، وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة) .
ومن المعلوم أن قيام هذه الدولة وزعامته - صلى الله عليه وسلم - لها لم يكن هدفًا له في حد ذاته، وإنما هو من مستلزمات هذا الدين الذي لا يتم إلا به، كيف وقد عرضت عليه قريش من أول وهلة الملك عليها من دون تعب ولا جهاد، وإنما بترك سبِّ آلهتهم، فرفض ذلك رفضًا باتًا .
وإنما كان هدفه الوحيد - صلى الله عليه وسلم - القيام بتبليغ هذه الرسالة وحملها إلى الناس، واتخاذ كافة الوسائل المؤدية إلى ذلك، ومن هذه الوسائل قيام الدولة الإسلامية، فهي واجبة لهذا الغرض، ولأنها من مستلزمات هذا الدين...
فالمقصود أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تولية زعامة الدولة الإسلامية الأولى دليل على وجوب الإمامة، حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مبينًا للأحكام الشرعية بقوله وفعله وإقراره، وفعله - صلى الله عليه وسلم - يقتضي الوجوب إذا لم يكن مختصًا به - صلى الله عليه وسلم - ولا جبلِّيا ولا مترددًا بين الجبلي وغيره، ولا بيانًا لمجمل كقطع يد السارق ونحوه لقوله تعالى: {فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [ الأعراف: 158.]، ولقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا...} [الحشر: 7] ولقوله عز من قائل كريمًا {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً...} [الأحزاب: 63] قال ابن النجار: (فلولا الوجوب لما رفع تزويجه الحرج عن المؤمنين في أزواج أدعيائهم) .
المطلب الثالث: الإجماع
ومن أهم الأدلة الدالة على وجوب الإمامة الإجماع على ذلك من قبل الأمة، وأول ذلك إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على تعيين خليفة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته، بل حتى قبل دفنه وتجهيزه .
وقد ورد في ذلك عدة روايات منها ما رواه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله تعالى عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات، وأبو بكر بالسنح قال إسماعيل - يعني بالعالية - فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنَّه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبَّله فقال: بأبي أنت وأمي طبت حيًّا وميّتًا، والذي نفسي بيده، لا يذيقنك الله الموتتين أبدًا، ثم خرج فقال: أيُّها الحالف على رسلك. فلمَّا تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فإن محمدًا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حيُّ لا يموت وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [ الزمر: 30 ]، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] قال: فشنج الناس يبكون، قال: واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، فذهب عمر يتكلم، فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلامًا قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر ثم تكلم أبو بكر، فتكلم أبلغ الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال حُباب بن المنذر: والله لا نفعل منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا، ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب دارًا وأعربهم أنسابًا، فبايعوا عمر وأبا عبيدة، فقال عمر: بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا وأحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس) . وبهذا يتبين أنه قد ثبت أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بمجرد أن بلغهم نبأ وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بادروا إلى عقد اجتماع السقيفة الذي ضم كبار المهاجرين والأنصار، وتركوا أهم الأمور لديهم ذلك الوقت وهو تجهيز الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتشييعه، ويقول الهيتمي: (اعلم أيضًا أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على أن نصب الإمام بعد انقراض زمن النبوة واجب، بل جعلوه أهم الواجبات حيث اشتغلوا به عن دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) .
وقد نقل هذا الإجماع طائفة من العلماء، منهم الماوردي حيث قال:
(وعقدها - أي الإمامة - لمن يقوم بها واجب بالإجماع، وإن شّذ عنهم الأصم) . ويقول النووي: (وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة..) ويقول ابن خلدون: (نصب الإمام واجب، وقد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين، لأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه، وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر من الأعصار، واستقر ذلك إجماعًا دالاً على وجوب نصب الإمام) اهـ ...
المطلب الرابع: القاعدة الشرعية (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)
ومن الأدلة على وجوب الإمامة القاعدة الشرعية القائلة بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد علم أن الله سبحانه وتعالى أمر بأمور ليس في مقدور آحاد الناس القيام بها، ومن هذه الأمور إقامة الحدود وتجهيز الجيوش المجاهدة لنشر الإسلام، وإعلاء كلمة الله، وجباية الزكاة وصرفها في مصارفها المحددة، وسد الثغور وحفظ حوزة المسلمين، ونشر العدل ودفع الظلم، وقطع المنازعات الواقعة بين العباد.. إلى غير ذلك من الواجبات التي لا يستطيع أفراد الناس القيام بها، وإنما لا بد من إيجاد السلطة وقوةٌ لها حق الطاعة على الأفراد، تقوم بتنفيذ هذه الواجبات، وهذه السلطة هي الإمامة.
فبناء على ذلك يجب تعيين إمام يخضع له ويطاع، ويكون له حق التصرف في تدبير الأمور حتى يتأتى له القيام بهذه الواجبات، وفي هذا يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: (لا بد للناس من إمارة بَرَّة كانت أو فاجرة) قالوا: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ قال: (يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض) ويقول معللاً ذلك: (لأن الله أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة) .
ويقول ابن حزم: (وقد علمنا بضرورة العقل وبديهته أن قيام الناس بما أوجبه الله من الأحكام عليهم في الأموال، والجنايات، والدماء، والنكاح، والطلاق، وسائر الأحكام كلها، ومنع الظالم، وإنصاف المظلوم، وأخذ القصاص على تباعد أقطارهم وشواغلهم، واختلاف آرائهم، وامتناع من تحرى في كل ذلك ممتنع غير ممكن..) إلى أن قال: (... وهذا الذي لا بد منه ضرورة، وهذا مشاهد في البلاد التي لا رئيس لها، فإنه لا يقام هناك حكم حق، ولا حدّ حتى قد ذهب الدين في أكثرها، فلا تصح إقامة الدين إلا بالإسناد إلى واحد أو أكثر...) .
المطلب الخامس: دفع أضرار الفوضى
كما أن من الأدلة على وجوب الإمامة دفع أضرار الفوضى، لأن في عدم اتخاذ إمام معين من الأضرار والفوضى ما لا يعلمه إلا الله، ودفع الضرر وحماية الضروريات الخمس - الدين، والنفس، والعرض، والمال، والعقل - واجب شرعًا، ومن مقاصد الشريعة حفظها. وهذا لا يتم إلا بإقامة إمام للمسلمين، فدل على وجوبه، قال الإمام أحمد رحمه الله في رواية محمد بن عوف بن سفيان الحمصي: (الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس) .
ويقول ابن المبارك رحمه الله:

إن الجماعة حبل الله فاعتصموا
بعروته الوثقى لمن دانا

كم يدفع الله بالسلطان مظلمة
في ديننا رحمة منه ودنيانا

لولا الخليفة لم تأمن لنا سبل
وكان أضعفنا نهبًا لأقوانا


... وخير دليل على ذلك: الواقع المرير الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم، ففيه دلالة قاطعة على أنه لن تقوم للإسلام قائمة إلا بالرجوع إلى الله، ثم السعي إلى إقامة الخلافة الإسلامية التي ما فتئ أعداء الإسلام ينخرون في جنباتها حتى قوضوها، وصار لهم ما أرادوا فبعد أن أُبعدت الخلافة الإسلامية، ونُحي الإسلام عن قيادة الأمة، عُطلت الحدود، وانتهكت الأعراض والحرمات، وعطلت راية الجهاد، وقسمت بلاد المسلمين إلى دويلات متناحرة يضرب بعضها رقاب بعض. وسلبت خيرات المسلمين من أراضيهم، وتكالبت عليهم الأمم الكافرة من كل حدب وصوب (وما الذل الذي يخيم على المسلمين فيجعلهم يعيشون على هامش العالم، وفي ذيل الأمم ومؤخرة التاريخ، إلا قعود المسلمين عن العمل لإقامة الخلافة وعدم مبادرتهم إلى نصب خليفة لهم التزامًا بالحكم الشرعي الذي أصبح معلومًا من الدين بالضرورة كالصلاة والصوم والحج، فالقعود عن العمل لاستئناف الحياة الإسلامية معصية من أكبر المعاصي، لذلك كان نصب خليفة لهذه الأمة فرضًا لازمًا لتطبيق الأحكام على المسلمين، وحمل الدعوة الإسلامية إلى جميع أنحاء العالم) . لذلك فلا خلاص لهذه الأمة مما هي فيه اليوم من الذل والهوان إلا بالإنابة إلى الله، ثم إقامة حكم الله على هذه الأرض وفق ما ارتضى لها ربها عز وجل
الفصل الثالث: شروط الإمام
المبحث الأول: الإسلام
وهذا شرط واجب في كل ولاية إسلامية صغيرة كانت أو كبيرة ومن باب أولى اشتراطها في الولاية العظمى، والأدلة على هذا الشرط كثيرة منها:
أ- قول الله عز وجل: {وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [ النساء: 141] أي: بأن يسلطوا عليهم في الدنيا ، ومعلوم أن الولاية العظمى هي أعظم سبيل وأقوى تسليط على المحكوم.
ب- ومنها الآيات الدالة على النهي عن تولي الكفار كقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} [ النساء: 144] ومنها قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً...} [آل عمران: 28] إلى غير ذلك من الآيات الناهية عن تولي الكفار وتوليتهم نوع من التولي المنهي عنه، لذا لا يجوز توليتهم على شيء من أمور المسلمين، ...
جـ- ومن أدلة اشتراط الإسلام في الإمام قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ...} [النساء: 59] فقوله تعالى {مِنكُمْ} نصٌّ على اشتراط أن يكون ولي الأمر من المسلمين، ... ومعلوم أن الكافر لا تجب طاعته في شيء أبدًا، بل تجب محاربته ومقاتلته بنص القرآن حتى يسلم أو يعطي الجزية عن يد وهو صاغر إن كان من أهلها.
د- ومن الأدلة على ذلك أيضًا ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنا لا نستعين بمشرك)) وفي رواية: ((ارجع فلن أستعين بمشرك)) للذي تبعه يوم بدر وأراد أن يغزو معه وهو على شركه فإذا ورد النهي عن الاستعانة بالكافر في بعض الأمور فكيف يستعان به على تدبير أمور المسلمين ويولى أمرهم!
ولقد امتثل لهذا الأمر خلفاء المسلمين، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يعاتب أبا موسى الأشعري على اتخاذ كاتب نصراني فقد قال عبد الله بن أحمد: حدثنا أبي ... عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: قلت لعمر رضي الله عنه: إن لي كاتبًا نصرانيًا قال: مالك؟ قاتلك الله. أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ...} [المائدة: 51] ألا اتخذت حنيفيًا، قال: قلت: يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه. قال: (لا أُكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أُدنيهم إذ أقصاهم الله). وقال عمر رضي الله عنه أيضًا: (لا تؤمِّنوهم وقد خوَّنهم الله، ولا تُقرِّبوهم وقد أبعدهم الله، ولا تُعزُّوهم وقد أذلهم الله) ، ودرج على ذلك الخلفاء الذين لهم ثناء حسن في الأمة كعمر بن عبد العزيز والمنصور والرشيد والمهدي والمتوكل والمقتدر وغيرهم .
جـ- الإجماع على ذلك:
أجمع المسلمون على عدم جواز تولية الكفار تدبير أمور المسلمين، وأنه لا ولاية لكافر على مسلم، وقد حكى هذا الإجماع كثير من أهل العلم منهم: ابن المنذر حيث قال: (أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن الكافر لا ولاية له على مسلم بحال) وقال القاضي عياض: (أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل. قال: وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها) .
وبناء على هذا فلا يجوز أن تعقد الإمامة لكافر أصلي أو مرتد، لأن معنى إقامة دولة إسلامية هو أن تلتزم بالمنهج الإسلامي تطبقه وتعيش حياتها على وفق تعاليمه، وهذا المنهج الإسلامي لا يتصور تطبيقه إلا من أناس يدينون بالولاء والخضوع التام لمشِّرع هذا المنهج،
المبحث الثاني: البلوغ
وهذا من الشروط البديهية واللازمة في كل ولاية إسلامية صغيرة كانت أو كبيرة، فلا تنعقد إمامة الصبي لأنه مولى عليه في أموره وموكل به غيره، فكيف يجوز أن يكون ناظرًا في أمور الأمة، قال تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [النساء:5] والمراد بالسفهاء هنا: (الصغار والنساء) فإذا نهينا عن إعطائهم أموالهم لأنهم لا يحسنون التصرف فمن باب أولى أن لا يقلَّدوا تدبير أمور المسلمين، ولأن الصغير غير مكلف لما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن القلم رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ)) فمن رُفع عنه القلم لا يصح تصرفه في الأمور لأنه غير مكلف شرعًا فما دام لا يملك التصرف في خاصة نفسه فلا يجوز شرعًا أن يكون مالكًا للتصرف في جميع شؤون المسلمين، ومن لا يلي أمر نفسه لا يلي أمر المسلمين من باب أولى.
1) ما كان عارضًا مرجوًا زواله كالإغماء فهذا قال عنه أبو يعلى: (لا يمنع عقدها ولا استدامتها لأنه مرض قليل اللبث، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغمي عليه في مرضه) .
(2) ما كان لازمًا لا يرجى زواله كالجنون والخبل، وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ- ما كان مطبقًا لا يتخلله إفاقة فهذا يمنع الابتداء والاستدامة، وإذا طرأ عليه أبطلها لأنه يمنع مقصود الولاية.
ب- ما كان أكثر زمانه الخبل فهذا كما كان مطبقًا.
جـ - ما كان أكثر زمانه الإفاقة فهذا يمنع من عقد الإمامة واختلف في منعه من استدامتها.
هذا ولا يكتفى في رئيس الدولة أن يكون عاقلاً فقط، بل لا بد أن يكون على درجة عالية من الذكاء والفطنة تمكّنه من التفكير في قضايا الأمة وإيجاد الحلول المناسبة لها.
المبحث الثالث: الحرية
وهذا الشرط أيضًا من الشروط الضرورية في الإمامة لأن المملوك لا يحق له التصرف في شيء إلا بإذن سيده، فلا ولاية له على نفسه، فكيف تكون له الولاية على غيره، ويعلل الغزالي هذا الشرط بقوله: (فلا تنعقد الإمامة لرقيق، فإن منصب الإمامة يستدعي استغراق الأوقات في مهمات الخلق فكيف ينتدب لها من هو كالمفقود في حق نفسه الموجود لمالك يتصرف تحت تدبيره وتسخيره، كيف وفي اشتراط نسب قريش ما يتضمن هذا الشرط، إذ ليس يتصور الرق في نسب قريش بحال من الأحوال) .
هذا وقد نقل ابن بطال عن المهلب الإجماع على ذلك فقال: (وأجمعت الأمة على أنها - أي الإمامة - لا تكون في العبيد) . وقال الشنقيطي: (لا خلاف في هذا بين العلماء) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا الخوارج، فإنهم جوزوا أن يكون الإمام عبدًا وشذوذ الخوارج لا يعده العلماء قادحًا في صحة الإجماع.
فإن قيل: ورد في الصحيح ما يدل على إمامة العبد فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) . ونحوه عن العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه في الحديث الطويل: قال: ((وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقام رجل فقال: إن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: أوصيكم بتقوى الله... والسمع والطاعة وإن عبد حبشي...)) الحديث . وما في معناهما.
فالجواب على ذلك من أوجه:
(1) أنه قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود عادة، فإطلاق العبد الحبشي لأجل المبالغة في الأمر بالطاعة، وإن كان لا يتصور شرعًا أن يلي ذلك، ذكر ابن حجر هذا الجواب عن الخطابي ، ويشبه هذا الوجه قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81] على أحد التفسيرات .
(2) أن المراد باستعمال العبد الحبشي أن يكون مأمورًا من وجهه الإمام الأعظم على بعض البلاد، قال الشنقيطي رحمه الله: (وهو أظهرها) فليس هو الإمام الأعظم.
(3) أن يكون أطلق عليه اسم العبد نظرًا لاتصافه بذلك سابقًا مع أنه وقت التولية حر، ونظيره إطلاق لفظ اليتيم على البالغ باعتبار اتصافه به سابقًا في قوله: {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ...} [النساء: 2].
(4) أو أن المراد بذلك المتغلِّب لا المختار، ففي هذه الحالة تجب طاعته وإن كان عبدًا حبشيًا، ولا يجوز الخروج عليه لمجرد عبوديته، ويؤيد هذا الرأي لفظ: ((إن تأمر عليكم...)) فلفظ ((تأمر)) يدل على أنه تسلط على الإمارة بنفسه ولم يؤمر من قبل أهل الحل والعقد.
والراجح من هذه الإجابات في نظري هو الجواب الثاني، وهو الذي رجحه الشنقيطي رحمه الله، وسبب الترجيح هو ورود بعض الأحاديث الدالة على ذلك، منها ما أخرجه الحاكم من حديث علي رضي الله عنه
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الأئمة من قريش، أبرارها أمراء أبرارها وفجارها أمراء فجارها، ولكل حق، فآتوا كل ذي حق حقه، وإن أمرت قريش فيكم عبدًا حبشيًا مجدعًا فاسمعوا له وأطيعوا)) . ويعضد هذا الرأي أيضًا ألفاظ الحديث: ((وإن استعمل)), ((وإن أُمِّر)) ونحوها... والله أعلم.
ومما يدل على اشتراط الحرية، وأن تصرف العبد باطل وإن كان حاكمًا حكم العز بن عبد السلام رحمه الله ببيع أمراء الدولة الأيوبية في مصر - المماليك - لأنه لا يصح شرعًا تصرفهم إلا إذا عتقوا فحكم ببيعهم وإدخال أثمانهم إلى بيت مال المسلمين، فلما حكم بذلك غضبوا وغضب نجم الدين أيوب - حاكم مصر في ذلك الوقت - وقال: هذا ليس من اختصاصه فقرر العز الرحيل عن مصر فجهز أمتعته وسار، ثم لحقه جميع الناس وقالوا: إن خرج خرجنا، فلحق به نجم الدين في الطريق وترضاه وطلب منه أن يعود وينفذ ما حكم به، فعاد ونفذ ما أراد .
المبحث الرابع: أن يكون ذكرًا
من شروط الإمام أن يكون ذكرًا (ولا خلاف في ذلك بين العلماء) .
ويدل عليه ما ثبت في (صحيح البخاري) وغيره من حديث أبي بكرة رضي الله تعالى عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه أن فارسًا ملَّكوا ابنة كسرى قال: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) . وقد ورد في القرآن الكريم كثير من الآيات الدالة على تقديم الرجال على النساء من ذلك قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ...} [النساء: 34] وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن ((النساء ناقصات عقل ودين)) .
والإمامة تحتاج إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة، لذلك لا تقبل شهادتها إلا إذا كان معها رجل، وقد نبَّه الله على ضلالهن ونسيانهن بقوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] ...
كما أن إمامة المسلمين تقتضي الدخول في المحافل ومخالطة الرجال وقيادة الجيوش ونحو ذلك، وهذا محظور على النساء شرعًا بقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33]وغيرها.
يقول الغزالي: (الرابع الذكورية، فلا تنعقد الإمامة لامرأة، وإن اتصفت بجميع خلال الكمال وصفات الاستقلال، وكيف تترشح امرأة لمنصب الإمامة وليس لها منصب القضاء ولا منصب الشهادة في أكثر الحكومات) . وقال البغوي: (اتفقوا على أن المرأة لا تصلح أن تكون إمامًا ولا قاضيًا، لأن الإمام يحتاج إلى الخروج لإقامة أمر الجهاد والقيام بأمور المسلمين، والقاضي يحتاج إلى البروز لفصل الخصومات، والمرأة عورة لا تصلح للبروز وتعجز لضعفها عن القيام بأكثر الأمور، ولأن المرأة ناقصة والإمامة والقضاء من كمال الولايات فلا يصلح لها إلا الكامل من الرجال) .
والواقع يشهد لذلك فالناس بتجاربهم يعرفون أنه لا يصلح للإمامة إلا الرجال وإن صار منهن في منصب رئاسة الدولة فإنما كان نادرًا ولظروف استثنائية. وكذلك طبيعة المرأة النفسية والجسمية لا تتلاءم أبدًا مع هذا المنصب، فكما هو معروف أن طبيعة المرأة يلاحظ عليها إرهاف العاطفة وسرعة الانفعال وشدة الحنان (وقد خلقت هذه الصفات في المرأة لتستطيع بها أن تؤدي وظيفتها الأولى وهي الأمومة والحضانة) وإذا كانت هذه الصفات لازمة في مضمار الأمومة والحضانة فقد تكون ضارة في مضمار القيادة والرئاسة، أما الرجل فلا يندفع في الغالب - مع عواطفه ووجدانه - كما تندفع المرأة، بل يغلب عليه الإدراك والفكر والروي وهما قوام المسؤولية والقيادة.
لذلك فإن الله سبحانه وتعالى شرع للرجل ما يلائم بنيته الجسمية والنفسية كالجهاد والقيادة ونحو ذلك، وشرع للمرأة ما يلائم تكوينها أيضًا من تربية وحضانة وأعمال أخرى تلائمها.
هذا وقد حكى الإجماع على عدم جواز تولية المرأة الإمامة ابن حزم الظاهري حيث قال: (وجميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة المرأة) وكذلك القرطبي . وخالف في ذلك الخوارج، فهناك فرقة منهم تقول بجواز ذلك وهي: الشبيبية (أتباع شبيب بن يزيد الشيباني) قال البغداي عنهم: (إنه من أتباعه أجازوا إمامة المرأة منهم إذا قامت بأمورهم وخرجت على مخالفيهم وزعموا أن غزالة أم شبيب كانت الإمام بعد قتل شبيب إلى أن قتلت) .
هذا عن الإمامة أما القضاء فلبعض العلماء فيه رأي، ولكن جمهورهم يمنع ذلك قال ابن التين فيما حكاه عنه ابن حجر: (احتج بحديث أبي بكرة - الآنف الذكر - من قال لا يجوز أن تولى المرأة القضاء. وهو قول الجمهور وخالف ابن جرير الطبري فقال: يجوز أن تقضي فيما تقبل شهادتها فيه، وأطلق بعض المالكية الجواز) وروي ذلك عن أبي حنيفة: (أنها تلي الحكم فيما تجوز فيه شهادة النساء) .
المبحث الخامس: العلم
قالوا: يشترط أن يكون بلغ مرتبة الاجتهاد وهم الجمهور، فقد قال الشاطبي رحمه الله: (إن العلماء نقلوا الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع) ، وقال إمام الحرمين الجويني: (فالشرط أن يكون الإمام مجتهدًا بالغًا مبلغ المجتهدين مستجمعًا صفات المفتين، ولم يؤثر في اشتراط ذلك خلاف) ، وقال الرملي في سياق عده لشروط الإمام: (... مجتهدًا كالقاضي وأولى، بل حكى فيه الإجماع...) قال: (وكون أكثر من ولي أمر الأمة بعد الخلفاء الراشدين غير مجتهد إنما هو لتغلبهم فلا يَرِدْ) .
وإلى هذا القول ذهب الإمام الشافعي ، والماوردي ، والقاضي أبو يعلى ، وعبد القاهر البغدادي ، والقرطبي ، وابن خلدون ، والقلقشندي وغيرهم واستدلوا على ما ذهبوا إليه بالأدلة التالية:
1- إن الصحابة رضوان الله عليهم قدَّموا للإمامة من قدمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - للصلاة - ... - وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة...)) إلخ الحديث .
2- واستدلوا أيضًا بالقياس حيث قاسوا منصب الإمامة العظمى على منصب القضاء، قال الباقلاني: (لأن القاضي الذي يكون من قِبَلِه يفتقر إلى ذلك فالإمام أولى) ...
3- واستدلوا أيضًا بطبيعة العمل الموكل إلى الإمام الأعظم قال إمام الحرمين الجويني: (والدليل عليه أن أمور معظم الدين تتعلق بالأئمة فأما ما يختص بالولاة وذوي الأمر فلا شك في ارتباطه بالإمام، وأما ما عداه من أحكام فقد يتعلق به من جهة انتدابه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو لم يكن الإمام مستقلاً بعلم الشريعة لاحتاج إلى مراجعة العلماء في تفاصيل الوقائع التي ترفع إلى الإمام، وذلك يشتت رأيه ويخرجه عن دائرة الاستقلال) .
ويقول القلقشندي: (لأنه محتاج لأن يصرف الأمور على النهج القويم ويجريها على الصراط المستقيم، ولأن يعلم الحدود ويستوفي الحقوق ويفصل الخصومات بين الناس، وإذا لم يكن عالمًا مجتهدًا لم يقدر على ذلك) .
4- أما ابن خلدون فقد استدل على اشتراط الاجتهاد بقوله: (لأن التقليد نقص، والإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال). وقال: (لأنه إنما يكون منفذًا لأحكام الله تعالى إذا كان عالمًا بها، وما لم يعلمها لا يصح تقديمه لها) .
وهذه المسألة من المسائل الاجتهادية لأنه لم يرد نص صريح فيها، وإنما مرجع ذلك إلى الضرورة والحاجة والمصلحة، فإذا وُجِد مجتهد تتوفر فيه بقية الشروط الضرورية والمنصوص عليها فهو المطلوب، وإن تعذر وجوده فلا تترك مصالح المسلمين تتعطل ويدب فيهم الفساد بسبب عدم وجود المجتهد الذي تتوفر فيه شروط الإمام والله أعلم.
المبحث السادس: العدالة
العدالة صفة كامنة في النفس توجب على الإنسان اجتناب الكبائر والصغائر والتعفف عن بعض المباحات الخارمة للمروءة، وهي مجموعة صفات أخلاقية من التقوى والورع والصدق والأمانة والعدل ورعاية الآداب الاجتماعية ومراعاة كل ما أوجبت الشريعة الالتزام به.
وبناء على هذا الشرط فلا يجوز تولية الفاسق ولا من فيه نقص يمنع الشهادة. قال القاضي عياض: (ولا تنعقد لفاسق ابتداء) وذكر مثله الحافظ في الفتح وقال القرطبي: (ولا خلاف بين الأمة في أنه لا يجوز أن تعقد الخلافة لفاسق) .
ومن الأدلة على اشتراط هذا الشرط ما يلي:
1- ما ورد في قصة إبراهيم عليه السلام حينما قال له ربه: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] عن مجاهد: (أنه أراد أن الظالم لا يكون إمامًا...) ، وقال الفخر الرازي: (احتج الجمهور على أن الفاسق لا يصلح أن تعقد له الإمامة بهذه الآية {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ووجه الاستدلال بها على وجهين:
الأول: ما بيَّنَّا أن قوله {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} جواب لقوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} طلب للإمامة التي ذكرها الله تعالى، فوجب أن يكون المراد بهذا العهد هو الإمامة ليكون الجواب مطابقًا للسؤال فتصير الآية كأنه تعالى قال: لا ينال الإمامة الظالمون، وكل عاص فإنه ظالم لنفسه، فكانت الآية دالة على ما قلناه) . وبنحوه ذهب الشوكاني فقال: (وقد استدل بهذه الآية جماعة من أهل العلم على أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع كما ورد لأنه إذا زاغ عن ذلك كان ظالمًا، ويمكن أن ينظر إلى ما يصدق عليه اسم العهد وما تفيده الإضافة من العموم فيشمل جميع ذلك اعتبارًا بعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا السياق...) إلى أن قال: (فالأولى أن يقال: إن هذا الخبر في معنى الأمر لأن أخباره تعالى لا يجوز أن تتخلف، وقد علمنا أنه قد عهده من الإمامة وغيرها كثير من الظالمين) . قال الفقيه الحنفي أبو بكر الجصاص: (فثبت بدلالة هذه الآية بطلان إمامة الفاسق وأنه لا يكون خليفة) وقال الزمخشري عند تفسير هذه الآية: (وقالوا: في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته ولا تجب طاعته ولا يقبل خبره ولا يقدم للصلاة). قال: (وعن ابن عيينة: لا يكون الظالم إمامًا قط، وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة، والإمام إنما هو لكفِّ الظلمة، فإذا نصب من كان ظالمًا في نفسه فقد جاء المثل السائر: من استرعى الذئب ظلم) .
وقال ابن خلدون: (وأما العدالة فلأنه منصب ديني ينظر في سائر المناصب التي هي شرط فيها، فكان أولى باشتراطها فيه) وقال البغدادي: (وأقل ما يجب له من هذه الخصلة أن يكون ممن يجوز قبول شهادته تحملاً وأداءً) والحقيقة أنه إذا كان الله تعالى قد جعل العدالة شرطًا في أصغر ما يتصور من الولايات والأحكام مثل حضانة الصغير والحكم في جزاء الصيد، وأن الفاسق لا يصلح أن يكون واليًا على صغير أو يتيم، ولا حكمًا في مسألة قياسية فكيف يصلح واليًا على الأمة جمعاء، وحكمًا في قضايا في غاية الخطورة.
- كما يدل على ذلك أن الفسق مدعاة للتساهل في تطبيق أحكام الشريعة وإقامة الدين، فلو كان فسقه بشرب خمر مثلاً فالمتصور عقلاً أنه لا بد أن يقع منه التساهل في شأن الخمر وشاربها، وهكذا في سائر الأحكام كما أن الأخيار العدول في الأمة كثير والحمد لله فما الداعي لتولية الفاسق؟
هذا وقد قسم الماوردي الفسق الذي تزول به العدالة إلى قسمين:
الأول: ما تابع فيه الشهوة.
الثاني: ما تعلق فيه بشبهة.
فأما الأول منها فمتعلق بأفعال الجوارح وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات تحكيمًا للشهوة وانقيادًا للهوى، فهذا - كما يرى الماوردي - يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها....
وأما الثاني: فمتعلق بالاعتقاد والتأول بشبهة تعترض فيتأول لها خلاف الحق، فقد اختلف العلماء فيها، فذهب فريق من العلماء إلى أنها تمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها... وقال كثير من علماء البصرة: (إنه لا يمنع من انعقاد الإمامة ولا يخرج به منها كما لا يمنع من ولاية القضاء وجواز الشهادة) .
2- ومنها ما رواه البخاري وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم سترون بعدي أثرة وأمورًا تنكرونها، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم)) .
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة في هذا الموضوع ولذلك كان مذهب السلف رضوان الله عليهم الصلاة والجهاد مع كل إمام برًا كان أو فاجرًا، لأن هذا من طاعة الله، فهم يطاعون في طاعة الله ويعصون في معصيته. وهذا ما أدى بأبي يعلى أن يقول: (وقد روي عن الإمام أحمد ألفاظ تقتضي إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل فقال في رواية عبدوس بن مالك: (ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إمامًا عليه برًا كان أو فاجرًا فهو أمير المؤمنين) وقال أيضًا في رواية المروزي: (فإن كان أميرًا يعرف بشرب المسكر والغلول يغزو معه إنما ذلك له في نفسه) .
فمقصود الإمام أحمد الوالي المتغلب كما هو نص الرواية الأولى - لا في حالة الاختيار من قبل أهل الحل والعقد، ويدلّ على ذلك - بالإضافة إلى ما سبق - قوله أيضًا: (وإن الإمامة لا تجوز إلا بشروطها: النسب، والإسلام، والحماية، والبيت... وحفظ الشريعة، وعلم الأحكام، وصحة التنفيذ والتقوى، وإتيان الطاعة، وضبط أموال المسلمين، فإن شهد له بذلك أهل الحل والعقد من علماء المسلمين وثقاتهم أو أخذ هو ذلك على نفسه ثم رضيه المسلمون جاز له ذلك) فهذا يدلّ على أن الإمام أحمد يشترط كغيره العدالة والعلم في حالة الاختيار أما في حالة التغلب فلا يشترط ...
وهذا ما حدا بالأحناف ألا يعدوا العدالة من الشروط الواجبة وأجازوا أن يلي الفاسق أمر الأمة، لكنهم يكرهون ذلك ، لأنه قد ثبت أن الصحابة صلّوا خلف أئمة الجور من بني أمية ورضوا بتقلدهم رئاسة الدولة.
والرد عليهم أن ذلك في حال التغلب لا في حال الاختيار كما مر. وهناك من يجعل الفسق موجبًا للعزل، وبناء عليه فلا تلزم إمامة المتغلب الفاسق بل العدل فقط، ...
وبهذا يتبين أن هذا الشرط واجب توفره في الإمام عند الاختيار دون التغلب لتضافر الأدلة على ذلك.
كما أنه مما ينبغي التنبيه له أنه ليس المقصود بالعدالة أن يكون المرشح للإمامة معصومًا في أقواله وأفعاله وتصرفاته، خاليًا من كل نقص، مبرَّءًا من كل عيب - كما تدَّعي الرافضة -، فهذه الصفات لا يدركها إلا الرسل عليهم الصلاة والسلام الذين أكرمهم الله بالعصمة من الكبائر والذنوب وعدم إقرارهم على الصغائر إن وقعت منهم.
أما المسلم العادي فقد يقع في بعض الذنوب والآثام ولكنه سرعان ما يسترجع ويستغفر الله مما بدر منه ويعزم أن لا يعود، فهذه لا تخرم مروءته ولا تبطل عدالته.
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)) .
كما أن العدالة معتبرة في كل زمان بأهله وإن اختلفوا في وجه الاتصاف بها، فنحن نقطع بأن عدالة الصحابة لا تساويها عدالة التابعين، وعدالة التابعين لا تساويها عدالة من بعدهم، وكذلك كل زمان مع ما بعده إلى زماننا هذا، فلو قيس عدول زماننا بعدول الصحابة والتابعين لم يعدوا عدولاً لتباين ما بينهما من الاتصاف بالتقوى والمروءة، ولكن لا بد من اعتبار كل عدول زمان بحسبه، وإلا لم يمكن إقامة ولاية يشترط فيها العدالة التامة... والله أعلم.
المبحث السابع: الكفاءة النفسية
ومما ينبغي توفره في الخليفة أيضًا أن يكون شجاعًا جريئًا على إقامة الحدود واقتحام الحروب بصيرًا بها كفيلاً بحمل الناس عليها، عارفًا بالدهاء قويًا على معاناة السياسة وحسن التدبير ليصبح له بذلك ما جعل له من حماية الدين وجهاد العدو وإقامة الأحكام وتدبير المصالح.
ودليل اشتراط هذا الشرط هو طبيعة هذا المنصب الذي يحتاج إلى كل هذه الصفات حتى يكون قادرًا على سياسة الرعية وتدبير مصالحهم الدينية والدنيوية، ولأن الحوادث التي تحدث في الدولة ترفع إليه ولا يتسنى له البتّ فيها كما لا تتبين له المصلحة إلا إذا كان على قدر من الحكمة والرأي والتدبير، ولذلك فلا يولى إلا من كان عنده القدرة على ذلك، يدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر رضي الله عنه حينما قال له: ((يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)) . وفي رواية قال له: ((يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرنَّ على اثنين ولا تولين مال يتيم)) فإذا كان كان هذا في الولاية الصغرى وفي الأموال فمن باب أولى في الإمامة العظمى الشاملة للقيام بأعباء الولايات الصغرى والكبرى والأموال وغيرها.
وإلى اشتراط هذا الشرط ذهب إمام الحرمين الجويني وسبقه أبو يعلى حيث يقول: (الثالث: أن يكون قَيِّما بأمر الحرب والسياسة وإقامة الحدود لا تلحقه رأفة في ذلك والذب عن الأمة) وبه قال الماوردي: (الرابع: الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح، الخامس: الشجاعة، والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو) وبه قال البغدادي ، وابن خلدون ، والإيجي في المواقف والغزالي في فضائح الباطنية وغيرهم كثير.
فهذا هو مذهب جمهور العلماء، وهناك من العلماء من لا يشترطون هذا الشرط مجوزين الاكتفاء بأن يستشير الإمام أصحاب الآراء الصائبة في كل ما يحتاج إلى البتّ فيه من الأمور المهمة معللين ذلك بأنه يندر أن يتوفر هذا الشرط مع الشروط المطلوبة في الإمامة من الاجتهاد وغيره.
والواقع أنه ليس هناك حدّ معين لهذا الشرط، وإنما لكل زمان بحسبه، فالمهم أن لا يكون هناك قصور يخلّ بالمقاصد التي من أجلها نصب الإمام... والله أعلم.
المبحث الثامن: الكفاءة الجسمية
والمقصود بها سلامة الحواس والأعضاء التي يؤثر فقدانها على الرأي والعمل. كذهاب البصر والنطق والسمع فهذه تؤثر في الرأي، وفقدان اليدين والرجلين يؤثر في النهوض وسرعة الحركة، وتشوه المنظر وتضعف من هيبة الإمام في نفوس الرعية، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الشرط في قصة طالوت كما مر وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247].
من أجل هذا قسَّم الفقهاء أوجه النقص الجسدية إلى أربعة أقسام:
الأول: ما لا يمنع من عقد الإمامة وهو: النقص الذي لا يؤثر فقده في رأي ولا عمل ولا يشين في المنظر فهذا نقص لا يحول دون قيام الخليفة بوظائفه لأنه لا يؤثر في كفاءته وقدرته على سياسة الأمور في الدولة الإسلامية.
الثاني: النقص الذي يمنع من اختيار الشخص لمنصب الخلافة كفقد اليدين أو عجز الرجلين الذي يمنعه من النهوض ويؤثر في حركته، فهذا وذاك نقص يؤثر في الكفاءة اللازم توفرها في المرشح للخلافة، ويعوقه عن مباشرة سلطاته واختصاصاته فيما لو ولي أمر الأمة، وهو ما يضر بحقوقها ومصالحها العامة، لذلك فإن هذا النقص يحول دون صلاحية الشخص لرئاسة الدولة، كما أنه يؤدي في حالة طروء هذا النقص عليه بعد توليته الخلافة إلى منع استدامتها.
الثالث: وهو النقص المؤدي إلى العجز الجزئي ويؤثر في أداء بعض الأعمال كقطع إحدى اليدين أو الرجلين، وهذا من شأنه أن يحول دون اختياره للخلافة لعجزه عن كمال التصرف، ولم يختلف الفقهاء في ذلك وإنما اختلفوا في استدامتها ...
الرابع: وهو النقص الذي يمنع الخليفة من مباشرة الأعباء المقررة على المنصب ولا يحول دون قيامه بسائر اختصاصاته وسلطاته كالنقص المؤثر في المظهر كجدع الأنف وسمل إحدى العينين، فهذا لا يخرجه من الإمامة بعد عقدها اتفاقًا، لعدم تأثيره في شيء من حقوقها، أما في الاختيار فالعلماء فيه على رأيين منهم من أجاز، ومنهم من منع ليسلم الولاة من شين يعاب ونقص يزدرى فتقلّ هيبتهم، وفي قلَّتها نفور عن الطاعة، وما أدى إلى هذا فهو نقص في حقوق الأمة. أما عن شرط سلامة الحواس. فالسمع والنطق يشترطه كثير من الفقهاء، لأن الوقوف على مصالح المسلمين والرأي والتدبير يتوقف عليهما ومنهم من لم يشترطهما لإمكان الفهم عن طريق الكتابة ونحوها. لكن الراجح اشتراط توفرهما في الخليفة للحاجة إليهما، وكذلك البصر فهو من الشروط التي يجب توافره ضرورة، لأن الأعمى لا يستطيع أن يدبر أمر نفسه وهو ما لا يسمح له أن يدبر أمر المسلمين، أما في الولاية الصغرى فجائز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولى ابن أم مكتوم وهو رجل أعمى على المدينة عدة مرات وقد خالف في اشتراط هذا الشرط ابن حزم رحمه الله تعالى فقال: (لا يضر الإمام أن يكون في خلقه عيب، كالأعمى والأصم والأجدع والأجذم والأحدب، والذي لا يدان له ولا رجلان، ومن بلغ الهرم ما دام يعقل ولو أنه ابن مائة عام... فكل هؤلاء إمامتهم جائزة، إذ لم يمنع منها نص القرآن ولا سنة ولا إجماع ولا نظر ولا دليل أصلا) .
ونحن لا نقول بأنه نص عليه قرآن ولا سنة ولا إجماع، وإنما مقصود الإمامة لا يتم إلا بمن كانت فيه هذه الشروط، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب والله أعلم.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
المبحث التاسع: عدم الحرص عليها
وقد نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا الشرط، وجعل الحرص عليها بغير مصلحة شرعية تهمة يعاقب عليها بمنعه منها. والأدلة على هذا الشرط كثيرة منها:
1- عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها)) .
2- وعن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا ورجلان من قومي فقال أحد الرجلين: أَمِّرنا يا رسول الله، وقال الآخر مثله، فقال: ((إنا لا نُوَلِّي هذا من سأله ولا من حرص عليه)) .
ولذلك قال سفيان الثوري رحمه الله: (إذا رأيت الرجل يحرص على أن يؤَمَّر فأخِّرْه) أما إذا كان في تقديم الإنسان نفسه مصلحة شرعية كأن يكون أهلاً لهذا المنصب فيموت الوالي ولا يوجد غيره، وخشي من التأخر الفتنة والضياع، فله أن يقدم نفسه بنية المصلحة الشرعية لا بنية الحرص عليها، قال الحافظ ابن حجر: (وهذا لا يخالف ما فرض في الحديث الذي قبله من الحصول بالطلب أو بغير طلب، بل في التعبير. بـ (حرص) إشارة إلى أن من قام بالأمر عند خشية الضياع يكون كمن أُعْطى بغير سؤال، لفقد الحرص غالبًا عمن هذا شأنه، وقد يغتفر الحرص في حق من تعين عليه لكونه يصير واجبًا عليه) . ...
هذا وقد سأل الولاية بعض الأنبياء المصطفين عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام حينما رأوا أنهم أكفأ من يقوم بها، ولخطورة ما يترتب عليها لو وضعت في يد غير أمينة، فهذا يوسف عليه السلام يقول للملك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] وهذا سليمان عليه السلام يسأل الله عز وجل الولاية فيقول: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي...}[ص: 35]
المبحث العاشر: القرشية
هذا الشرط من الشروط التي وردت النصوص عليه صريحة وانعقد إجماع الصحابة والتابعين عليه، وأطبق عليه جماهير علماء المسلمين، ولم يخالف في ذلك إلا النزر اليسير من أهل البدع كالخوارج وبعض المعتزلة وبعض الأشاعرة، ...
من هم قريش ؟
قبيلة قريش هم أولاد قريش، واختلف النَّسَّابون في قريش هذا من هو؟ على عدة أقوال:
الأول: قيل هو: النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. قال ابن هشام: (النضر قريش، فمن كان من ولده فهو: قرشي. ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي) . وإلى هذا القول ذهب بعض الشافعية ، ويدل على ذلك ما ذكره ابن إسحاق وغيره في قصة وفد كنده: ((أن الأشعث بن قيس قال: يا رسول الله، نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبد المطلب، وربيعة بن الحارث... ثم قال لهم: لا. بل نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا، فقال الأشعث بن قيس: هل فرغتم يا معشر كندة؟ والله لا أسمع رجلاً يقولها إلا ضربته ثمانين)) . قال البغدادي: (وهذا اختيار أبي عبيدة معمر بن المثنى، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وبه قال الشافعي رضي الله عنه وأصحابه) وهو قول ابن حزم وابن منظور .
وقول الحافظ ابن حجر وابن قيم الجوزية رحمهم الله تعالى.
الثاني: أن قريشًا هو فهر بن مالك، قال الزبيري: (قالوا: اسم فهر بن مالك، قريش، ومن لم يلد فهر فليس من قريش) . وقال الزبيدي: (والصحيح عند أئمة النسب أن قريشًا هو: فهر بن مالك بن النضر، وهو: جماع قريش وهو: الجد الحادي عشر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكل من لم يلده فليس بقرشي قيل: اسمه فهر. ولقبه: قريش. وقيل: العكس، وقد روي عن نسابي العرب أنهم قالوا: من جاوز فهرًا فليس من قريش ، قال الزهري: (وهو الذي أدركت عليه من أدركت من نسابي العرب أن من جاوز فهرًا فليس من قريش) .
قال الشنقيطي: (فالفهري قرشي بلا نزاع، ومن كان من أولاد مالك بن النضر، أو أولاد النضر بن كنانة ففيه خلاف، ومن كان من أولاد كنانة من غير النضر فليس بقرشي بلا نزاع) ويدل على ذلك ما رواه واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بين هاشم)) .
وهناك أقوال أخرى ضعيفة.... وسميت قريش قريشًا من التقرش، والتقرش التجارة والاكتساب، وقال ابن إسحاق: يقال سميت قريش قريشًا لتجمعها من بعد تفرقها ، قال الزبيدي: (وقد حكى بعضهم في تسمية فهر بقريش عشرين قولاً أوردتها في شرحي على (القاموس) ) وقيل غير ذلك .
أدلة أهل السنة والجماعة على اشتراط القرشية
قلنا: إن جماهير علماء المسلمين قاطبة ذهبوا إلى اشتراط هذا الشرط وحكى الإجماع عليه من قبل الصحابة والتابعين، وبه قال الأئمة الأربعة، فقال الإمام أحمد في رواية الإصطخري: (الخلافة في قريش ما بقي من الناس اثنان، ليس لأحد من الناس أن ينازعهم فيها ولا يخرج عليهم، ولا نقر لغيرهم بها إلى قيام الساعة) (وقد نص الشافعي رضي الله عنه على هذا في بعض كتبه ، وكذلك رواه زرقان عن أبي حنيفة) وقال الإمام مالك: (ولا يكون - أي الإمام - إلا قرشيًا. وغيره لا حكم له إلا أن يدعوا إلى الإمام القرشي) ولم يخالف في ذلك إلا النزر اليسير من الخوارج وبعض المعتزلة وبعض الأشاعرة، واستدل المثبتون بعدة أدلة صريحة صحيحة من السنة والإجماع فمن السنة ما يلي:
1- ما رواه البخاري في صحيحه عن معاوية رضي الله تعالى عنه حيث قال البخاري: (باب الأمراء من قريش، حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال: كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه بلغ معاوية - وهم عنده في وفد من قريش - أن عبد الله بن عمرو يحدث ((أنه سيكون ملك من قحطان فغضب فقام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالاً منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولئك جهالكم فإياكم والأماني التي تضل أهلها، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين)) .
2- ومنها الحديث المتفق على صحته عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان)) قال الحافظ ابن حجر: (وليس المراد حقيقة العدد، وإنما المراد به انتفاء أن يكون الأمر في غير قريش) .
3- ومنها ما رواه البخاري ومسلم في (صحيحيهما) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم)) .
4- وفي مسند الإمام أحمد: ((أن أبا بكر وعمر لما ذهبا إلى سقيفة بني ساعدة حين اجتمع الأنصار لاختيار خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تكلَّم أبو بكر ولم يترك شيئًا أنزل في الأنصار وذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شأنهم إلا ذكره، وقال: ولقد علمتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو سلك الناس واديًا وسلكت الأنصار واديًا سلكت وادي الأنصار. ولقد علمت يا سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر فَبَرُّ الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم، فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء)) .
وقد مرَّ معنا في الرواية الواردة في الصحيح ... في مبايعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه عند ذكره لهذا الحديث بمعناه لا بلفظه حيث قال: (ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش) .
(5) ومنها ما رواه الإمام أحمد بسنده عن أنس بن مالك: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على باب البيت ونحن فيه فقال: الأئمة من قريش، إن لهم عليكم حقًا ولكم عليهم حقًا مثل ذلك، ما إن استرحموا رحموا، وإن عاهدوا وفوا، وإن حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) . وقال ابن حزم: (وهذه رواية الأئمة من قريش. جاءت مجيء التواتر رواها أنس بن مالك، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ومعاوية وروى جابر بن عبد الله، وجابر بن سمرة، وعبادة بن الصامت معناها) .
... وأكثر من هذا ما ذكره الحافظ ابن حجر حيث قال: (قد جمعت طرقه عن نحو أربعين صحابيًا لما بلغني أن بعض فضلاء العصر ذكر أنه لم يرد إلا عن أبي بكر الصديق) . إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة في هذا الباب.
ثانيًا الإجماع:
أما الإجماع: فقد حكاه غير واحد من العلماء منهم: النووي حيث قال في شرحه لحديث: ((الناس تبع لقريش...)) إلخ. الحديث: (هذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر على أن الخلافة مختصة بقريش لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة والتابعين فمن بعدهم بالأحاديث الصحيحة) .
ومنهم القاضي عياض. فقد نقل عنه النووي قوله: (اشتراط كونه – أي الإمام - قرشيًا هو: مذهب العلماء كافة. قال: وقد احتج به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على الأنصار يوم السقيفة فلم ينكره أحد، قال القاضي: وقد عدها العلماء في مسائل الإجماع، ولم ينقل عن أحد من السلف فيها قول ولا فعل يخالف ما ذكرنا، وكذلك من بعدهم في جميع الأعصار قال: ولا اعتداد بقول النظام ومن وافقه من الخوارج وأهل البدع أنه: يجوز كونه من غير قريش، ولا سخافة ضرار بن عمرو في قوله: إن غير القرشي من النبط وغيرهم يقدم على القرشي لهوان خلعه إن عرض منه أمر وهذا الذي قاله من باطل القول وزخرفه مع ما هو عليه من مخالفة إجماع المسلمين والله أعلم) .
وممن حكى هذا الإجماع أيضًا الماوردي ، والإيجي في (المواقف) ، وابن خلدون في (المقدمة) ، والغزالي في (فضائح الباطنية) وغيرهم.
ومن المحدثين الشيخ محمد رشيد رضا حيث قال: (أما الإجماع على اشتراط القرشية فقد ثبت بالنقل والفعل، رواه ثقات المحدثين، واستدل به المتكلمون وفقهاء مذاهب السنة كلهم، وجرى عليه العمل بتسليم الأنصار وإذعانهم لبني قريش، ثم إذعان السواد الأعظم من الأمة عدة قرون...) .
ولكن الحافظ ابن حجر يعترض على هذا الإجماع بقوله: (قلت: ويحتاج من نقل الإجماع إلى تأويل ما جاء عن عمر من ذلك، فقد أخرج أحمد عن عمر بسند رجاله ثقات أنه قال: (إن أدركني أجلي وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل... الحديث). ومعاذ بن جبل أنصاري لا نسب له في قريش فيحتمل أن يقال: لعل الإجماع انعقد بعد عمر على اشتراط أن يكون الخليفة قرشيًا، أو تغير اجتهاد عمر في ذلك والله أعلم) .
القائلون بعدم اشتراط القرشية وأدلتهم
أول من قال بعدم اشتراط القرشية الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه (إذ جوزوا أن تكون الإمامة في غير قريش، وكل من نصبوه برأيهم وعاشر الناس على ما مثلوا له من العدل واجتناب الجور كان إمامًا) .
وزعم ضرار بن عمرو - من شيوخ المعتزلة - أيضًا أن الإمامة تصلح في غير قريش (حتى إذا اجتمع قرشي ونبطي قدمنا النبطي إذ هو أقل عددًا وأضعف وسيلة فيمكننا خلعه إذا خالف الشريعة) قال الشهرستاني: (والمعتزلة - أي جمهورهم - وإن جوزوا الإمامة في غير قرشي، إلا أنهم لا يجيزون تقديم النبطي على القرشي وزعم الكعبي أن القرشي أولى بها من الذي يصلح لها من غير قريش، فإن خافوا الفتنة جاز عقدها لغيره) .
ومن الأشاعرة إمام الحرمين الجويني حيث مال إلى عدم اشتراطه، وزعم أنه من أخبار الآحاد وهو على مذهبه الباطل لا يحتج به في مثل هذه المسائل حيث قال: (وهذا مسلك لا أوثره، فإن نقلة هذا الحديث معدودون لا يبلغون مبلغ عدد التواتر والذي يوضح الحق في ذلك: أنا لا نجد في أنفسنا ثلج الصدور واليقين المثبوت بصدد هذا من فلق . في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما لا نجد ذلك في سائر أخبار الآحاد، فإذًا لا يقتضي هذا الحديث العلم باشتراط النسب في الإمامة) وقال في كتابه (الإرشاد): (وهذا مما يخالف فيه بعض الناس، وللاحتمال فيه عندي مجال، والله أعلم بالصواب) .
وقد اختلف قول أبي بكر الباقلاني، فاشترط القرشية في كتابه (الإنصاف) فقال: (ويجب أن يعلم أن الإمامة لا تصلح إلا لمن تجتمع فيه شرائط منها: أن يكون قرشيًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الأئمة من قريش)) ولم يشترطها في كتابه (التمهيد) حيث قال: (إن ظاهر الخبر لا يقضي بكونه قرشيًا، ولا العقل يوجبه) .
وإلى نفي اشتراط القرشية ذهب أكثر الكتاب المحدثين منهم: الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (تاريخ المذاهب الإسلامية) وذهب إلى أن الأحاديث الواردة مجرد أخبار لا تفيد حكمًا ، ومنهم العقاد ، ومنهم د. علي حسني الخربوطلي في كتابه (الإسلام والخلافة) وتجرأ على رمي الأحاديث المذكورة بالوضع، ومنهم د. صلاح الدين دبوس في كتابه (الخليفة توليته وعزله) وذهب إلى أن هذه الأحاديث مجرد أخبار ، ومنهم الأستاذ محمد المبارك رحمه الله وعفا عنه واعتبرها من باب السياسة الشرعية المتغيرة بتغير العوامل .
واستدل من ذهب إلى نفي اشتراط القرشية بما يلي:
1- بقول الأنصار يوم السقيفة (منا أمير ومنكم أمير) قالوا: فلو لم يكن الأنصار يعرفون أنه يجوز أن يتولى الإمامة غير قرشي لما قالوا ذلك.
2- ومن أدلتهم أيضًا ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسوا الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) فالحديث أوجب الطاعة لكل إمام وإن كان عبدًا، فدل على عدم اشتراط القرشية.
3- واستدلوا أيضًا بقول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حيّ استخلفته... فإن أدركني أجلي وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل) والمعروف أن معاذ بن جبل أنصاري لا نسب له في قريش فدل على الجواز. كما روي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: (لو أدركني أحد رجلين، ثم جعلت هذا الأمر إليه لوثقت به: سالم مولى أبي حذيفة، وأبو عبيدة بن الجراح) .
4- كما استنتجوا من قول أبي بكر رضي الله تعالى عنه: (إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش...) أن هذا تعليل لطاعة العرب لهم فإذا تغير الحال تغير موضع الاختيار.
5- ومنهم من قال: إن هذه الأحاديث التي يستدل بها أهل السنة إنما هي على سبيل الإخبار، وليس فيها أمر يجب امتثاله، ذهب إلى ذلك بعض الكتاب المحدثين كالشيخ محمد أبي زهرة ود. صلاح الدين دبوس . وغيرهم.
6- واستدلوا على ذلك أيضًا بقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [ الحجرات: 13 ] فجعل الأفضلية والإكرام بالتقوى لا بالمعايير الأخرى كالنسب ونحوه، بل وردت أحاديث تحذر من التفاخر بالأنساب والأحساب، وتنهى عن العصبية الجاهلية منها:
أ- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع من أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالنجوم)) .
ب- ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء. الناس رجلان: مؤمن تقي، وفاجر شقي. أنتم بنو آدم، وآدم من تراب. ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن)) .
مناقشة هذه الأدلة
1- أما استدلالهم بقول الأنصار: (منا أمير ومنكم أمير) فواضح البطلان، وذلك لرجوعهم رضي الله عنهم عن هذا القول في تلك اللحظة بعد أن سمعوا النص الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه أبو بكر رضي الله تعالى عنه في قوله: ((ولقد علمت يا سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم. فقال له سعد: صدقت. نحن الوزراء وأنتم الأمراء)) . فيحتمل أنهم قالوا هذا القول قبل أن يعرفوا النص الذي يثبت الخلافة في قريش ولهذا رجعوا إلى رشدهم لما عرفوا الحقيقة.
2- أما استدلالهم بأحاديث الأمر بالطاعة وإن كان عبدًا حبشيًا، فقد سبق الجواب عليها مفصلاً وأن المراد إما إمامة المتغلب أو الإمارة الصغرى على بعض الولايات، أو لأجل المبالغة في الأمر بالطاعة وضرَبَهُ مثلاً.
3- أما استدلالهم بقول عمر في إرادته استخلاف معاذ بن جبل الأنصاري رضي الله تعالى عنه فهذا لم يتم، وإنما رشح عمر ستة قرشيين اختارهم وقال: (ليختاروا أحدهم)، وأيضًا لو ثبت ذلك فإن النص مقدَّم على قول الصحابي وإن بلغ من الفضل ما بلغ، ولعله اجتهاد من عمر رضي الله تعالى عنه ثم تراجع عنه إلى النص، وقد أجاب الحافظ في (الفتح) على هذا الاعتراض باحتمالين هما:
أ- إما أن يكون الإجماع انعقد بعد عمر على اشتراط أن يكون الخليفة قرشيًا.
ب- وإما أن يكون قد تغير اجتهاد عمر في ذلك.
... وإما أن يريد من قوله ذلك الولاية الصغرى، أي: على أحد الأقاليم، وهذا لا يشترط فيه النسب اتفاقًا. هذا على افتراض صحة الحديث، وإلا فالحديث ضعيف لانقطاع سنده فلا يصلح للاحتجاج به.
أما الحديث الثاني والذي فيه ذكر سالم مولى أبي حذيفة وأبي عبيدة فيحتمل إرادة التولية الصغرى أيضاً، أو أنه يعتبر قرشياً، لأن أبا حذيفة القرشي قد تبناه وهو مولى له، ومولى القوم منهم، وقد أرضعته زوجه - وهو كبير - بعد تحريم التبني فأصبح ابنًا له، وقصة إرضاعه مشهورة وهي في صحيح مسلم وغيره، قال ابن عبد البر: (وهو يعد في قريش لما ذكرنا) ويقصد قوله: (لأنه لما أعتقته مولاته زوج أبي حذيفة تولى أبا حذيفة وتبناه أبو حذيفة، ولذلك عُدَّ في المهاجرين) أما أبو عبيدة فقرشي باتفاق .
4- أما استدلالهم بقول أبي بكر: (إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش...) وقولهم بأن هذا تعليل لطاعة العرب لهم، فإذا تغير الحال تغير موضع الاختيار، هكذا عللوه، وهو تعليل بعيد، لأنه ظاهر في أحقية قريش بالخلافة فهو بحق دليل على اشتراط القرشية لا على نفيها، والنصوص التي ذكرت استدلال أبي بكر مبينة لهذا الظاهر، وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، بدليل تسليمهم بالطاعة لأبي بكر رضي الله عنه حينما بين لهم هذا الدليل... والله أعلم.
5- وأما من قال بأنها على سبيل الإخبار وليس فيها أمر فمردود، لأنها أمر في صيغة الخبر، وقد وردت بعض الأحاديث بالأمر الصريح كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((قدموا قريشًا ولا تقدموها)) فهذا أمر منه - صلى الله عليه وسلم - بذلك.
كما أنه لو كان إخبار من النبي - صلى الله عليه وسلم - لتحقق الخبر، وهو: أنه لن يتولى الخلافة إلا قرشي، لأن خبر الصادق لابد أن يتحقق، لكن الواقع غير ذلك، فقد تولى الخلافة غير القرشيين، منهم من يدعي كذبًا أنه قرشي كالعبيديين الذي تسموا بالفاطميين ، ومنهم: من لم يدع ذلك كسلاطين الدولة العثمانية، قال ابن حزم: (هذان الخبران - يقصد حديث ابن عمر، ومعاوية السابق ذكرهما - وإن كانا بلفظ الخبر فهما أمر صحيح مؤكد إذ لو جاز أن يوجد الأمر في غير قريش لكان تكذيبًا لخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا كفر ممن أجازه) .
6- وأما ما قالوه من أن الإسلام نهى عن العصبية، وأن تسود طائفة معينة على سائر المسلمين وأنه جاء بالمساواة بين المسلمين جميعًا لا فرق بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى... إلخ.
إن الإسلام باشتراطه أن يكون الإمام قرشيًا لم يكن بذلك داعيًا إلى العصبية القبلية التي نهى عنها في أكثر من موضع، فإن الإمام في نظر الإسلام ليس له أي مزية على سائر أفراد الأمة ولا لأسرته أدنى حق زائد على غيرهم، فالإمام وغيره من أفراد المسلمين سواء في نظر الإسلام، بل هو متحمل من التبعات والمسؤوليات ما يجعله من أشدَّ الناس حملاً وأثقلهم حسابًا يوم القيامة.
وهذا وليس معنى أن الإسلام نهى عن العصبية أن الناس لا تفاضل بينهم، بل التفاضل بين الخلق في الدنيا من صميم الفطرة ووردت أدلة شرعية على ذلك. فجمهور العلماء على أن جنس العرب خير من غيرهم، كما أن جنس قريش خير من غيرهم، قد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم – ((أنه سئل أي الناس أكرم؟ فقال: أتقاهم. فقالوا: ليس عن هذا نسألك، فقال: فيوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله، ابن إسحاق نبي الله، ابن إبراهيم خليل الله. قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: أفعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) . وفي رواية: ((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ذهبت طائفة إلى عدم التفضيل بين الأجناس، وهذا قول طائفة من أهل الكلام: كالقاضي أبي بكر بن الطيب وغيره... وهذا القول يقال له مذهب الشعوبية وهو: قول ضعيف من أقوال أهل البدع) . وقال: (لكن تفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم أن يكون كل فرد أفضل من كل فرد فإن في غير العرب خلق كثير خير من أكثر العرب، وفي غير قريش من المهاجرين والأنصار خير من أكثر قريش...).
قال: (والمقصود أنه أرسل - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الثقلين الإنس والجن فلم يخص العرب دون غيرهم من الأمم بأحكام شرعية، ولكن خص قريشًا بأن الإمامة فيهم، وخص بني هاشم بتحريم الزكاة عليهم، وذلك لأن جنس قريش لما كانوا أفضل، وجب أن تكون الإمامة في أفضل الأجناس مع الإمكان، وليست الإمامة أمرًا شاملاً وإنما يتولاها واحد من الناس) . وقال شيخ الإسلام: (وإذا فرضنا اثنين أحدهما: أبوه نبي. والآخر: أبوه كافر. وتساويا في التقوى والطاعة من كل وجه كانت درجتهما في الجنة سواء، ولكن أحكام الدنيا بخلاف ذلك في: الإمامة، والزوجية، والشرف، وتحريم الصدقة ونحو ذلك...) قال: والخير في الأشراف أكثر منه في الأطراف .
أما نفس ترتيب الثواب والعقاب على القرابة ومدح الله عز وجل للشخص المعين وكرامته عند الله وفضله فهذا لا يؤثر فيه النسب، وإنما المؤثر الوحيد هو التقوى والعمل الصالح، كما قال عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [ الحجرات: 13 ]
وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة في فضل قريش على سائر القبائل منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم)) . فالحاصل أن هناك من ألغى فضيلة الأنساب مطلقًا، وهناك من يفضل الإنسان بنسبه على من هو أعظم منه في الإيمان والتقوى فضلاً عمن هو مثله. قال ابن تيمية: (فكلا القولين خطأ، وهما متقابلان، بل الفضيلة بالنسب فضيلة جملة، وفضيلة لأجل المظنة والسبب، والفضيلة بالإيمان والتقوى فضيلة تعيين وتحقيق وغاية، فالأول يفضل به لأنه سبب وعلامة، ولأن الجملة أفضل من جملة تساويها في العدد، والثاني يفضل به لأنه الحقيقة والغاية، ولأن كل من كان أتقى كان أكرم عند الله، والثواب من الله يقع على هذا، لأن الحقيقة قد وجدت فلم يعلق الحكم بالمظنة) .
فالمقصود أن اشتراط القرشية في الإمام ليس له علاقة بالعصبية القبلية التي نهى الإسلام عنها ألبتة. كما أن النسب في حد ذاته في أصل الشريعة لا قيمة له ذاتية وإنما هو صفة كمال.
هذا وأهل السنة لم يقصروها على نوع بعينه من قريش، وإنما كان من انتسب إلى قريش جازت له الإمامة إذا توفرت شروطها الأخرى، وهناك من المبتدعة من قصرها على فرع معين، فقصرها بعضهم على بني هاشم.
الفصل الرابع: واجبات الإمام
تمهيد
حِمْلُ الإمامة ثقيل، وواجباتها كبيرة لا يستطيع القيام بها على وجهها الأكمل إلا أولو العزم من الرجال، لذلك كانت من أعظم القربات عند الله لمن احتسب القيام بها، وقصد التقرُّب إليه تعالى، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: ((سبعة يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله...)) وذكر منهم: ((إمام عادل...)) .
ومما يدل على ثقل هذا الحمل ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له في الإمارة: ((إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الأعظم الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيِّده وهو مسؤول عنه، ألا كلّكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
المبحث الأول: الواجبات الأساسية
المقصد الأول: إقامة الدين
وتتمثل في:
أولاً: حفظه وذلك بما يلي:
1- نشره والدعوة إليه بالقلم واللسان والسنان.
2- دفع الشبه والأباطيل ومحاربتها.
3- حماية البيضة وتحصين الثغور حتى يكون المسلمون في أمن على دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم.
ثانيًا: تنفيذه وذلك بما يلي:
1- إقامة شرائعه وحدوده وتنفيذ أحكامه: وذلك يشمل جباية الزكاة، وتقسيم الفيء، وتنظيم الجيوش المجاهدة لأجل رفع راية الإسلام، وإقامة قضاة الشرع للحكم بين الناس بما أنزل الله، وتنفيذ هذه الأحكام والحدود التي شرعها الله لعباده...إلخ.
2- حمل الناس عليه بالترغيب والترهيب.
المقصد الثاني: سياسة الدنيا بهذا الدين
وهو: الحكم بما أنزل الله في جميع شؤون هذه الحياة، وينتج عن هذا المقصد بعض المقاصد الفرعية منها:
1- العدل ورفع الظلم.
2- جمع الكلمة وعدم الفرقة.
3- القيام بعمارة الأرض واستغلال خيراتها فيما هو صالح للإسلام والمسلمين.
المبحث الثاني: واجبات فرعية
بالإضافة إلى هذه الواجبات الرئيسة هناك بعض الواجبات اللازمة على الإِمام وإن لم يكن بعضها من الأهداف الرئيسة للإِمامة، وإنما هي وسائل إلى تحقيق هذه الأهداف، وبناء على القاعدة الأصولية (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) فهي واجبة على الإمام إذًا... ومن هذه الواجبات ما يلي:
أولاً: استيفاء الحقوق المالية لبيت المال وصرفها في مصارفها الشرعية:
من واجبات الإمام ومسؤولياته الجسام استيفاء الحقوق المالية أو الموارد أو كما يقول أبو يعلى: (جباية الفيء، والصدقات على ما أوجبه الشرع نصًا واجتهادًا من غير عسف) وكذلك المصروفات والنفقات والعطاءات، وعلى حدِّ قول القاضي أبي يعلى: (تقدير العطاء وما يستحق من بيت المال من غير سرف ولا تقصير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير) .
موارد بيت المال:
1- الزكاة:
وهي: الركن الثاني من أركان الإسلام، ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، تجب على كل مسلم ومسلمة مَلَكَ نصابًا وحال عليه الحول فيما يشترط فيه ذلك. وقد حدّدت الشريعة الإسلامية نصاب كل صنف من أصناف الأموال المزكَّاة.
وقد اتفق الصحابة على قتال مانعيها، وعلى هذا فمن أنكر وجوبها كفر، ومن منعها معتقدًا وجوبها وقدر الإمام على أخذها منه أخذها منه جبرًا وعزَّره على امتناعه، وإن كان خارجًا عن قبضة الإمام قاتله، كما فعل أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وقال قولته المشهورة: (والله لو منعوني عقالاً - وفي رواية عناقًا - كانوا يُؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه) .
وهي ليست حقًا موكولاً للأفراد يؤديه منهم من شاء ويدعه من أراد، وإنما هي حق عام يتولاه الإمام وولاته فيقومون بجبايته ممن تجب عليه، ويصرفونه إلى من تجب له.
والأدلة على ذلك كثيرة منها:
1- قول الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [ التوبة: 60 ].
فالشاهد من الآية قوله: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} قال الفخر الرازي في تفسيره: (دلت هذه الآية على أن هذه الزكاة يتولى أخذها وتفرقتها الإمام ومن يلي من قِبَله، والدليل عليه أن الله جعل للعاملين سهمًا فيها، وهذا يدل على أنه لا بد في أداء هذه الزكوات من عامل، والعامل هو الذي نصبه الإمام لأخذ الزكوات فدلّ هذا النص على أن الإمام هو الذي يأخذ الزكوات) .
كما يدلّ ذلك أيضًا أن بعض المصارف المذكورة لا يمكن أن يصرفها إلا الإمام، مثل مصرف المؤلَّفة قلوبهم، فهذا لا يقوم به إلا الإمام، فدلّ على استحقاق دفعها إليه. ومثل إعداد العدَّة والعُدَدِ للجهاد في سبيل الله فلا يمكن تنظيم ذلك إلا بتصرف الإمام.
2- قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ}[ التوبة: 103 ].
فالخطاب في قوله {خُذْ} للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولكل من يلي أمر المسلمين من بعده كما فهم الصحابة رضوان الله عليهم بذلك .
3- ومنها ما رواه ابن عباس في الصحيحين وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بعث معاذًا إلى اليمن قال له: ((... أعْلِمْهُم أن الله افترض عليهم في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم...)) الحديث .
والشاهد من الحديث قوله: ((تؤخذ من أغنيائهم فتردُّ على فقرائهم)) فبين الحديث أن الشأن فيها أن يأخذها ويردها رادٌّ، لا أن تترك لاختيار من وجبت عليه .
قال الحافظ ابن حجر: (استدل به على أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها، إما بنفسه وإما بنائبه فمن امتنع منهم أخذت منه قهرًا) .
ومعروف في السيرة النبوية والتاريخ سعاة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين بعثهم إلى الأمصار، وكذلك سار على نهجه خلفاؤه من بعد. وللصحابة فتاوى كثيرة في هذا الموضوع ، ولهذا قال العلماء: (يجب على الإمام أن يبعث السعاة لأخذ الصدقة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السعاة، ولأن في الناس من يملك المال ولا يعرف ما يجب عليه فيه، ومنهم من يبخل فوجب أن يبعث من يأخذ...) .
الحكمة في دفعها للإمام:
ولقيام الإمام بجمعها ثم توزيعها دون قيام المالك بتوزيعها بنفسه على مستحقيها حكم كثيرة منها:
1- أن كثيرًا من الأفراد قد تموت ضمائرهم أو يصيبها السقم والهزال فلا ضمان للفقير إذا ترك حقه لمثل هؤلاء.
2- في أخذ الفقير حقه من الحكومة لا من الغني نفسه حفظ لكرامته، وصيانة لماء وجهه أن يراق بالسؤال، ورعاية لمشاعره أن يجرحها المنُّ والأذى.
3- أن ترك الأمر للأفراد يجعل التوزيع فوضى فقد ينتبه أكثر من غني لإعطاء فقير واحد، على حين يغفل عن آخر لا يفطن له أحد، وربما كان أشدُّ فقرًا .
كل ما سبق يدل على أن على الإمام أن يطلب الزكاة ويجبيها من أصحابها، ثم يقوم بتوزيعها على مستحقيها الذين ذكرتهم الآية السابقة. وعلى الأمة أن تدفعها إليه أو إلى عماله الذين يرسلهم لجبايتها.
دفعها إلى أئمة الجور:
الواقع أننا عند استعراض الأدلة والفتاوى والنصوص الواردة في المسألة نجد منها ما يوجب الدفع ومنها ما يمنع ذلك، فلنستعرضها ونرى الراجح منها:
الأدلة الموجبة لدفع الزكاة لأئمة الجور:
1- عن جرير بن عبد الله قال: ((جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن أناسًا من المصدقين (جباة الصدقة) يأتوننا فيظلموننا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرضوا مصدقيكم)) .
2- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ((أن رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أدَّيت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله؟ قال: نعم. إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها إلى الله ورسوله، ولك أجرها وإثمها على من بدَّلها)) .
3 - كما يدلّ على ذلك فتاوى الصحابة والتابعين، وكلام الفقهاء من ذلك:
أ- ما روي عن سهل بن أبي صالح عن أبيه قال: (اجتمع عندي نفقة فيها صدقة - يعني بلغت نصاب الزكاة - فسألت سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري أن أقسمها أو أدفعها إلى السلطان؟ فأمروني جميعًا أن أدفعها إلى السلطان، ما اختلف علي منهم أحد). وفي رواية فقلت لهم: (هذا السلطان يفعل ما ترون - كان هذا في عهد بني أمية - فأدفع إليهم زكاتي؟ فقالوا كلهم: نعم فادفعها) .
ب- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ادفعوا صدقاتكم إلى من ولاه الله أمركم، فمن بر فلنفسه ومن أثم فعليها) . وفي رواية عن قزعة مولى زياد بن أبيه أن ابن عمر قال: (ادفعوا إليهم وإن شربوا بها الخمر) .
جـ- وعن المغيرة بن شعبة أنه قال لمولى له - وهو على أمواله بالطائف - (كيف تصنع في صدقة مالي؟ قال: منها ما أتصدق به، ومنها ما أدفع إلى السلطان، قال: وفيم أنت من ذلك؟ - أنكر عليه أن يفرقها بنفسه - فقال: إنهم يشترون بها الأرض ويتزوجون بها النساء. فقال: ادفعها إليهم، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن ندفعها إليهم) . قال ابن قدامة: (روي عن الإمام أحمد أنه قال: قيل لابن عمر: إنهم يقلدون بها الكلاب، ويشربون بها الخمور، قال: ادفعها إليهم، قال: وكان ابن عمر يدفع زكاته إلى من جاءه من سعاة ابن الزبير أو نجدة الحروري) من الخوارج.
د- أما أقوال الفقهاء: فللشافعية في دفع الأموال الظاهرة إلى الإمام الجائر وجهان. أحدهما: يجوز، ولا يجب. قال النووي: (وأصحها يجب الصرف إليه لنفاذ حكمه وعدم انعزاله) .
أما الحنابلة فقد قال ابن قدامة في المغني: (لا يختلف المذهب أن دفعها إلى الإمام جائز سواء كان عادلاً أو غير عادل، وسواء كانت في الأموال الظاهرة أو الباطنة ويبرأ بدفعها إليه) .
القائلون بعدم جواز دفعها إلى أئمة الجور:
وفي المقابل نجد من الصحابة والتابعين والفقهاء من أفتى بعدم جواز دفعها إلى أئمة الجور إذا علم أنهم لا يضعونها في مواضعها فمنهم:
1- يروى رجوع ابن عمر عن فتاواه السابقة وإفتاؤه بعدم دفعها إليهم يدل على ذلك:
أ- ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد بسنده عن أبيه إلى خيثمة قال: سألت ابن عمر عن الزكاة؟ فقال: (ادفعها إليهم)، وسألته مرة أخرى فقال: (لا تدفعها إليهم، فقد أضاعوا الصلاة) .
ب- وروى أبو عبيدة بسنده عن ميمون قال: إن صديقًا لابن عمر أخبرني أنه قال لابن عمر: ما ترى في الزكاة فإن هؤلاء لا يضعونها مواضعها؟ فقال: ادفعها إليهم قال: فقلت: أرأيت لو أخَّروا الصلاة عن وقتها أكنت تصلي معهم؟ قال: لا، قال فقلت: هل الصلاة إلا مثل الزكاة؟ فقال: (لبَّسوا علينا لبَّس الله عليهم) .
جـ- وروى أبو عبيد بسنده إلى حبان بن أبي جبلة عن ابن عمر أنه رجع عن قوله في دفع الزكاة إلى السلطان وقال: (ضعوها في مواضعها) .
2- وقال الثوري: (احْلِفْ لهم واكْذبهم ولا تُعْطِهم شيئًا إذا لم يضعوها مواضعها) وقال: (لا تعطهم) .
3- وقال عطاء: (اعطهم إذا وضعوها مواضعها) فمفهومه كما قال ابن قدامة: (أنه لا يعطيهم إذا لم يكونوا كذلك) .
4- وقال الشعبي وأبو جعفر: (إذا رأيت الولاة لا يعدلون فضعها في أهل الحاجة).
5- وقال إبراهيم: (ضعوها في مواضعها فإن أخذها السلطان أجزأك) . وروي عنه قوله: (لا تؤدوا الزكاة لمن يجور فيها) .
6- ومن أقوال الفقهاء ما ذهب إليه البهوتي بقوله: (وإن لم يكن يضعها أي الإمام - مواضعها (حَرُم) دفعها (ويجوز) وعبارة الأحكام السلطانية وكثير من النسخ ويجب (كتمها إذن) وهذا قول القاضي في الأحكام السلطانية) .
القول الراجح:
وعند النظر في هذه الأدلة يتضح رجحان قول القائلين بجواز دفع الزكاة إلى سلاطين الجور وإجزائها إذا طلبوها وخيفت الفتنة عملاً بالأحاديث المذكورة وبعموم الأحاديث الموجبة لطاعتهم وإن جاروا، وأنَّ عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حملتم، وأدّوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم. ونحوها...
وقد روي عن بشير بن الخصاصية قال: ((قلنا: يا رسول الله إن قومًا من أصحاب الصدقة يعتدون علينا أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا؟ فقال: لا)) . أمَّا إذا لم يُلِحُّوا في طلبها وأُمِنَتْ الفتنة، أو أمكن إخفاؤها، فعلى صاحبها تحرِّي الأحق بها من أهلها ودفعها إليه... والله أعلم.
(2) الجزية:
المورد الثاني من موارد بيت مال المسلمين هو الجزية. وهي: المال المقدر المأخوذ من الذمي، يلتزم إذا ما دخل في ذمة المسلمين بأدائها إلى الدولة الإسلامية إذا أحبَّ البقاء على دينه. قال تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29 ]
وتسقط الجزية بعد وجوبها إذا أسلم الذمي، أو عجزت الدولة عن حمايتهم، ولهذا ردّ أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه الجزية إلى الذميين في بعض مدن الشام عند عجز الجيش الإسلامي عن حمايتهم.
ولا تجب الجزية في السنة إلا مرة واحدة .
(3) الخراج:
وهو ما ضُرب على أراضي الكفار المغنومة عنوة التي تركت بيد أصحابها، وأول من فعل ذلك الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ فرض على أرض العراق الخراج وتركها بيد أصحابها بعد مشاورة منه للصحابة رضي الله عنهم وموافقتهم له على رأيه، وأما قدر الخراج المضروب فيعتبر بما تحتمله الأرض نصَّ عليه أحمد في رواية محمد بن داود وقد سئل عن حديث عمر: (وضع على جَرِيب الكَرْمِ كذا وعلى جريب كذا كذا) هو شيء موصوف على الناس لا يزاد عليه أو عن رأى الإمام غير هذا زاد ونقص؟ قال بل هو على رأي الإمام إن شاء زاد وإن شاء نقص. وقال هو بَيِّن في حديث عمر: (إن زدت عليهم كذا ألا يجهدهم ؟) إنما نظر عمر إلى ما تطيق الأرض) .
(4) العشور:
وهي ضريبة تؤخذ من الذميين والمستأمنين على أموالهم المعدَّة للتجارة إذا دخلوا بلاد المسلمين، ومقدارها نصف العشر على الذمي، والعشر على الحربي، لأنهم يأخذون على تجّار المسلمين مثله إذا قدموا بلادهم أما الذميون فلأنهم صولحوا على ذلك، قاله أبو عبيد ومالك بن أنس وقد روى أبو عبيد بإسناده إلى الشعبي قال: (أول من وضع العشر في الإسلام عمر) .
ويشترط فيه النصاب كما ذهب إلى ذلك الحنابلة والحنفية ، أما مالك فلم يشترط ذلك .
(5) الغنائم:
الغنيمة هي المال المأخوذ من الكفار بالقتال. وقد سمّاها الله تعالى أنفالاً لأنها زيادة في أموال المسلمين وهي: أربعة أصناف: أسرى، وسبي، وأرضون، وأموال منقولة، وهذه هي الغنائم المألوفة.
(6) الفيء:
وهو كل ما أخذه المسلمون من الكفار بغير قتال، قال الله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [ الحشر: 6 ].
وسُمِّي فيئًا لأن الله تعالى أفاءه على المسلمين، أي ردّه عليهم من الكفار لـ (أن الله تعالى إنما خلق الأموال إعانة على عبادته، لأنه إنما خلق الخلق لعبادته، فالكافرون به أباح أنفسهم التي لم يعبدوه بها وأموالهم التي لم يستعينوا بها على عبادته، لعباده المؤمنين الذين يعبدونه) .
(7) الموارد الأخرى:
ومن موارد بيت المال الأموال التي ليس لها مالك مُعًيَّن مثل من مات من المسلمين وليس له وارث معيَّن، وكالغصوب، والعواري، والودائع. التي تعذَّر معرفة أصحابها، والأراضي التي تستغلُّها الدولة أو تؤجرها، والمعادن التي تستخرجها الدولة من باطن الأرض، وخمس الركاز. وهي: المعادن المستخرجة من باطن الأرض، كالذهب والفضة والنحاس والملح ونحوها... أما إذا استخرجتها الدولة فهي لبيت مال المسلمين. ومنها ما يفرضه الإمام على الأغنياء عند الضرورة وعجز بيت المال لصرفه على شؤون الدولة والرعية الضرورية مثل نفقات الجند والسلاح وسد حاجات المحتاجين ونحو ذلك.
مصارف بيت المال:
1- الزكاة:
وتصرف لمن سمّاهم الله في كتابه في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].
ولا يجوز صرفها لغير هؤلاء الثمانية، ولا إلى بني هاشم ولا لمواليهم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس)) .
أما بنو المطلب ففيهم روايتان عن الإمام أحمد بالمنع وبالجواز ، وإلى الجواز ذهب أبو حنيفة ، واستدل المانعون بحديث جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنا وبنوا المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نحن وهم شيءٌ واحد)) . قال ابن حزم: (فصحَّ أنه لا يجوز أن يُفَرَّق بين حكمهم في شيءٍ أصلاً، لأنَّهم شيءُ واحد بنصِّ كلامه عليه الصلاة والسلام، فصحّ أنهم آل محمد، وإذا هم آل محمد فالصدقة عليهم حرام) .
2- الجزية والخراج والعشور ونحوها:
فهذه تُدخَل إلى بيت مال المسلمين، وتصرف في العطاءات والنفقات المستحقة ومصروفات بيت المال الأخرى على حسب ما يراه الإمام. ونحوها موارد بيت المال الخاصة بالدولة كالأراضي المؤجرة والأموال التي لا صاحب لها ونحو ذلك.
3- الغنائم:
وهذه تصرف كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ...} [ الأنفال: 1 ]. وقوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ...} الآية [الأنفال: 41]. فالواجب في المغنم تخميسه، وصرف الخُمس إلى من ذكره الله تعالى، وقسمة الباقي بين الغانمين، قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (الغنيمة لمن شهد الوقعة، وهم الذين شهدوها للقتال سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا) .
ويجب قسمها بالعدل، فلا يحابى أحد لا لرياسة، ولا لجاه، ولا لفضل، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه من بعده. ففي (صحيح البخاري) أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رأى له فضلاً على من دونه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
((هل تُنْصَرون وترزقون إلا بضعفائكم)) والعدل في القسمة أن يقُسم للرجل سهم وللفرس سهمان، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر .
أما إن رأى الإمام أن في تفضيل بعض المجاهدين على بعض مصلحة دينية يعلمها هو، لا لهوى النفس، فله ذلك كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة .
4- الفيء:
وهذا يقسم على من ذكرهم الله في سورة الحشر قال تعالى: {مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [ لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ] وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} ]الحشر: 7-10[.]
وعن عمر بن الخطاب رضي الله قال: (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه من خيل ولا ركاب، فكانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - فكان ينفق على أهله نفقة سنته). وفي لفظ: (يحبس لأهله قوت سنتهم ويجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وعلى هذا فيصرف الفيء بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع مصالح المسلمين، ومنها الإنفاق على ذوي الحاجات ودفع الأرزاق للجند والعلماء والقضاة وسائر موظفي الدولة، كما يعطى منه إلى عموم المسلمين، وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم في سيرتهم وهديهم، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد، والله ما من المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب إلا عبدًا مملوكًا، ولكنا على منازلنا من كتاب الله تعالى وقسمنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته) .
وقد روي عنه أيضًا: (والله لئن بقيت لهم إلى قابل ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظَّه من هذا المال وهو يرعى مكانه) .
ويفهم من هذا كله أن عموم المسلمين لهم نصيب من مال الفيء، فيعطون منه بعد سد النفقات الضرورية للدولة.
5- ويلحق بالفيء ويكون مصرفه مصرف الفيء الأموال التي ليس لها مالك معين، مثل من مات من المسلمين وليس له وارث، وكالغصوب، والعواري، والودائع وغير ذلك من أموال المسلمين التي تعذر معرفة أصحابها ، أو التي لا صاحب لها.
وجوه صرف الأموال:
الواجب على الإمام عند صرف الأموال أن يبتدئ في القسمة بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين، كعطاء من يحصل للمسلمين منهم منفعة عامة أو المحتاجين فمن هؤلاء:
1- المقاتلة: وهم أهل النصرة والجهاد، وهم أحق الناس بالفيء، فإنه لا يحصل إلا بهم، حتى اختلف الفقهاء في مال الفيء هل هو مختص بهم أو مشترك في جميع المصالح ؟ وكذلك إذا قتل أو مات من المقاتلة فإنه ترزق امرأته وأولاده الصغار حتى يكبروا .
2- ذوو الولايات كالولاة والقضاة والعلماء والسعاة على المال جمعًا وحفظًا وقسمةً، وجميع القائمين على مصالح المسلمين.
3- كذلك يصرف في الأثمان والأجور لما يعم نفعه من سداد الثغور بالكراع والسلاح، وعمارة ما يحتاج إلى عمارته من طرقات الناس كالجسور والقناطر وطرقات المياه والأنهار ونحو ذلك.
4- ومن المستحقين ذوو الحاجات: فإن الفقهاء قد اختلفوا هل يقدَّمون في غير الصدقات من الفيء ونحوه - على غيرهم؟ على قولين في مذهب الإمام أحمد وغيره منهم من قال يقدَّمون، ومنهم من قال: المال استحق بالإسلام، فيشتركون فيه كما يشترك الورثة في الميراث، قال ابن تيمية: (والصحيح أنهم يقدَّمون، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقدِّم ذوي الحاجات كما قدَّمهم في مال بني النضير، وقال عمر رضي الله عنه: ليس أحد أحق بهذا المال من أحد...) . وذكر كلام عمر الآنف الذكر.
5- كما يجوز - بل يجب - الإعطاء لتأليف من يحتاج إلى تأليف قلبه، وإن كان لا يحل له أخذ ذلك، كما خصَّص الله في القرآن نصيبًا للمؤلفة قلوبهم من الصدقات، وكما كان يعطيهم - صلى الله عليه وسلم - من الفيء ونحوه فقد أعطى الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن الفزاري، وعلقمة العامري، وزيد الخير الطائي وقال: ((إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم)) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا النوع من العطاء وإن كان ظاهره إعطاء الرؤساء وترك الضعفاء كما يفعل الملوك فالأعمال بالنيات، فإذا كان القصد بذلك مصلحة الدين وأهله، كان من جنس عطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، وإن كان المقصود العلو في الأرض والفساد كان من جنس عطاء فرعون..)
أما عن حقوق العاملين في الدولة فعلى الدولة تأمين الزواج للموظف والمسكن والخادم والمركب، كما في الحديث الذي رواه أبو داود بإسناده إلى جبير بن نفير عن المستورد بن شداد قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادمًا، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنًا، قال: قال أبو بكر: أخبرتُ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من اتخذ غير ذلك فهو غالّ أو سارق)) .
وكذلك من مات وعليه دين، وليس له مال يفي بدينه، أو له أولاد قُصَّر فإن الإمام يؤدي ما عليه من دين من بيت مال المسلمين، كما في الحديث الذي رواه أبو هريرة قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كلاًّ فعلينا)) وفي رواية عن جابر بن عبد الله: ((أنا أولى بكُلِّ مؤمن من نفسه فأيّما رجل مات وترك دينًا فإليّ، ومن ترك مالاً فلورثته)) .
ومن واجبات الإمام بالإضافة إلى ما سبق:
ثانيًا: اختيار الأكفاء للمناصب القيادية:
نظرًا لثقل الأعباء المنوطة بالإمام فإنه لا يستطيع وحده القيام بتدبيرها جميعًا، ولذلك كان لابد له من ولاة ومعاونين يقومون وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ((إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه)) .
وعنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله لم يبعث نبيًا إلا وله بطانتان. بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً، ومن يوق بطانة السوء فقد وقي)) .
ويدخل في الحكم الوزراء والبطانة جميع الولاة الذين يقوم بتوليتهم، كالقضاة، وولاة الحرب، والحسبة، والمال. وغيرهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فيجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل) .
كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من ولي من أمر المسلمين شيئًا فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله)) . وفي رواية: ((من قلد رجلاً عملاً على عصابة، وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين)) . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (من ولي من أمر المسلمين شيئًا فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين) فليس على الإمام إلا أن يستعمل أصلح الموجود، وقد لا يكون في موجوده من هو صالح لتلك الولاية فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب بحسبه، وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام وأخذه الولاية بحقها، فقد أدى الأمانة وقام بالواجب في هذا وصار في هذا الموضع من أئمة العدل المقسطين عند الله.
هذا وابن تيمية - رحمه الله - لم يقصر واجب ولي الأمر على تولية الأصلح فقط، بل تعدَّى ذلك إلى وجوب الإعداد والتأهيل ليتوفر لأعمال الدولة من يتولاها من القادرين على القيام بها، حيث يقول: (ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة إذا كان أصلح الموجود، فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال، حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم من أمور الولايات والإمارات ونحوها، كما يجب على المعسر السعي في وفاء دينه، وإن كان في الحال لا يُطلب منه إلا ما يقدر عليه..) فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما أو صداقة أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس كالعربية والفارسية والتركية والرومية ونحو ذلك، أو لرشوة يأخذها من مال أو منفعة أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ودخل فيما نهى الله عنه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27 ] لذلك تعتبر تولية الولاة والاستعانة بالأعوان مسؤولية جسيمة يجب أن لا تسلَّم إلا لأربابها الذين يقْدِرون عليها، وإنها من أعظم الأمانات، ومن أخطر الأمور توسيدها لغير أهلها، بل ذلك من علامات الساعة، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا ضُيِّعَت الأمانة، انتظر الساعة. قيل: يا رسول الله وما إضاعتها؟ قال: إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته...)) الحديث . وروي عن عمران بن سُليم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((من استعمل فاجرًا وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله)) .
محاسبتهم:
هذا مع أن من واجب الإمام حسن اختيار ولاته والتدقيق والتحري في ذلك، فإن عليه أيضًا تتبُّع أخبارهم، ومحاسبتهم على كلِّ صغيرة وكبيرة، فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي حميد الساعدي ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل ابن اللتبية - وفي رواية الأتبية - على صدقات بني سُليم، فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاسبه قال: هذا لكم وهذه هدية أهديت لي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فهلا جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقًا؟ ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخطب في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فإني أستعمل رجالاً منكم على أمور مما ولاني الله، فيأتي أحدكم فيقول: هذا لكم وهذه هدية أهديت لي. فهلاّ جلس في بيت أبيه وبيت أمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقًا؟ فوالله لا يأخذ أحدكم منها شيئًا - قال هشام: بغير حقه - إلا جاء الله يحمله يوم القيامة. ألا فَلأَعْرِفَنَّ ما جاء الله رجلٌ ببعير له رغاء، أو ببقرة لها خوار، أو شاة تَيْعَر - ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه - ألا هل بلغت ؟)) .
وعن الأحنف بن قيس - وكان أحد ولاة عمر رضي الله عنه - قال: (قدمت على عمر بن الخطاب رضوان الله عليه فاحتبسني عنده حولاً، فقال: يا أحنف قد بلوتك وخبرتك، فرأيت أن علانيتك حسنة، وأنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك، وإنَّا كنا لنُحَدَّث: إنما يهلك هذه الأمة كلُّ منافق عليم) .
ثالثًا: الإشراف بنفسه على تدبير الأمور وتفقُّد أحوال الرعية:
أن الإمام هو المسؤول الأول عن كل صغيرة وكبيرة في الدولة، ومع أنه يُشْرَع له اتخاذ الوزراء والأعوان على تدبير الأمور، إلا أنه يجب عليه أن يشرف بنفسه على هؤلاء الوزراء والأعوان، وأن لا يتَّكل عليهم، فعليه أيضًا أن يقوم بالإشراف على أحوال الرعية ويتفقد أحوالهم، وأن لا يحتجب عنهم حتى يعرف أوضاعهم، فيعين محتاجهم، وينصر مظلومهم، ويقمع ظالمهم، قال أبو يعلى في تعداده لواجبات الإمام: (العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال، ليهتمَّ بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغشُّ الناصح، وقد قال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ ص: 26 ] فلم يقتصر سبحانه على التفويض دون المباشرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) . ) .
والذي يدلّ على ما سبق ذكره من وجوب مباشرة الإمام بنفسه وعدم الاحتجاب عن رعيته والنصح لهم ما رواه أبو داود بإسناد إلى أبي مريم الأزدي قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من ولاَّه الله عز وجل شيئًا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخُلَّتِهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره)) . واختلف في مشروعية الحاجب للحكام...
رابعًا: الرفق بالرعية والنصح لهم وعدم تتبع عوراتهم:
كما أن من واجبه أيضًا الرفق بهذه الرعية التي استرعاه الله أمرها، والنصح لهم، وعدم تتبع سوءاتهم وعوراتهم، وقد ورد في هذا الواجب أحاديث وآثار كثيرة منها:
ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في بيتي هذا: ((اللهم من وَلِيَ من أمر أمتي شيئًا فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به)) .
قال النووي: (هذا من أبلغ الزواجر عن المشقة على الناس، وأعظم الحثِّ على الرفق بهم، وقد تظاهرت الأحاديث بهذا المعنى) .
ومنها ما رواه البخاري بسنده إلى الحسن قال: إن عبيد الله بن زياد زار مَعْقِل بن يسار في مرضه الذي مات فيه، فقال له معقل: إني محدثك حديثًا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية من المسلمين فيموت وهو غاشّ لهم إلا حرَّم الله عليه الجنة)) . وعند مسلم قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من عبد يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل الجنة معهم)) .
وعن الحسن أن عائذ بن عمرو كان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على عبيد الله بن زياد فقال: أي بني: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن شرَّ الرّعاء الحُطَمَةَ ، فإياك أن تكون منهم، فقال له: اجلس إنما أنت من نخالة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال: وهل كانت لهم نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم)) .
ومنها ما رواه أبو داود بسنده عن أبي أمامة قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا ابتغى الأمير الرِّيبة في الناس أفسدهم)) .
وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت تفسدهم)) .
خامسًا: أن يكون قدوة حسنة لرعيته:
من طبيعة النفس البشرية أنها دائمًا مولعة بتقليد الأقوى سواء كان في الخير أو الشرّ، وحيث إن الإمام هو الذي في يده زمام السلطة والتدبير، فإن نفوس الرعية تكون مولعة فيما يذهب إليه، لذلك وجب عليه أن يكون قدوة حسنة لأتباعه حتى يسيروا على نهجه، ويقلِّدوه في سنَّته الحسنة، لأنَّ عيونهم معقودة به وأبصارهم شاخصة إليه، فإن أي صغيرة تبدو منه تتجسم لدى العامّة، ويتخذون منها ثغرة ينفذون منها إلى الانحراف، وقلَّ أن يردَّهم بعد ذلك نصح أو تخويف.
(ولذلك لما دخل قائد جيش المسلمين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قصر كسرى وهو يتلوا قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} [ الدخان: 25 - 28 ] أرسل سعد كل ما في قصر كسرى إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأخذ عمر رضي الله عنه يقلِّب هذه النفائس ويقول: إن قومًا أدُّوا هذا لأمناء. فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لقد عففت فعفَّت رعيتك، ولو رتعت لرتعت) ثم قسم عمر ذلك في المسلمين .
وقد روى البخاري رحمه الله عن أبي بكر رضي الله عنه في حديثه للأحمسية لما سألته: ما بقاء هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: (ما استقامت بكم أئمتكم) .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الناس لم يزالوا مستقيمين ما استقامت لهم أئمتهم وهداتهم) ، وقال: (الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، فإن رتع الإمام رتعوا) . لذلك كان من سيرته رضي الله عنه - كما ذكر ذلك سالم بن عبد الله عن أبيه قال: (كان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شيء تقدَّم لأهله فقال: لا أعلمن أحدًا وقع في شيء مما نهيت عنه إلا أضعفت له العقوبة) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وينبغي أن يُعْرف أن أولي الأمر كالسوق ما نفق فيه جُلب إليه، هكذا قال عمر بن عبد العزيز، فإن نفق فيه الصدق والبرّ والعدل والأمانة جُلب إليه ذلك، وإن نفق فيه الكذب والجور والخيانة جُلب إليه ذلك)
الفصل الخامس: حقوق الإمام
المبحث الأول: حق الطاعة
الطاعة دعامة من دعائم الحكم في الإسلام وقاعدة من قواعد نظامه السياسي، وهي من الأمور الضرورية لتمكين الإمام من القيام بواجبه الملقى على عاتقه، وضرورية أيضًا لتمكين الدولة من تنفيذ أهدافها وتحقيق أغراضها، ورضي الله عن عمر بن الخطاب حيث يقول: (لا إسلام بلا جماعة، ولا جماعة بلا أمير، ولا أمير بلا طاعة).
وإن من أهم ما يميز نظام الإسلام عن غيره من النظم الأرضية التي وضعها البشر هو ذلك الوازع الديني في ضمير المؤمن، فهو يستشعر - عند قيام الإمام بواجبه - أن الله سبحانه وتعالى قد أوجب عليه الطاعة لهذا الإمام، فيؤنبه ضميره ويردعه وازعه الديني عن الإخلال بنظام الدولة أو التمرد والعصيان على أي أمر من أمور الدولة التي وضعتها لصالح الأمة، وإن غابت عنه عين الرقيب والحارس لهذا النظام، لأنه يشعر بأن الرقيب حيّ قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو مطلع عليه عالم بأحواله في كل لحظة وأوان. وهذا ما لا وجود له في النظم الأرضية، فكل منهم يراقب عين الرقيب وحارس النظام، وهو بشر مثلهم، ومن طبيعة البشر الضعف والغفلة والتقصير، فإن غاب عنه فلا رقيب ولا حارس ولا وازع ديني أو خلقي يردعه من التمرد على هذا النظام المراد حفظه.
كذلك المؤمن إذا اتخذ هذه الطاعة قربة لله سبحانه وتعالى وعبادة، فله عليها الأجر الجزيل، لأنه يطيعهم امتثالاً لأمر الله ورسوله بذلك لا لأشخاصهم. فيرجو من الله الثواب على ذلك. أما النظم الأخرى فلا رجاء ولا أجر إلا ما يصيبه في هذه الحياة الدنيا من حطامها، ومن النتائج المترتبة على حفظ هذه النظم، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} [الرعد: 26].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم و إن منعوه عصاهم فما له في الآخرة من خلاق) .
وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو غير ذلك، ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها وفى وإن لم يعطه لم يفِ)) .
لذلك فالسمع والطاعة لخلفاء المسلمين وأئمتهم من أجل الطاعات والقربات عند الله تعالى، ومن الواجبات الملقاة على عاتق كل مسلم..
قال ابن كثير: (وقال الصياح بن سوادة الكندي: سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ...} الآية [ الحج: 41]. ثم قال: (ألا إنها ليست على الوالي وحده ولكنها على الوالي والموالى عليه، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلك؛ وبما للوالي عليكم منه؟ إنَّ لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم، وأن يهديكم إلى التي هي أقوم ما استطاع، وإنَّ عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكرهة ولا المخالف سرها علانيتها) .
أدلة وجوبها:
السمع والطاعة للإمام من أهم حقوقه الواجبة له، ومن أعظم الواجبات على الرعية له، وقد دَلَّ على ذلك الكتاب والسنة:
فمن الكتاب:
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [ النساء: 59 ].
فلما أمر الله تعالى الرعاة والولاة بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل في الآية السابقة لها: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} أمر الرعية من الجيوش وغيرهم بطاعة أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . وأولو الأمر في هذه الآية هم كما قال الشوكاني: (الأئمة والسلاطين والقضاة وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية، والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية) .
وقال ابن حجر: (قال ابن عيينة: سألت زيد بن أسلم عنها - أي عن أولي الأمر في هذه الآية - ولم يكن بالمدينة أحد يفسر القرآن بعد محمد بن كعب مثله - فقال: اقرأ ما قبلها تعرف، فقرأت: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمواْ بِالْعَدْل} الآية. فقال: هذه في الولاة) .
وتشمل أيضًا العلماء كما رواه الطبري بإسناده عن ابن عباس وابن أبي نجيح والحسن ومجاهد وعطاء وغيرهم .
فالصواب إذًا شمولها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأولو الأمر أصحابه وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء، والأمراء. فإذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس) .
ثانيًا: من السنة:
أما من السنة فالأحاديث كثيرة في وجوب السمع والطاعة للأئمة في غير معصية نأخذ منها ما يلي:
1- ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني)) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
2- ومنها ما رواه البخاري بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله)) . وفي رواية إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذر: ((اسمع وأطع ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة)) .
3- ومنها ما رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله ! كيف تأمر من أدرك ذلك منا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم)) .
4- ومنها ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم) .. وفي رواية لمسلم: ((إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان)) .
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الموجبة لطاعة الأئمة في غير معصية وإن جاروا، روى أبو عبيد القاسم بن سلام بسنده إلى مصعب بن سعد قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كلمات أصاب فيهن الحق، قال: (يحق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا ويجيبوه إذا دعا) .
طاعة الإمام ليست مطلقة:
حينما أوجب الله عز وجل على الرعية أن تطيع ولاة الأمور المسلمين لم يجعل هذه الطاعة مطلقة من كل قيد، وذلك لأن الحاكم والمحكوم كلهم عبيد لله عز وجل، واجب عليهم طاعته وامتثال أوامره، لأنه هو الحاكم وحده، فإذا قصرت الرعية في حق من حقوق الله تعالى فعلى الحاكم تقويمها بالترغيب والترهيب حتى تستقيم على الطريق، وكذلك الحاكم إذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة له، وإنما على الأمة نصحه وإرشاده، والسعي بكل وسيلة إلى إرجاعه إلى الحق شريطة ألا يكون هناك مفسدة أعظم من مصلحة تقويمه، وإلا فعلى الرعية الصبر حتى يقضي الله فيه بأمره ويريحهم منه...
أدلة تقييد سلطة الحاكم:
والأدلة على تقييد سلطة الحاكم وأنه لا طاعة له في معصية كثيرة جدًا نأخذ منها بعض النماذج:
أولاً: من كتاب الله:
1- يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59].
قال الحافظ ابن حجر: قال الطيبي: (أعاد الفعل في قوله: {وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة، ولم يعده في أولي الأمر إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته، ثم بين ذلك في قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} كأنه قيل: فإن لم يعملوا بالحق فلا تطيعوهم وردوا ما تخالفتم فيه إلى حكم الله ورسوله) .
وعن أبي حازم سلمة بن دينار أن مسلمة بن عبد الملك قال: (ألَسْتُم أمرتم بطاعتنا في قوله: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}؟ قال: أليست قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله: {فردوه إلى الله والرسول...} [النساء: 59] ).
فالشاهد من الآية أن الإمام المطاع يجب أن يكون من المسلمين ... وأنه إذا وقع خلاف بينه وبين رعيته فالحكم في ذلك هو كتاب الله وسنة رسوله لا هواه وبطشه، فدل ذلك على تقييد سلطته بإتباع الكتاب والسنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إنهم - أي أهل السنة والجماعة - لا يجوزون طاعة الإمام في كل ما يأمر به، بل لا يوجبون طاعته إلا فيما تسوغ طاعته فيه في الشريعة، فلا يجوزون طاعته في معصية الله وإن كان إمامًا عادلاً، فإذا أمرهم بطاعة الله أطاعوه، مثل أن يأمرهم بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصدق، والعدل، والحج، والجهاد في سبيل الله. فهم في الحقيقة إنما أطاعوا الله، والكافر والفاسق إذا أمر بما هو طاعة لله لم تحرم طاعة الله، ولا يسقط وجوبها لأمر ذلك الفاسق بها، كما أنه إذا تكلم بحق لم يجز تكذيبه ولا يسقط وجوب اتباع الحق لكونه قد قاله فاسق) .
قال: (فأهل السنة: لا يطيعون ولاة الأمور مطلقًا إنهم يطيعونهم في ضمن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ...} الآية [النساء: 59]) .
2- ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [ الممتحنة: 12]
والشاهد من الآية قوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} روى ابن جرير بسنده عن ابن زيد في قوله: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبيّه وخيرته من خلقه، ثم لم يستحلّ له أمر إلا بشرط، لم يقل {لا يَعْصِينَكَ} ويترك. حتى قال: {فِي مَعْرُوفٍ} فكيف ينبغي لأحد أن يطاع في غير معروف وقد اشترط الله هذا على نبيه) .
وقال الزمخشري مفسراً سبب تقييد طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمعروف مع أنه لا يأمر إلا بالمعروف: (نبه بذلك على أن طاعة المخلوق في معصية الخالق جديرة بالتوقي والاجتناب) .
وقال الكيا الهراسي: (يؤخذ من قوله: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} أنه لا طاعة لأحد في غير معروف) قال: (وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن إلا بمعروف وإنما شرطه في الطاعة لئلا يترخص أحد في طاعة السلاطين) .
فيؤخذ من هذا أن طاعة المخلوقين جميعهم: حاكمهم ومحكوميهم مقيدة بأن تكون بالمعروف، والمعروف هو ما عرف من الشارع والعقل السليم حسنه أمرًا كان أو نهيًا، والحكم في ذلك هم العلماء الذين يستنبطون الحكم من الكتاب والسنة كما قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [ النساء: 83]. إذا لم يكن الإمام عالمًا - مع أنه من شروطه - وكما شملت الآية السابقة {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} العلماء أيضًا، ولأننا أمرنا عند التنازع بالتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله وهذا ما يحمله علماء الشرع ويتعلمونه ويعلمونه. لذلك كله تكون طاعة الحكام تبعًا لطاعة العلماء وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله: (والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان الناس كلهم تبعًا لهم، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين، وفساده بفسادهما كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف: (صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، قيل من هم؟ قال: الملوك والعلماء) وكما قال عبد الله بن المبارك:
المبحث الثاني: النصرة والتقدير
اتضح لنا عند ذكر واجبات الإمام عظم المسئولية الملقاة على عاتقه، ومنها محاربته للفساد والمفسدين، وهذه تجعله في خطر منهم، لذلك فعلى الأمة أن تقوم بجانبه وتساعده على نوائب الحق، ولا تُسْلِمُه لأعدائه المفسدين سواء كانوا داخل الدولة الإسلامية أو خارجها، يدل على ذلك ما يلي:
1- قول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ...} [المائدة: 2] ولا شك أن معاضدة الإمام الحق ومناصرته من البر الذي يترتب عليه نصرة الإسلام والمسلمين.
2- يدل على ذلك أيضًا ما رواه عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا رقبة الآخر...)) الحديث .
قال أبو يعلى: (وإذا قام الإمام بحقوق الأمة وجب له عليهم حقان الطاعة والنصرة ما لم يوجد من جهته ما يخرج به عن الإمامة) ...
ولذلك شرع قتال أهل البغي إذا بدؤوا بقتال الإمام العادل بدون تأويل سائغ، كما شرع حد الحرابة في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ...} [المائدة: 33].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إذا طلبهم - أي المحاربين - السلطان أو نوابه لإقامة الحد بلا عدوان فامتنعوا عليه، فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء حتى يقدر عليهم كلهم) .
وللموضوع تفصيلات كثيرة مذكورة في كتب الفقه ليس هذا مقام تفصيلها... كما أن على المسلمين احترام الإمام العادل وتقديره والدعاء له وعدم إهانته حتى يكون له مهابة عند ضعاف النفوس، فيرتدعون عما تمليه عليهم عواطفهم وشهواتهم يدل على ذلك ما يلي:
1- ما روي عن زياد بن كسيب العدوي قال: ((كنت مع أبي بكرة - رضي الله عنه - تحت منبر ابن عامر وهو يخطب وعليه ثياب رقاق، فقال أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفساق، فقال أبو بكرة: اسكت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله)) .
2- وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)) .
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (ما مشى قوم إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله قبل أن يموتوا) .
وقال الفضيل بن عياض: (لو أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للإمام لأن به صلاح الرعية، فإذا صلح أمنت العباد والبلاد) .
وقال سهل بن عبد الله رحمه الله: (لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفوا بهذين أفسدوا دنياهم وأخراهم) .
هذا بشرط أن يكون الإمام من أئمة العدل، أما أئمة الجور والفسق فلا يعانون على فسقهم وظلمهم، وقد قال مالك رحمه الله فيما رواه عنه ابن القاسم أنه قال: (إن كان الإمام مثل عمر بن عبد العزيز وجب على الناس الذب عنه والقتال معه، وأما غيره فلا، دعه وما يراد منه ينتقم الله من الظالم بظالم، ثم ينتقم من كليهما) .
بل إذا رأى المسلم أنه لا فائدة من الدخول عليهم ومناصحتهم أو خاف على نفسه فتنتهم فعليه اعتزالهم، وترك الدخول عليهم، والحذر من موافقتهم على باطل، يدل على ذلك ما يلي:
1- حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني، ولست منه، وليس بوارد عليَّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم بكذبهم، فهو مني وأنا منه، وهو وارد عليَّ الحوض)) .
قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: (ليت شعري من الذي يدخل إليهم اليوم فلا يصدقهم على كذبهم، ومن الذي يتكلم بالعدل إذا شهد مجالسهم، ومن الذي ينصح ومن الذي ينتصح منهم؟ إن أسلم لك يا أخي في هذا الزمان وأحوط لدينك أن تقل من مخالطتهم وغشيان أبوابهم ونسأل الله الغنى عنهم والتوفيق لهم) .
... وهذا في القرن الرابع الهجري فما بالك بالخامس عشر!!!
2- ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد عبد من السلطان قربًا إلا ازداد من الله بعدًا)) .
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((... وإن أبغض القراء إلى الله الذي يزورون الأمراء)) .
4- وروي عن حذيفة رضي الله عنه قال: (إياكم ومواطن الفتن، قيل: وما هي؟ قال: أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير، فيصدقه بالكذب ويقول ما ليس فيه) .
وقال خالد بن زيد: سمعت محمد بن علي - الباقر - يقول: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إذا رأيتم القارئ يحب الأغنياء فهو صاحب دنيا وإذا رأيتموه يلزم السلطان فهو لص) .
وقال أبو ذر لسلمة: (يا سلمة لا تغش أبواب السلاطين، فإنك لا تصيب من دنياهم شيئًا إلا أصابوا من دينك أفضل منه) .
وقال سعيد بن المسيب: (لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار بقلوبكم لكي لا تحبط أعمالكم الصالحة) .
وروى الإمام أحمد عن معمر بن سليمان الرقي عن فرات بن سليمان عن ميمون بن مهران قال: (ثلاث لا تبلون نفسك بهن، لا تدخل على سلطان وإن قلت آمره بطاعة الله، ولا تدخل على امرأة وإن قلت أعلمها كتاب الله، ولا تصغين بسمعك إلى ذي هوى فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك من هواه) .
والمراد من كل ما سبق هم سلاطين الجور والظلم، والنهي عن مخالطتهم وإتيانهم بقصد التقرب إليهم وحصول شيء من دنياهم.
وإعانتهم على ظلمهم قد تكون بمجالستهم ومؤازرتهم، وقد تكون بتبرير أخطائهم، بل قد تكون بالسكوت عنهم وعدم إنكار المنكر عليهم، وتكون بالدعاء لهم كما قيل: (من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يعصى الله في أرضه) .
قال ابن تيمية: (وقد قال غير واحد من السلف: أعوان الظلمة من أعانهم ولو أنه لاق لهم دواة أو برى لهم قلمًا. ومنهم من كان يقول: بل من يغسل ثيابهم من أعوانهم، وأعوانهم هم أزواجهم المذكورون في الآية) .
يقصد قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ...} [الصافات: 22].
أما الدخول عليهم على سبيل النصح لهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر فهذا باب آخر... كما أن خلفاء المسلمين العدول تجب مناصحتهم ومؤازرتهم ومشاركتهم في الرأي، وقد كان القراء هم أصحاب مجلس عمر رضي الله عنه ومشاورته .
وقد عقد الغزالي في (إحياء علوم الدين) بابًا فيما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة وما يحرم، وحكم غشيان مجالسهم والدخول عليهم والإكرام لهم. فقال: (اعلم أن لك مع الأمراء والعمال الظلمة ثلاثة أحوال (الحالة الأولى) وهي: شرها أن تدخل عليهم. (والثانية) وهي: دونها أن يدخلوا عليك. (والثالثة) وهي: الأسلم أن تعتزل عنهم فلا تراهم ولا يرونك...) .
قال: (ولا يجوز الدخول إلا بعذرين:
أحدهما: أن يكون من جهتهم أمر إلزام لا أمر إكرام، وعلم أنه لو امتنع أُوذِي أو (فسد) . عليهم طاعة الرعية واضطرب عليهم أمر السياسة، فيجب عليه الإجابة لا طاعة لهم بل مراعاة لمصلحة الخلق حتى لا تضطرب الولاية.
والثاني: أن يدخل عليهم في دفع ظلم عن مسلم سواه أو عن نفسه، إما بطريق الحسبة، أو بطريق التظلم فذلك رخصة بشرط ألا يكذب ولا يثني ولا يدع نصيحة يتوقع لها قبولاً، فهذا حكم الدخول) .
... ويضاف إلى ما سبق أمر آخر وهو:
الثالث: الدخول عليهم بقصد مناصحتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، كما دل عليه الحديث: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) ...
وقد كان من شدة ورع بعض السلف رضوان الله عليهم أن نهوا عن الدخول عليهم ولو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (وقد كان كثير من السلف ينهون عن الدخول على الملوك لمن أراد أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر أيضًا. وممن نهى عن ذلك عمر بن عبد العزيز، وابن المبارك، والثوري وغيرهم من الأئمة. وقال ابن المبارك: ليس الآمر الناهي من اعتزلهم، وسبب هذا ما يخشى من فتنة الدخول عليهم فإن النفس قد تخيل للإنسان إذا كان بعيدًا عنهم أنه يأمرهم وينهاهم ويغلظ عليهم، فإذا شاهدهم قريبًا مالت النفس إليهم، لأن محبة الشرف كامنة في النفس له ولذلك يداهنهم ويلاطفهم وربما مال إليهم وأحبهم ولا سيما إن لاطفوه وأكرموه وقبل ذلك منهم) .
قال: (وقد جرى ذلك لعبد الله بن طاوس مع بعض الأمراء بحضرة أبيه طاوس فوبَّخَهُ على فعله ذلك، وكتب سفيان الثوري إلى عبَّاد بن عبَّاد وكان في كتابه: (إياك والأمراء أن تدنو منهم أو تخالطهم في شيء من الأشياء، وإياك أن تخدع ويقال لك: لتشفع وتدرأ عن مظلوم أو ترد مظلمة، فإن ذلك خديعة إبليس، وإنما اتخذها فجار القراء سلمًا، وما كفيت عن المسألة والفتيا فاغتنم ذلك ولا تنافسهم، وإياك أن تكون ممن يحب أن يعمل بقوله، أو ينشر قوله أو يسمع قوله، فإذا ترك ذلك منه عرف فيه، وإياك وحب الرياسة، فإن الرجل يكون حب الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة، وهو: باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة فتفقد بقلب واعمل بنية، واعلم أنه قد دنا من الناس أمر يشتهي الرجل أن يموت والسلام) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
المبحث الثالث: المناصحة
إن الإمام بَشَرٌ، يعتريه ما يعتري البشر من الضعف والخطأ والنسيان، ولذلك شرعت النصيحة له لتذكيره وتبيين ما قد يخفى عليه من الأمور، وهذه من حقوقه على الرعية، فعلى الرعية القيام بأدائها إليه سواء طلبها أم لا، والأدلة على هذا كثيرة منها:
1- ما رواه مسلم في صحيحه عن تميم الداري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الدين النصيحة)). وفي رواية - قالها ثلاثًا - قلنا: لمن؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) .
وهذا من الأحاديث العظيمة ومن جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم -، قال النووي: (وأما ما قاله جماعة من العلماء أنه أحد أرباع الإسلام، أي: أحد الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الإسلام فليس كما قالوا بل المدار على هذا وحده) .
ومعنى النصيحة لله كما نقله النووي عن الخطابي وغيره من العلماء: (أن معناها منصرف إلى الإيمان به، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بصفات الكمال، والجلال كلها، وتنزيهه سبحانه وتعالى عن جميع النقائص، والقيام بطاعته، واجتناب معصيته، والحب فيه والبغض فيه...
وأما النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى: فالإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخشوع عندها.
وأما النصيحة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فتصديقه على الرسالة، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه، ونصرته حيًا وميتًا، ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء سنته وبث دعوته ونشر شريعته...
وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه، وأمرهم به وتذكريهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب الناس لطاعتهم.
وأما النصيحة لعامة المسلمين وهم من عدا ولاة الأمر: فبإرشادهم إلى مصالحهم في آخرتهم ودنياهم... وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر) .
والنصيحة كما قال الخطابي: (كلمة جامعة معناها: حيازة الحظ للمنصوح له، قال: ويقال هو: من وجيز الأسماء، ومختصر الكلام، وليس في كلام العرب كلمة مفردة يستوفي بها العبارة عن هذه الكلمة) .
وقال أبو عمرو بن الصلاح: (النصيحة: كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلاً) .
2- ومنها ما رواه جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخيف من منى فقال: ((نضر الله امرءًا سمع مقالتي فبلغها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)) .
مما سبق نستنتج أن النصيحة أصل عظيم من أصول الإسلام ولذلك عدها ابن بطة من أصول السنة عند السلف رضوان الله عليهم .
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما يبايع أحدًا، يشترط عليه النصح لكل مسلم. قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه: (بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - على النصح لكل مسلم) .
وقد دأب الصحابة رضوان الله عليهم على أداء هذا الحق لأئمتهم، فقد روى الإمام أحمد بسنده إلى محمد بن عبد الله (أن عبد الله بن عمر لقي ناسًا خرجوا من عند مروان فقال: من أين جاء هؤلاء؟ قالوا: خرجنا من عند الأمير مروان، قال: وكل حق رأيتموه تكلًّمتم به وأعنتم عليه، وكل منكر رأيتموه أنكرتموه عليه؟ قالوا: لا والله، بل يقول ما ينكر فنقول قد أصبت أصلحك الله، فإذا خرجنا من عنده قلنا: قاتله الله ما أظلمه وأفجره. قال عبد الله: كنا بعهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعدُّ هذا نفاقًا لمن كان هكذا) .
وقد رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن يؤدي المؤمن هذه النصيحة إلى أئمة الجور وإن خاف منهم الهلاك وعد ذلك من أفضل الجهاد يدل عليه الأحاديث التالية:
1- عن أبي أمامة رضي الله عنه ((أن رجلاً قال: يا رسول الله ! أي الجهاد أفضل؟ ورسول الله يرمي الجمرة الأولى فأعرض عنه، ثم قال له عند الجمرة الوسطى فأعرض عنه، فلما رمى جمرة العقبة ووضع رجله في الغرز قال: أين السائل؟ قال: أنا ذا يا رسول الله. قال: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) .
قال الخطابي: (إنما كان هذا أفضل الجهاد لأن من جاهد العدو كان على أمل الظفر بعدوه ولا يتيقن العجز عنه، لأنه لا يعلم يقينًا أنه مغلوب، وهذا يعلم أن يد سلطانه أقوى من يده، فصارت المثوبة فيه على قدر عظيم المئونة) .
2- وعن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى رجل فأمره ونهاه في ذات الله فقتله على ذلك)) .
3- وروى أحمد بسنده إلى عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له إنك أنت ظالم فقد تُوُدِّع منها)) .
وقد كان الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم يَحُثُّون أقوامهم على نصحهم وتقويمهم إذا أخطئوا، فهذا أبو بكر رضي الله عنه يقول في خطبته المشهورة: (أيها الناس إنما أنا متبع، ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوِّموني) .
وقال رضي الله عنه: (إني قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوِّموني) .
وهذا عمر رضي الله عنه يقول فيما رواه سفيان بن عيينة عنه: (وأحب الناس إليَّ من رفع إليَّ عيوبي) وكذلك بقية الخلفاء.
كما أنه ينبغي للناصح للسلطان أن يراعي مكانته بحيث لا يخرق هيبته. يدل على ذلك حديث عياض بن غنم الأشعري رضي الله عنه قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان عنده نصيحة لذي سلطان فلا يكلمه بها علانية، وليأخذ بيده فلْيخل به، فإن قَبِلَهَا، قَبِلَهَا، وإلا كان قد أدى الذي عليه والذي له)) .
كما أنه يجب على الناصح أن يحذر التأنيب والتعيير والغيبة والسعاية حتى تكون خالصة لله تعالى.
وقد كان علماء السلف رضوان الله عليهم يصدعون بقول الحق والنصح لأئمة الجور في وجوههم، وإن توقعوا أو تيقنوا الإيذاء بسبب ذلك، لا يخشون في الله لومة لائم، لأنهم يعلمون أن من قتل بسبب ذلك فهو شهيد، والشهادة أغلى أماني المؤمن المصدق بوعد الله، لذلك قدموا على ذلك موطنين أنفسهم على الهلاك ومحتملين ألوان العذاب، وصابرين عليه في ذات الله تعالى، ومحتسبين لما يبذلونه من مهجهم عند الله.
والأمثلة على ذلك كثيرة نأخذ منها على سبيل المثال:
أ- قدم هشام بن عبد الملك حاجًا إلى مكة فلما دخلها قال: ائتوني برجل من الصحابة، فقيل: يا أمير المؤمنين قد تفانوا، فقال: من التابعين. فأتي بطاوس اليماني، فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه، ولم يسلم عليه بإمرة المؤمنين، ولكن قال: السلام عليك يا هشام، ولم يكنه، وجلس بإزائه. وقال: كيف أنت يا هشام؟ فغضب هشام غضبًا شديدًا حتى هم بقتله. فقيل له: أنت في حرم الله وحرم رسوله، ولا يمكن ذلك. فقال: يا طاوس ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: وما الذي صنعت؟ فازداد غضبًا وغيظًا. قال: خلعت نعليك بحاشية بساطي، ولم تقبل يدي، ولم تسلم علي بإمرة المؤمنين ولم تكنني، وجلست بإزائي بغير إذني، وقلت: كيف أنت يا هشام؟ قال: أما ما فعلت من خلع نعلي بحاشية بساطك فإني أخلعهما بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات، ولا يعاتبني ولا يغضب عليَّ، وأما قولك لم تقبل يدي فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (لا يحل لرجل أن يقبل يد أحد إلا امرأته من شهوة، أو ولده من رحمة). وأما قولك لم تسلم علي بإمرة المؤمنين فليس كل الناس راضين بإمرتك فكرهت أن أكذب، وأما قولك لم تكنني فإن الله تعالى سمى أنبياءه وأولياءه فقال: يا يحيى يا عيسى، وكنى أعداءه فقال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] وأما قولك: جلست بإزائي فإني سمعت أمير المؤمنين عليًا رضي الله عنه يقول: (إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام) . فانظر إلى عزة المؤمن كيف تفعل أمام السلاطين.
ب- وروى أبو سليمان الخطابي بسنده إلى عبد الله بن بكر السهمي قال: (سمعت بعض أصحابنا قالوا: أرسل عمر بن هبيرة - وهو على العراق - إلى فقهاء من فقهاء البصرة وفقهاء من فقهاء الكوفة، وكان ممن أتاه من فقهاء البصرة الحسن، ومن أهل الكوفة الشعبي، فدخلوا عليه، فقال لهم: إن أمير المؤمنين يزيد يكتب إلي في أمور أعمل بها فما تريان؟ قال: فقال الشعبي:أصلح الله الأمير أنت مأمور والتبعة على من أمرك، فأقبل على الحسن فقال: ما تقول؟ قد قال هذا، قل أنت، قال: اتق الله يا عمر فكأنك بملك قد أتاك فاستزلك عن سريرك هذا، وأخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، إن الله تعالى ينجيك من يزيد، وإن يزيد لا ينجيك من الله سبحانه، فإياك أن تعرض لله تعالى بالمعاصي، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ثم قام فتبعه الآذن فقال: أيها الشيخ ما حملك على ما استقبلت به الأمير؟ قال: حملني عليه ما أخذ الله تعالى على العلماء في علمهم ثم تلا: {وَإِذ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ...} [ آل عمران: 187 ]) .
إلى غير ذلك من الأمثلة التي لا حصر لها.
المبحث الرابع: حق المال
واجبات الإمام كثيرة كما سبق تستدعي التفرغ التام لتدبير شؤون الرعية، وهو كغيره من الناس في حاجة إلى المال لمأكله ومشربه وخدمه وعياله ونحو ذلك، لذلك فقد جعل الإسلام له حقًا في مال المسلمين يأخذ منه ما يكفيه ومن يعول، وقد أخذ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ما يكفيهما من بيت المال. فقد روى ابن سعد في الطبقات بسنده عن عطاء بن السائب قال: (لما استخلف أبو بكر رضي الله عنه أصبح غاديًا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح فقال له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق. قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالا له: انطلق حتى نفرض لك شيئًا فانطلق معهما، ففرضوا له كل يوم شطر شاة وكسوة في الرأس والبطن) .
وروى البخاري وابن سعد بسنديهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما استخلف أبو بكر الصديق قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مئونة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، واحترف للمسلمين فيه) .
ولما وُلي عمر بن الخطاب أمر المسلمين بعد أبي بكر مكث زمانًا لا يأكل من المال حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة، وأرسل إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستشارهم في ذلك فقال: (قد شغلت نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي فيه؟ فقال عثمان بن عفان: كل وأطعم، قال: وقال ذلك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. وقال عمر لعلي: ما تقول أنت في ذلك؟ قال: غداء وعشاء، فأخذ عمر بذلك) .
وروى أحمد بسنده إلى عبد الله بن زرير عن علي بن أبي طالب قال: يا ابن زرير إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان، قصعة يأكلها هو وأهله، وقصعة يضعها بين الناس)) .
وروى أيضًا ابن سعد وابن أبي شيبة عن حارثة بن مضرب قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف) . قلت: أشار بذلك إلى قوله تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]. وتساءل بعض المسلمين عما يحلُّ لأمير المؤمنين من المال فقال عمر: (أنا أخبركم بما أستحل منه، يحل لي حلتان: حلة في الشتاء، وحلة في القيظ. وما أحج عليه وأعتمر من الظهر، وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، ثم أنا بَعْدُ رجل من المسلمين يصيبني ما يصيبهم) .
مما سبق يتَّضح أن للإمام أن يأخذ من مال المسلمين راتبًا معيَّنا يَسُدُّ به حاجته ومن يعول من غير إسراف ولا تقتير، وقد أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحق لمن ولي ولاية من إمارة أو غيرها وإن كان موسرًا، فقد روى البخاري بسنده إلى حويطب بن عبد العزى أخبره ((أن عبد الله بن السعدي أخبره أنه قدم على عمر في خلافته فقال له عمر: ألم أحدَّث أنك تلي من أعمال الناس أعمالاً فإذا أعطيت العمالة كرهتها؟ فقلت: بلى فقال عمر: ما تريد ذلك؟ قلت: إني لي أفراسًا وأعبدًا وأنا بخير، وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين، قال عمر: لا تفعل فإني كنت أردت الذي أردت فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيني العطاء فأقول أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة مالاً فقلت: أعطه أفقر إليه مني، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: خذه فتموّله وتصدق به فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وإلا فلا تتبعه نفسك)) . قال الحافظ ابن حجر: قال الطبري: (في حديث عمر الدليل الواضح على أن من شُغل بشيء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك) . لكن عليه أن يتقي الله فيه، فإنه أمانة في يده فعليه أن يأخذ ما يكفيه بلا إسراف ولا تقتير، ولا يعبث بأموال المسلمين التي ائتمنه الله عليها.
المبحث السادس: أداء العبادات خلفه ومعه
المطلب الأول: أداء الصلاة خلف كل بر وفاجر
أولا: الصلاة خلف البر والفاجر
ولما كان السلطان أو الخليفة قد يصلي بالناس الجمع والأعياد وغيرها من الصلوات، لزم بيان حكم أداء هذا الركن الإسلامي، ألا وهو الصلاة خلفه إذا كان مبتدعا، سواء كان داعية أو مستتراً ببدعته لا يظهرها.
وتفصيل الحكم في هذه المسألة يختلف باختلاف حال الحاكم المبتدع من كونه داعية أو غير داعية، ويختلف أيضاً باختلاف حال المأموم من الرعية، من كونه يجد من يصلي خلفه تلك الصلاة غير السلطان، أو غير واجد إلا الصلاة خلف الحاكم المتلبس ببدعة.
ولإيضاح ذلك أقول: إن كان الحاكم المبتدع داعياً إلى بدعته، ولم يمكن إقامة الجمع والأعياد والجماعات إلا خلفه، وهذا يكون غالباً إذا كان الخليفة هو المتولي لأمر الصلاة كما في العهد السابق، فإن الصلاة خلفه في هذه الحال صحيحة مجزئة عند عامة أهل السنة من السلف والخلف، بل قد عد عدد من أهل العلم تاركها في هذه الحال مبتدعاً، وذلك لأن هذه الصلاة من شعائر الإسلام الظاهرة، وتليها الأئمة دون غيرهم فتركها خلفهم يفضي إلى تركها بالكلية.
ومما يدل على ذلك ما جاء عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين لهم، ومن جاء بعدهم من سلف هذه الأمة، ومن ذلك:
ما جاء عن عبيد الله بن عدي رضي الله عنه أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور، فقال: إنك إمام عامة ونزل بك ما نرى، ويصلي لنا إمام فتنة، ونتحرج، فقال: (الصلاة أحسن ما يعمل الناس فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم) .
وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله على هذا الأثر بقوله: (باب إمامة المفتون والمبتدع) .
فأمر عثمان رضي الله عنه بالصلاة مع إمام الفتنة، والمقصود به هنا كنانة بن بشر وهو أحد رؤوس الخوارج الذين حاصروا عثمان رضي الله عنه كما رجح ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وفي هذا الأثر الحض على شهود الجماعة، ولاسيما في زمن الفتنة؛ لئلا يزداد تفرق الكلمة، وفيه أن الصلاة خلف من تكره الصلاة خلفه أولى من تعطيل الصلاة) .
وعن سوار بن شبيب أنه قال: حج نجدة الحروري في أصحابه فوادع ابن الزبير، فصلى هذا بالناس يوماً وليلة، وهذا بالناس يوماً وليلة، فصلى ابن عمر خلفهما فاعترضه رجل، فقال: يا أبا عبد الرحمن أتصلي خلف نجدة الحروري؟ فقال ابن عمر: (إذا نادوا حي على خير العمل أجبنا، وإذا نادوا إلى قتل نفس قلنا: لا، ورفع بها صوته) .
وجاء عن ابن عمر رضي الله عنهما (أنه قيل له زمن ابن الزبير والخوارج والخشبية: أتصلي مع هؤلاء ومع هؤلاء وبعضهم يقتل بعضاً؟ فقال: من قال: حي على الصلاة. أجبته، ومن قال: حي على الفلاح. أجبته، ومن قال: حي على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله. قلت: لا) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكان عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف، وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد وكان متهماً بالإلحاد وداعياً إلى الضلال) .
وسار التابعون ومن تبعهم بإحسان من أئمة السلف على هذا، فقرروه قولاً وفعلاً، فمن ذلك:
ما جاء عن الأعمش رحمه الله أنه قال: (كان كبار أصحاب عبد الله –يعني ابن مسعود- يصلون الجمعة مع المختار ويحتسبون بها) .
وقد كان أبو وائل رحمه الله يصلي الجمعة مع المختار بن أبي عبيد .
وعن الحسن رحمه الله أنه سئل عن الصلاة خلف صاحب البدعة، فقال الحسن: (صل خلفه، وعليه بدعته).
وعن الحكم بن عطية رحمه الله أنه قال: سألت الحسن وقلت: رجل من الخوارج يؤمنا، أنصلي خلفه؟ قال: (نعم، قد أم الناس من هو شر منه) .
وعن ابن وضاح رحمه الله: قال: سألت الحارث بن مسكين: هل ندع الصلاة خلف أهل البدع؟ فقال: (أما الجمعة خاصة فلا، وأما غيرها من الصلاة فنعم) .
وقال ابن وضاح أيضاً: سألت يوسف بن عدي عن تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلوا خلف كل بر وفاجر))، قال: (الجمعة خاصة)، قلت: وإن كان الإمام صاحب بدعة، قال: (نعم، وإن كان صاحب بدعة لأن الجمعة في مكان واحد ليس توجد في غيره) .
وقال سفيان الثوري رحمه الله في وصيته لشعيب بن حرب: (يا شعيب، لا ينفعك ما كتبت، حتى ترى الصلاة خلف كل بر وفاجر). قال شعيب لسفيان: يا أبا عبد الله الصلاة كلها؟ قال: (لا، ولكن صلاة الجمعة والعيدين، صل خلف من أدركت، وأما سائر ذلك فأنت مخير، لا تصل إلا خلف من تثق به، وتعلم أنه من أهل السنة والجماعة...) .
وهكذا سار أهل العلم على تقرير ذلك، وأن الصلاة خلف أهل البدع من الولاة جائزة وصحيحة، لا يجوز إعادتها؛ إن لم يكن هناك من أهل العدل من يمكن الصلاة خلفه، لهذا خص بعض من تقدم ذلك بصلاة الجمعة؛ وذلك لأن صلاة الجمعة لا يمكن إقامتها إلا خلف الولاة، أما بقية الصلوات فإنها يمكن أن تصلى خلف سني عادل، أو من يوثق به.
أما أقوال محققي أهل العلم في ذلك، فقد قال ابن قدامة رحمه الله (فأما الجمع والأعياد فإنها تصلى خلف كل بر وفاجر، وقد كان أحمد يشهدها مع المعتزلة، وكذلك العلماء الذين في عصره،... ولأن هذه الصلاة من شعائر الإسلام الظاهرة، وتليها الأئمة دون غيرهم، فتركها خلفهم يفضي إلى تركها بالكلية) .
وقال النووي رحمه الله: (وكذا تكره –أي الصلاة- وراء المبتدع الذي لا يكفر ببدعته، وتصح، فإن كفر ببدعته فقد قدمنا أنه لا تصح الصلاة وراءه كسائر الكفار، ونص الشافعي في المختصر على كراهة الصلاة خلف الفاسق والمبتدع، فإن فعلها صحت) .
وهذه الكراهة إما هي إن أمكن الصلاة خلف غيره من أهل العدل كما هو مقرر عند الشافعية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى، فهذه تصلى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة، وهذا مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من أئمة أهل السنة، بلا خلاف عندهم) .
وقال أيضاً: (وأما الصلاة خلف المبتدع فهذه المسألة فيها نزاع وتفصيل، فإذا لم تجد إماماً غيره كالجمعة التي لا تقام إلا بمكان واحد، وكالعيدين وكصلوات الحج خلف إمام الموسم، فهذه كلها تفعل خلف كل بر وفاجر باتفاق أهل السنة والجماعة) .
فظهر من ذلك أن الأئمة لا يختلفون في جواز الصلاة خلف أئمة البدع الدعاة إلى بدعهم، إن لم يكن إقامتها خلف غيرهم من أهل السنة.
وأما إن أمكنه أن يصلي خلف إمام من أهل العدل، ومع ذلك صلى خلف الحاكم المبتدع، فهنا حصل النزاع بين العلماء في صحة صلاته، مع اتفاقهم على كراهية ذلك.
ولهم في ذلك قولان:
القول الأول: أن الصلاة صحيحة ولكنها مكروهة، وهذا مذهب أبي حنيفة ، والشافعي ، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد ، وعليه عامة أهل العلم وجمهور أصحاب الأئمة الأربعة .
والقول الثاني: أن الصلاة لا تصح ويجب على المصلي خلف الولاة المبتدعة أن يعيد صلاته، وهو الرواية الأخرى عن مالك وأحمد – رحم الله الجميع – وهذه الرواية هي المذهب عند الحنابلة .
والقول الأول (هو الصحيح – إن شاء الله – فبالإضافة إلى أنه قول عامة السلف فهو الذي تقتضيه أصول الشريعة وقواعد الدين. فإن الحكم ببطلان عمل ما مما شرعه الله لعباده لا يكون إلا بانخرام أحد شروط الصحة المقررة لقبوله في الشرع) .
أما إن كان الحاكم يخفي بدعته ويسر بها، فإن لم يمكن أداء الصلاة إلا خلفه كالجمع والجماعات، فمن باب أولى أن الصلاة خلفه صحيحة، وأن معيدها بعد أن صلاها خلفه معدود من أهل البدع، وذلك لأن المستتر أخف من المعلن ببدعته فلما صحت هناك كان من الأولى أن تصح هنا.
أما إن أمكن أن تصلى خلف غيره من أهل العدل، فإن الصلاة خلف أهل العدل أولى من الصلاة خلف الحاكم المبتدع المسر ببدعته، مع صحتها خلف الحاكم المبتدع المسر ببدعته، فالحكم بصحة الصلاة هنا أولى من الحكم بصحة الصلاة خلف المعلن ببدعته.
قال ابن قدامة رحمه الله: (فإن كان ممن يخفي بدعته وفسوقه صحت الصلاة خلفه) .
لكن ينبغي التنبيه على أن الصلاة لا تترك خلف المبتدع المسر ببدعته غير المعلن لها إنكاراً عليه، لأن الإنكار يكون على من أظهر البدعة، أما المسر بها الساكت عنها، لا ينكر عليه في الظاهر بل يناصح سراً.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع، وخلف أهل الفجور، ففيه نزاع مشهور وتفصيل ليس هذا موضع بسطه.
ولكن أوسط الأقوال في هؤلاء أن تقديم الواحد من هؤلاء في الإمامة، لا يجوز مع القدرة على غيره، فإن من كان مظهراً للفجور أو البدع يجب الإنكار عليه ونهيه عن ذلك، وأقل مراتب الإنكار هجره لينتهي عن فجوره وبدعته، ولهذا فرق جمهور الأئمة بين الداعية وغير الداعية، فإن الداعية أظهر المنكر فاستحق الإنكار عليه، بخلاف الساكت فإنه بمنزلة من أسر بالذنب، فهذا لا ينكر عليه في الظاهر، فإن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلن فلم تنكر ضرت العامة، ولهذا كان المنافقون تقبل منهم علانيتهم، وتوكل سرائرهم إلى الله تعالى بخلاف من أظهر الكفر) .
وبما سبق تقريره ونقله من آثار وأقوال الصحابة والتابعين ومن تبعهم من الأئمة المحققين، يظهر لنا الموقف الصحيح للرعية تجاه حكامهم إذا ما اقترفوا شيئاً من البدع مع بيان حكم الصلاة خلفهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى -:
فإذا كان داعية -أي إلى البدع- منع من ولايته وإمامته وشهادته وروايته لما في ذلك من النهي عن المنكر لا لأجل فساد الصلاة أو اتهامه في شهادته وروايته فإذا أمكن لإنسان ألا يقدم مظهرا للمنكر في الإمامة وجب ذلك. لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة أو كان هو لا يتمكن من صرفه إلا بشر أعظم ضررا من ضرر ما أظهره من المنكر فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان. ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعا. فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته لم يجز ذلك بل يصلى خلفه ما لا يمكنه فعلها إلا خلفه كالجمع والأعياد والجماعة. إذا لم يكن هناك إمام غيره ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج والمختار بن أبي عبيد الثقفي وغيرهما الجمعة والجماعة فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فسادا من الاقتداء فيهما بإمام فاجر لا سيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة. ولهذا كان التاركون للجمعة والجماعات خلف أئمة الجور مطلقا معدودين عند السلف والأئمة من أهل البدع . وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر فهو أولى من فعلها خلف الفاجر. وحينئذ فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر فهو موضع اجتهاد للعلماء. منهم من قال: أنه يعيد لأنه فعل ما لا يشرع بحيث ترك ما يجب عليه من الإنكار بصلاته خلف هذا فكانت صلاته خلفه منهيا عنها فيعيدها. ومنهم من قال: لا يعيد. قال: لأن الصلاة في نفسها صحيحة وما ذكر من ترك الإنكار هو أمر منفصل عن الصلاة وهو يشبه البيع بعد نداء الجمعة. وأما إذا لم يمكنه الصلاة إلا خلفه كالجمعة فهنا لا تعاد الصلاة وإعادتها من فعل أهل البدع وقد ظن طائفة من الفقهاء أنه إذا قيل: إن الصلاة خلف الفاسق لا تصح أعيدت الجمعة خلفه وإلا لم تعد وليس كذلك. بل النزاع في الإعادة حيث ينهى الرجل عن الصلاة. فأما إذا أمر بالصلاة خلفه فالصحيح هنا أنه لا إعادة عليه لما تقدم من أن العبد لم يؤمر بالصلاة مرتين.
وأما الصلاة خلف من يكفر ببدعته من أهل الأهواء فهناك قد تنازعوا في نفس صلاة الجمعة خلفه. ومن قال إنه يكفر أمر بالإعادة لأنها صلاة خلف كافر .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ولو علم المأموم أن الإمام مبتدع يدعو إلى بدعته أو فاسق ظاهر الفسق وهو الإمام الراتب الذي لا تمكن الصلاة إلا خلفه كإمام الجمعة والعيدين والإمام في صلاة الحج بعرفة ونحو ذلك. فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف وهو مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم . ولهذا قالوا في العقائد: إنه يصلي الجمعة والعيد خلف كل إمام برا كان أو فاجرا وكذلك إذا لم يكن في القرية إلا إمام واحد فإنها تصلى خلفه الجماعات فإن الصلاة في جماعة خير من صلاة الرجل وحده وإن كان الإمام فاسقا. هذا مذهب جماهير العلماء: أحمد بن حنبل والشافعي وغيرهما بل الجماعة واجبة على الأعيان في ظاهر مذهب أحمد . ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند الإمام أحمد . وغيره من أئمة السنة. كما ذكره في رسالة عبدوس وابن مالك والعطار. والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها فإن الصحابة كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون كما كان ابن عمر يصلي خلف الحجاج وابن مسعود وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة وكان يشرب الخمر حتى أنه صلى بهم مرة الصبح أربعا ثم قال: أزيدكم؟ فقال ابن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة ولهذا رفعوه إلى عثمان . وفي صحيح البخاري (أن عثمان رضي الله عنه لما حصر صلى بالناس شخص فسأل سائل عثمان. فقال: إنك إمام عامة وهذا الذي يصلي بالناس إمام فتنة. فقال: يا ابن أخي إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس فإذا أحسنوا فأحسن معهم وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم) . ومثل هذا كثير. والفاسق والمبتدع صلاته في نفسه صحيحة فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب ومن ذلك أن من أظهر بدعة أو فجورا لا يرتب إماما للمسلمين فإنه يستحق التعزير حتى يتوب فإذا أمكن هجره حتى يتوب كان حسنا وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثر ذلك حتى يتوب أو يعزل أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه. فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان فيه مصلحة ولم يفت المأموم جمعة ولا جماعة. وأما إذا كان ترك الصلاة يفوت المأموم الجمعة والجماعة فهنا لا يترك الصلاة خلفهم إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم. وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور ولم يكن في ترك الصلاة خلفه مصلحة فهنا ليس عليه ترك الصلاة خلفه بل الصلاة خلف الإمام الأفضل أفضل وهذا كله يكون فيمن ظهر منه فسق أو بدعة تظهر مخالفتها للكتاب والسنة كبدعة الرافضة والجهمية ونحوهم.
ثانيا: الصلاة خلف المستور
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات لا يدعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم فإن كان الإمام مستورا لم يظهر منه بدعة ولا فجور صلى خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين ولم يقل أحد من الأئمة إنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم يصلون خلف المسلم المستور ولكن إذا ظهر من المصلي بدعة أو فجور وأمكن الصلاة خلف من يعلم أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره فأكثر أهل العلم يصححون صلاة المأموم وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد . وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى فهذه تصلى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة أهل السنة بلا خلاف عندهم . وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب أن لا يصلي إلا خلف من يعرفه على سبيل الاستحباب كما نقل ذلك عن أحمد أنه ذكر ذلك لمن سأله. ولم يقل أحمد إنه لا تصح إلا خلف من أعرف حاله.
ولما قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع وكانوا باطنية ملاحدة وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع وظهرت بالديار المصرية - أمر أصحابه أن لا يصلوا إلا خلف من يعرفونه لأجل ذلك ثم بعد موته فتحها ملوك السنة مثل صلاح الدين وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر. فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق علماء المسلمين ومن قال إن الصلاة محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة ، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يصلون خلف من يعرفون فجوره كما صلى عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان قد يشرب الخمر وصلى مرة الصبح أربعاً وجلده عثمان بن عفان على ذلك . وكان عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف . وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد وكان متهماً بالإلحاد وداعيا إلى الضلال.
وقال: ويجوز للرجل أن يصلي الصلوات الخمس والجمعة وغير ذلك خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين. وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه ولا أن يمتحنه فيقول: ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف مستور الحال.
المطلب الثاني: الجهاد معه
أما عن حكم الجهاد معهم وتحت لوائهم ورايتهم، فقد نص أهل العلم على أن الجهاد يكون مع كل بر وفاجر، وسيأتي نقل أقوالهم في ذلك تحت الحديث عن حكم الجهاد مع الحاكم الفاسق، والبدع من أنواع الفسق والفجور التي لا تمنع الرعية من إقامة الجهاد خلف حكامهم إن كانوا متلبسين بذلك.
ومن آثار السلف في ذلك ما جاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنه كان يحث على الجهاد أيام المأمون والمعتصم في قتال بابك الخرمي.
ومن ذلك كتاب الإمام أحمد إلى علي بن المديني، ونصه: (إلى أبي الحسن علي بن عبد الله من أحمد بن محمد:
سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد:
أحسن الله إليك في الأمور كلها، وسلمك وإيانا من كل سوء برحمته، كتبت إليك وأنا ومن أعنى به في نعم من الله متظاهرة، أسأله العون على أداء شكر ذلك فإنه ولي كل نعمة، كتبت إليك –رحمك الله- في أمر لعله أن يكون قد بلغك من أمر هذا الخرمي، الذي قد ركب الإسلام بما قد ركبه به، من قتل الذرية وغير ذلك وانتهاك المحارم وسبي النساء وكلمني في الكتاب إليك بعض إخوانك، رجاء منفعة ذلك عند من يحضرك ممن له نية في النهوض إلى أهل أردبيل، والذب عنهم وعن حريمهم ممن ترى أنه يقبل منك، فإن رأيت –رحمك الله- لمن حضرك ممن ترى أنه يقبل منك ذلك، فإنهم على شفا هلكة وضيعة وخوف من هذا العدو المظل، كفاك الله وإيانا كل مهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)) .
وعن حسين الصائغ قال: لما كان من أمر بابك جعل أبو عبد الله يحرض على الخروج إليه وكتب معي كتاباً إلى أبي الوليد والي البصرة يحرضهم على الخروج إلى بابك .
فظهر أن ارتكاب الحاكم للبدعة لا يكون سبباً للتخاذل عنه وعدم نصرته والجهاد معه، لأن في ذلك خذلاناً للمسلمين وقد يكون سبباً لنصر أعداء الله عليهم خاصة إن كانوا في مواجهة الكفار.
لكن ينبه هنا على أن الجهاد أو القتال الذي لا يترك مع الخليفة المبتدع هو الجهاد الشرعي الذي نص أهل العلم على أنه جهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، ويدخل في ذلك قتال الخوارج والبغاة مع الإمام، أما القتال في الفتنة فإن هذا مما يحرم متابعة الإمام فيه، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
المطلب الثالث: الحج معه
كان السلف الصالح – رحمهم الله- لا يتوقفون عن الحج، مهما كان اعتقاد الخليفة ما دام مسلماً، ولم يرد عن أحد من السلف أنه توقف عن الحج بسبب ابتداع الخليفة أو فسقه.
قال زهير بن عباد –رحمه الله-: (كان من أدركت من المشايخ، مالك، وسفيان، والفضيل بن عياض، وابن المبارك، ووكيع، وغيرهم، كانوا يحجون مع كل خليفة) .
وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: (وقد أجمعت العلماء من أهل الفقه والعلم والنساك والعباد والزهاد من أول هذه الأمة إلى وقتنا هذا: أن صلاة الجمعة والعيدين ومنى وعرفات والغزو والجهاد والهدي مع كل أمير بر أو فاجر، وإعطاءهم الخراج والصدقات والأعشار جائز، والصلاة في المساجد التي بنوها والمشي على القناطر والجسور التي عقدوها والبيع والشراء، وسائر التجارة والزراعة والصنائع كلها في كل عصر ومع كل أمير جائر على حكم الكتاب والسنة)) .
وقال ابن أبي زمنين: (ومن قول أهل السنة: أن الحج، والجهاد مع كل بر وفاجر، من السنة والحق) .
وقال ابن بطال – رحمه الله-: (وإن كان غير عدل؛ فالواجب عند العلماء من أهل السنة ترك الخروج عليه وأن يقيموا معه الحدود: الصلوات، والحج، وتؤدى إليه الزكوات) .
وكذلك أداء الزكاة فهو –أيضا- من حقوق الولاة، وإن كانوا مبتدعة.

الفصل السادس: الخروج على الأئمة
المبحث الأول: مسببات العزل
من المتفق عليه بين العلماء أن الإمام ما دام قائما بواجباته الملقاة على عاتقه، مالكا القدرة على الاستمرار في تدبير شؤون رعيته، عادلاً بينهم فإنه لا يجوز عزله ولا الخروج عليه، بل ذلك مما حذر منه الإسلام وتوعد الغادر بعذاب أليم يوم القيامة، كما أن الأخطاء اليسيرة، لا تجوِّز عزل الإمام، لأن الكمال لله وحده والمعصوم من عصمه الله، وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، لكن هناك أمور عظيمة لها تأثير على حيات المسلمين الدينية والدنيوية، منها ما يؤدي إلى ضرورة عزل الإمام المرتكب لها، وهذه الأمور منها: ما هو متفق عليه بين العلماء. ومنها: ما هو مختلف فيه. والآن نستعرض هذه الأسباب لنرى آراء العلماء فيها:
الأول: الكفر والردَّة بعد الإسلام:
أول الأمور وأعظم الأسباب الموجبة لعزل الوالي وخلعه عن تدبير أوامر المسلمين هو الردة والكفر بعد الإيمان، فإذا ما ارتكب الإمام جرمًا عظيمًا يؤدي إلى الكفر والارتداد عن الدين فإنه ينعزل بذلك عن تدبير أمر المسلمين، ولا يكون له ولاية على مسلم بحال، قال تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [ النساء: 141] وأي سبيل أعظم من سبيل الإمامة؟ وفي الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: ((بايعنا – أي: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان)) .
قال الخطابي: (معنى بواحًا يريد ظاهرًا باديًا من قولهم باح بالشيء يبوح بوحًا وبواحًا إذا أذاعه وأظهره) ((وعندكم من الله فيه برهان)) قال الحافظ ابن حجر:(أي: نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل) . وقال النووي: (المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولاياتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محققًا تعلمونه من قواعد الإسلام) .
ومن مفهوم هذا الحديث أنه لا يشترط أن يعلن هذا الحاكم الردة عن الإسلام أو الكفر، بل يكفي إظهاره لبعض المظاهر الموجبة للكفر قال الكشميري: (ودل - أي هذا الحديث - أيضًا على هذا أن أهل القبلة يجوز تكفيرهم وإن لم يخرجوا عن القبلة، وأنه قد يلزم الكفر بلا التزام وبدون أن يريد تبديل الملة، وإلا لم يحتج الرائي إلى برهان) .
فظاهر الحديث أن من طرأ عليه الكفر فإنه يجب عزله، وهذا أهون ما يجب على الأمة نحوه، إذ الواجب أن يقاتل ويباح دمه بسبب ردته امتثالاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه ابن عباس: ((من بدل دينه فاقتلوه)) .
... وأن الكافر لا ولاية له على المسلم بحال وهذا السبب في عزل الإمام محل اتفاق بين العلماء، ومجمع عليه عندهم، قال أبو يعلى: (إن حدث منه ما يقدح في دينه، نظرت فإن كفر بعد إيمانه فقد خرج عن الإمامة، وهذا لا إشكال فيه لأنه قد خرج عن الملة ووجب قتله) .
وقال القاضي عياض: (أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى أنه لو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر) . وقال الحافظ ابن حجر: (أنه - أي الإمام - ينعزل بالكفر إجماعًا، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض) .
وقال السفاقسي: (أجمعوا على أن الخليفة إذا دعا إلى كفر أو بدعة يثار عليه) .
الثاني: ترك الصلاة والدعوة إليها:
كما أن من الأسباب الموجبة لعزل الإمام ترك الصلاة والدعوة إليها، إما جحودًا فهذا كفر ويدخل في السبب الآنف الذكر، وإما تهاونًا وكسلاً فعلى رأي بعض العلماء أنه معصية وكبيرة من الكبائر، وعلى الرأي الآخر أنه كفر... فعلى أي الحالين يجب عزل الإمام الذي يترك الصلاة عملاً بالأحاديث الواردة في ذلك والتي نهت عن منابذة أئمة الجور ونقض بيعتهم وعن مقاتلتهم بشرط إقامتهم الصلاة ومن الأحاديث:
1- ما رواه مسلم عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم. قال: قلنا يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة...)) الحديث . ومن مفهوم الحديث أنه متى تركوا إقامة الصلاة فإنهم ينابذون، والمنابذة هي المدافعة والمخاصمة والمقاتلة.
2- كما يدل على ذلك أيضًا الحديث الذي رواه مسلم وغيره عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا)) .
وهذا الحديث فيه التصريح بمقاتلة الأمراء الذين لا يصلون، ومعلوم أن المقاتلة هي آخر وسيلة من وسائل العزل ...
الثالث: ترك الحكم بما أنزل الله:
وهذا السبب أيضًا كالذي قبله تستوي فيه الصور من الحكم بغير ما أنزل الله المخرجة لفاعلها من الإسلام، وكذلك الصور التي لا تخرجه من الملة...
والذي يدل على أن هذا السبب موجب لعزل الإمام بجميع صوره المكفرة والمفسقة هو ورودها مطلقة في الأحاديث النبوية الصحيحة الآتية:
1- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله)) .
2- وعن أم الحصين الأحمسية رضي الله تعالى عنها قالت: ((حججت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع... إلى أن قالت: ثم سمعته يقول: إن أمر عليكم عبد مجدع - حسبتها قالت: أسود - يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا)) . وفي رواية: الترمذي والنسائي سمعته يقول: ((يا أيها الناس اتقوا الله وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله)) .
فهذه الأحاديث واضحة الدلالة على أنه يشترط للسمع والطاعة أن يقود الإمام رعيته بكتاب الله. أما إذا لم يحكم فيهم شرع الله فهذا لا سمع له ولا طاعة وهذا يقتضي عزله، وهذا في صور الحكم بغير ما أنزل الله المفسقة، أما المكفرة فهي توجب عزله ولو بالمقاتلة ...
الرابع: الفسق والظلم والبدعة:
من المتفق عليه بين العلماء أن الإمامة لا تعقد لفاسق ابتداء. قال القرطبي: (لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز أن تعقد الإمامة لفاسق ... لكن لو انعقدت الإمامة لعادل ثم طرأ عليه الفسق فما الحكم؟ هنا حصل الخلاف بين العلماء فمنهم من قال يستحق العزل وتنتقض بيعته، ومنهم من قال باستدامة العقد ما لم يصل به الفسق إلى ترك الصلاة أو الكفر، وفصَّل آخرون القول في ذلك على ما سيأتي:
1- القائلون بالعزل مطلقًا:
وهؤلاء يرون أن طروء الفسق كأصالته في إبطال العقد وذلك لانتفاء الغرض المقصود أصلاً من الإمامة، ونسب القرطبي هذا القول للجمهور فقال: (قال الجمهور: إنه تنفسخ إمامته، ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم، لأنه قد ثبت أن الإمام إنما يقام لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق، وحفظ أموال الأيتام والمجانين، والنظر في أمورهم، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنهوض بها...).
قال: (فلو جوزنا أن يكون فاسق أدى إلى إبطال ما أقيم له، وكذلك هذا مثله) .
ونسب الزبيدي هذا القول إلى الشافعي في القديم ، وإليه ذهب بعض أصحابه) وهو المشهور عن أبي حنيفة.
وهو مذهب المعتزلة والخوارج، أما المعتزلة فقد قال عنهم القاضي عبد الجبار: (فأما الأحداث التي يخرج بها من كونه إمامًا فظهور الفسق سواء بلغ حد الكفر أو لم يبلغ لأن ذلك يقدح في عدالته) قال: (... لا فرق بين الفسق بالتأويل، وبين الفسق بأفعال الجوارح في هذا الباب عند مشايخنا... وهذا مما لا خلاف فيه، لأنهم أجمعوا أنه يهتك بالفجور وغيره (وكذا) أنه لا يبقى على إمامته) .
وأما الخوارج فإنهم لما كانوا يقولون بأن الفسق يخرج مرتكبه من الإيمان قالوا بانعزال الإمام إذا فسق لأنه حينئذ ليس مؤمنًا - على مذهبهم - وغير المؤمن لا يصلح أن يكون إمامًا، ومما أجمعت عليه الخوارج هو (الخروج على الأئمة) .
2- القائلون بعدم العزل بالفسق مطلقًا:
وهم جمهور أهل السنة، قال القاضي عياض: (وقال جمهور أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك بل يجب وعظه وتخويفه) .
وقال النووي: (إن الإمام لا ينعزل بالفسق على الصحيح) وقال أبو يعلى في المعتمد: (ذكر شيخنا أبو عبد الله في كتابه عن أصحابنا أنه لا ينخلع بذلك، أي بفسق الأفعال كأخذ الأموال وضرب الأبشار، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه، وترك طاعته في شيء مما يدعو إليه من معاصي الله تعالى) .
وذهب في كتابه (الأحكام السلطانية) إلى أن الفسق (لا يمنع من استدامة الإمامة سواء كان متعلقًا بأفعال الجوارح وهو ارتكاب المحظورات وإقدامه على المنكرات إتباعًا لشهوة، أو كان متعلقًا بالاعتقاد وهو: المتأول لشبهة تعرض يذهب فيها إلى خلاف الحق) .
ثم استدل على ما ذهب إليه بكلام الإمام أحمد في المنع من الخروج على الأئمة لما في ذلك من إحياء الفتنة، وبالأحاديث الآمرة بالصبر على جور الأئمة...
لكن مما ينبغي التنبيه إليه في هذا المقام هو أن المراد هنا هل الفسق يجعله مستحقًا للعزل أم لا؟ ... علمًا بأن هناك طرقًا للعزل غير السيف، ... وليس كل من استحق العزل يعزل، وإنما ينظر إلى ما سيترتب على هذا العزل، فإن ترتب عليه فتنة أكبر لم يجز العزل والخروج عليه. كما لا يجوز إنكار المنكر بمنكر أعظم منه، أما إذا أمنت الفتنة وقدر على عزله بوسيلة لا تؤدي إلى فتنة ففي هذه الحال يقوم أهل الحل والعقد بعزله لأنهم الذين أبرموا معه عقد الإمامة، فهم الذين يملكون نقضه.
(3) ومنهم من فصل في ذلك:
وهذا التفصيل من جهتين: من جهة ماهية الفسق، ومن جهة زمان العزل.
أ- فأما ما يتعلق بماهية الفسق: فقد ذكر الماوردي الشافعي أن الفسق المانع لعقد الإمامة واستدامتها على ضربين:
أحدهما: ما تابع فيه الشهوة. وهو: فسق الجوارح، وهو: ارتكابه المحظورات، وإقدامه على المنكرات، تحكيمًا للشهوة وانقيادًا للهوى. قال: (فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها) .
الثاني منهما: متعلق بالاعتقاد والمتأول لشبهة تعترض فيتأول لها خلاف الحق، فقد اختلف العلماء فيها (فذهب فريق منهم إلى أنها تمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها ويخرج بحدوثه منها... وقال كثير من علماء البصرة: إنه لا يمنع من انعقاد الإمامة ولا يخرج به منها، كما لا يمنع ولاية القضاء وجواز الشهادة) .
ب- أما ما يتعلق بزمان العزل ففيها ثلاثة أوجه وهي كالتالي:
أحدها: ينخلع بنفس الفسق... كما لو مات.
والثاني: لا ينخلع حتى يحكم بخلعه، كما إذا فك عنه الحجر ثم صار مبذرًا، فإنه لا يصح أن يصير محجورًا عليه إلا بالحكم.
والثالث: إن أمكن استتابته وتقويم اعوجاجه لم يخلع وإن لم يمكن ذلك خلع .
وهذا الوجه هو الذي رجحه الجويني وذهب إليه ابن حزم الظاهري فقال: (والواجب إن وقع شيء من الجور وإن قل أن يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه، فإن امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة أو الأعضاء ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه. وهو: إمام كما كان لا يحل خلعه، فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق) .
وقد استدل القائلون بالعزل بالأدلة الدالة على اشتراطه في عقد الإمامة ابتداء ... قالوا: فكذلك هنا، ولأن الغرض من المنصب هو حماية جناب الدين ورفع الظلم وتحقيق العدل، فإذا انتفت هذه الخصال انتفى مقصود الإمامة والإمامة واجبة شرعًا كما مر فدل على أنه لا بد أن يكون الإمام عادلاً.
واستدل المانعون بالأحاديث الصحيحة الكثيرة في الأمر بالصبر على جور الأئمة وعدم نزع اليد من الطاعة، وبما يترتب على العزل من فتن وإراقة الدماء وقد يجلب دفع هذا المنكر منكرًا أكبر منه وهذا لا يجوز...
الخامس: نقص التصرف:
ومن مسببات العزل أيضًا نقص التصرف، وذلك بأن يطرأ على الإمام ما يقيد تصرفاته أو يبطلها، وقد قسمه العلماء إلى حجر وقهر:
أ- فالحجر: (هو: أن يستولي عليه من أعوانه من يستبد بتنفيذ الأمور من غير تظاهر بمعصية ولا مجاهرة بمشاقه) .
فهذا لا يقتضي عزله وخروجه من أحكام الإمامة، وإنما ينظر إلى أفعال من استولى على أموره وهي: لا تخرج عن صورتين.
1- إما أن تكون جارية على أحكام الدين ومقتضى العدل، وفي هذه الحالة يجوز (إقراره عليها تنفيذًا لها وإمضاء لأحكامها، لئلا يقف من الأمور الدينية ما يعود بفساد على الأمة) .
2- وإما أن تكون أفعاله خارجة عن حكم الدين ومقتضى العدل ففي هذه الحال (لم يجز إقراره عليها، ولزمه أن يستنصر من يقبض يده ويزيل تغلبه) .
ب- أما القهر فله صورتان:
الأولى: الأسر:
وهو: أن يصير مأسورًا في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه، سواء كان هذا العدو مشركًا أو مسلمًا باغيًا ...
1- أن يكون مرجو الخلاص من هذا الأسر فهو في هذه الحال باق على إمامته، قال الماوردي: (وهو على إمامته ما كان مرجو الخلاص مأمول الفكاك إما بقتال أو بفداء) وعلى كافة الأمة استنقاذه لما أوجبته الإمامة من نصرته.
2- أن يكون ميئوسًا من خلاصه، وفي هذه الحال ينظر إلى الآسر:
أ- فإن كانوا المشركين: فعلى أهل الحل والعقد استئناف بيعة غيره على الإمامة.
ب- وإن كانوا بغاة: فلن يخلو حالهم من أمرين:
1- إما أن يكونوا قد نصبوا لأنفسهم إمامًا دخلوا في بيعته، وانقادوا لطاعته ففي هذه الحال يكون (الإمام المأسور في أيديهم خارجًا من الإمامة بالإياس من خلاصه، لأنهم قد انحازوا بدار تفرد حكمها عن الجماعة وخرجوا بها عن الطاعة، فلم يبق لأهل العدل بهم نصرة وللمأسور معهم قدرة، وعلى أهل الاختيار في دار العدل أن يعقدوا الإمامة لمن ارتضوا لها فإن خلص المأسور لم يعد إلى الإمامة لخروجه منها) .
2- وإما أن يكونوا لم ينصبوا لهم إمامًا، بل كانوا فوضى لا إمام لهم ففي هذه الحالة يكون (الإمام المأسور في أيديهم على إمامته، لأن بيعتهم له لازمة وطاعته عليهم واجبة، فصار معهم كمصيره مع أهل العدل إذا صار تحت الحجر، وعلى أهل الاختيار أن يستنيبوا عنه ناظرًا يخلفه إن لم يقدر على الاستنابة، فإن قدر عليها كان أحق باختيار من يستنيبه منهم) .
الصورة الثانية: أن يخرج عليه من يستولي على الإمامة بالقوة:
وهذا أحد طرق انعقاد الإمامة ... وهو ما يسمى بالقهر والغلبة، وفي هذه الحال إذا تمكن هذا القاهر وغلب على الإمام الأول، واستولى على تدبير الأمور، فإن الإمام السابق في هذا الحال يكون معزولاً، وتنعقد الإمامة لهذا المستولي الجديد للضرورة، وحتى لا يقع الناس في الفوضى والفتنة، ويعمّ الفساد، وقد صلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بأهل المدينة يوم الحرَّة وقال: (نحن مع من غلب) . وقال: (لا أقاتل في الفتنة، وأصلي وراء من غلب) .
وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى بطلان إمامة السابق كما في رواية أبي الحارث: (في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك، فيفتتن الناس فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم، مع من تكون الجمعة؟ قال: (مع من غلب) .
وقد سبق الحديث عن هذه الطريقة، وأدلة ثبوتها، وأقوال العلماء فيها وأنها ليست من الطرق المشروعة وإنما للضرورة، ولأن مصلحة المسلمين تقتضي ذلك. والله أعلم.
السادس: نقص الكفاءة:
وذلك بعجز عقلي أو جسدي له تأثير على الرأي أو العمل: وهذه منها ما يمنع عقد الإمامة ابتداء ويمنع استدامتها، ومنها ما يمنع عقدها ابتداء فقط ...
- ومنها ما لا يمنع العقد لا ابتداء ولا يمنع من استدامتها، ونحن في هذا المقام سنقتصر على ما يمنع من عقد الإمامة ابتداء ومن استدامتها، لأن ذلك هو الموجب للعزل فقط.
أ- زوال العقل: بجنون ونحوه، وهذا مما لا خلاف فيه إذا كان دائمًا لا ينفك، لأن الجنون يمتد عادة (فلو لم ينصبوا إمامًا آخر لأدى ذلك إلى اختلال الأمور، ولأن المجنون يجب ثبوت الولاية عليه، فكيف يكون وليًا لكافة الأمة) ؟ وأيضًا لأن ذلك (يمنع المقصود الذي هو إقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحماية المسلمين) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
هذا إذا كان مطبقا لا يتخلله إفاقة، أما إذا كان يتخلله إفاقة يعود فيها إلى حال السلامة ففي هذه الناحية يحتاج الأمر إلى تفصيل (فإن كان أكثر زمانه الخبل فهو كما لو كان مطبقًا - أي يمنع ابتداء العقد واستدامته - وإن كان أكثر زمانه الإفاقة فقد قيل: يمنع من عقدها، وهل يمنع من استدامتها؟ فقيل: يمنع من استدامتها كما يمنع من ابتدائها، لأن في ذلك إخلالاً بالنظر المستحق فيه، وقد قيل: لا يمنع من استدامتها وإن منع من عقدها، لأنه يراعى في ابتداء عقدها سلامة كاملة وفي الخروج منها نقص كامل) أما إن كان عارضًا يرجى زواله كالإغماء ونحوه فهذا لا يمنع العقد ابتداء، ومن ثم لا يمنع استدامتها من باب أولى.
ب- فقد بعض الحواس المؤثرة في الرأي أو العمل مثل:
1- العمى: فهذا يمنع من عقدها ومن استدامتها، لأنه يُبْطِل القضاء ويمنع من جواز الشهادة - على رأي الجمهور - فأولى أن يمنع من صحة الإمامة . أما عشى العين وضعف البصر فلا يمنع من الاستدامة.
2- الصمم والخرس: ففي انعزاله بطروئهما عليه ثلاثة مذاهب حكاها الماوردي وهي:
الأول: ينعزل بذلك كما ينعزل بالعمى لتأثيرهما في التدبير والعمل، ورجّح هذا القول ، وعليه اقتصر الرافعي والنووي .
الثاني: لا ينعزل لقيام الإشارة مقام السمع، والخروج من الإمامة لا يكون إلا بنقص كامل.
الثالث: إن كان يحسن الكتابة لم يعزل، وإن كان لا يحسنها انعزل، لأن الكتابة مفهومة والإشارة موهومة .
أما ما لا يؤثر ذهابه في الرأي والعمل كالخَشَم في الأنف الذي يمنع إدراك الروائح، وفقد الذوق الذي يعرف به الطعوم فإنهما لا يوجبان العزل بلا خلاف، وكذلك لا ينعزل بتمتمة
اللسان ونحوها لأن نبي الله موسى عليه السلام لم تمنعه عقدة لسانه من النبوة فأولى ألا يمنع الإمامة .
هذا وقد سبقت الإشارة إلى أن من الفقهاء من لا يشترط هذه الأمور في الإمامة عند ابتداء العقد، ومن باب أولى بعد العقد كابن حزم وغيره لكنه رأي مرجوح ...
جـ- فقد بعض الأعضاء المخل فقدها بالعمل أو النهوض:
وذلك كذهاب اليدين أو الرجلين. فإذا طرأ على الإمام شيء من ذلك انعزل لعجزه عن كمال القيام بحقوق الأمة. أما ما يؤثر في بعض العمل دون بعض كذهاب إحدى اليدين أو إحدى الرجلين ففيه وجهان:
الأول: أنه لا يؤثر وإن كان ذلك يمنع عقد الإمامة ابتداء، لأن المعتبر في عقدها كمال السلامة، فيعتبر في الخروج منها كمال النقص، وهذا هو الراجح.
والثاني: يؤثر لنقص الحركة، فلو كان ذلك لا يؤثر فقده في عمل ولا نهوض كقطع الذكر أو الأنثيين، فهذا لا يمنع من الإمامة ولا من استدامتها، لأن ذلك مؤثر في التناسل فقط... وقد استدلوا على ذلك بوصف الله ليحيى بن زكريا عليهما السلام وثنائه عليه فقال تعالى: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39] وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما (أنه لم يكن له ذكر يغشى به النساء...) قالوا: (فلما لم يمنع ذلك من النبوة، فأولى أن لا يمنع من الإمامة) .
ونحو ذلك سمل إحدى العينين وجدع الأنف والأذن لأن ذلك لا تأثير له على الحقوق والله أعلم.
المبحث الثاني: حكم الخروج على الأئمة
الأئمة أحوالهم متباينة من شخص لآخر، وواحدهم لا يخرج عن أحد ثلاثة: إما أن يكون عادلاً مقسطًا، وإما أن يكون كافرًا مجرمًا، وإما أن يكون حاله مترددًا بين هذين وهو الفاسق أو الظالم، وهذا قد يكون فسقه وظلمه على نفسه وفي أعماله الخاصة، وقد يتعدى ذلك إلى الرعية إما في أموالهم وأنفسهم أو في دينهم وأعراضهم. ولكل واحد من هؤلاء حكم خاص.
1- الإمام العادل المقسط:
فهذا يحرم الخروج عليه مطلقًا وباتفاق العلماء، يدل على ذلك الآية والأحاديث الآمرة بالطاعة لأولي الأمر من المسلمين...ويدل على ذلك أيضًا الآيات والأحاديث الواردة في وجوب الوفاء بالبيعة، وما ورد من النهي والتحذير من نكثها في ذلك... حتى ولو وجد بعد إبرام العقد والمبايعة لمن هو أفضل وأكمل شروطًا...بل تجب مناصرته ومقاتلة من ناوأه وبغى عليه إذا لم يفئ إلى أمر الله.
هذا وقد سبق أن بيَّنَّا أن العدالة المطلوبة التي باتصاف الإِمام بها يحرم الخروج عليه كائنًا من كان هذا الخارج لا تقتضي أن يكون معصومًا في أقواله وأفعاله، بل كل بشر عرضة للوقوع في الخطأ وفي بعض الذنوب، لكن إذا كان حريصًا على التحرز من ذلك ويرجع عن خطئه إذا تبين له ذلك ويستغفر ويتوب إلى الله عما بدر منه، ويرجع حقوق الآدميين إلى أصحابها إذا ظهر له الخطأ في تصرفه فيها إذا أمكن ذلك. فهو بهذه الصفات من أئمة العدل الواجب طاعتهم والمحرم الخروج عليهم بكل صور الخروج المختلفة. ولهؤلاء الأئمة نرجو من الله المغفرة لهم فيما يقعون فيه من خطأ ولهم ثواب الاجتهاد الذي بذلوه في سبيل الوصول إلى الحق سواء أصابوه أم خالفوه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
2- الخروج على الحاكم الكافر المرتد:
وهذا - أيضًا - متفق على وجوب الخروج عليه ومنابذته بالسيف إذا قُدر على ذلك، أما إذا لم يكن لهم قدرة عليه فعليهم السعي إلى سلوك أقرب طريق للإطاحة به، وتخليص المسلمين من تسلطه عليهم مهما كلَّف ذلك من جهد، يدل على ذلك حديث عُبادة الآنف الذكر ((... وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان)) .
قال الحافظ ابن حجر: (وإذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها كما في الحديث... يعني حديث عبادة الآنف الذكر) .
وقال في موضع آخر: (إنه - أي الحاكم - ينعزل بالكفر إجماعًا، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض) .
3- الخروج على الأئمة الظلمة
ذهب غالب أهل السنة والجماعة إلى أنه لا يجوز الخروج على أئمة الظلم والجور بالسيف ما لم يصل بهم ظلمهم وجورهم إلى الكفر البواح، أو ترك الصلاة والدعوة إليها أو قيادة الأمة بغير كتاب الله تعالى كما نصت عليها الأحاديث السابقة في أسباب العزل.
وهذا المذهب منسوب إلى الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة التي وقعت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. وهم: سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة ، وأبو بكرة رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وهو: مذهب الحسن البصري والمشهور عن الإمام أحمد بن حنبل وعامة أهل الحديث. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (... ولهذا كان مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح بر، أو يستراح من فاجر...) .
هذا وقد ادعى الإجماع على ذلك بعض العلماء كالنووي في شرحه لصحيح مسلم وكابن مجاهد البصري الطائي فيما حكاه عنه ابن حزم ولكن دعوى الإجماع فيها نظر، لأن هناك من أهل السنة من خالف في ذلك .
الأدلة:
استدلوا على مذهبهم وهو ترك الخروج على أئمة الظلم بالسيف بالأدلة التالية:
أولاً: الأحاديث الواردة في الأمر بالطاعة وعدم نكث البيعة والأمر بالصبر على جورهم وإن رأى الإنسان ما يكره. وهي أحاديث كثيرة بلغت حد التواتر المعنوي كما ذكر ذلك الشوكاني رحمه الله أهمها:
1- حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: (بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان) . وفي رواية: (وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم) . قال ابن تيمية بعد ذكره لهذا الحديث: (فهذا أمر الطاعة مع استئثار ولي الأمر، وذلك ظلم منه، ونهي عن منازعة الأمر أهله وذلك نهي عن الخروج عليه) .
2- حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم قال: لا ما صلوا)) .
3- حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات... مات ميتة جاهلية)) .
4- حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: ((سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم. قال: قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئًا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدًا من طاعة)) .
5- حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) .
6- حديث حذيفة قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع. وفي رواية: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قال فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) .
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة في هذا المعنى، وهي جميعها صريحة في النهي عن الخروج على الأئمة، وإن رأى الإنسان ما يكره، وصريحة كذلك في الأمر بالصبر على جورهم وعدم نزع اليد من الطاعة.
ثانيا: الأحاديث الدالة على تحريم اقتتال المسلمين فيما بينهم، وعلى النهي عن القتال في الفتنة:
ومن الأدلة على عدم جواز الخروج على الأئمة الفساق الأحاديث الدالة على تحريم الاقتتال بين المسلمين، وهذا يقع عادة عندما تخرج طائفة عن طاعة إمامها، لأنه يستنجد بجنده من المسلمين فيحصل الاقتتال بينهم، وهناك ما يدل على غلظ تحريم قتل المسلم أخاه المسلم، وعلى النهي عن الاقتتال بين المسلمين، ومن هذه الأدلة:
1- ما رواه البخاري بسنده إلى طريف أبي تميمة قال: ((شهدت صفوان وجندبًا وأصحابه وهو يوصيهم فقالوا: هل سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا؟ قال سمعته يقول: من سمع سمع الله به يوم القيامة. قال: ومن شاق شقق الله عليه يوم القيامة. فقالوا: أوصنا. فقال إن أول ما ينتن من الإنسان بطنه فمن استطاع أن لا يأكل إلا طيبًا فليفعل ومن استطاع أن لا يحال بينه وبين الجنة بملء كف من دم أهراقه فليفعل)) .
قال الحافظ ابن حجر: (وهذا وإن لم يرد مصرحًا برفعه لكان في حكم المرفوع، لأنه لا يقال بالرأي) .
2- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) .
3- وعن الأحنف بن قيس رضي الله تعالى عنه قال: ((ذهبت لأنصر هذا الرجل - يعني على بن أبي طالب رضي الله عنه - فلقيني أبو بكرة فقال أين تريد؟ فقلت: أنصر هذا الرجل، فقال: ارجع فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. فقلت: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه)) .
4- وعن جرير ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له في حجة الوداع: استنصت الناس فقال: لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)) .
فهذه الأحاديث وما في معناها تدل على تحريم اقتتال المسلمين فيما بينهم، وهذا لا شك يكون عند الخروج على الأئمة بالسيف، فدل على تحريم ذلك الخروج.
أحاديث النهي عن القتال في الفتنة:
كما أن مما يدل على ذلك الأحاديث الواردة في النهي عن القتال في الفتنة، وهي أحاديث كثيرة منها:
1- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به)) . أي: من وجد عاصمًا وموضعًا يلتجئ إليه ويعتزل فيه فليعتزل .
2- وعن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن)) .
وهذا يدل على فضل اعتزال الفتن عند وقوعها، وأنها مفسدة للدين الذي هو أول ما يجب على المسلم صيانته وحفظه.
3- وعن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه. قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء. اللهم هل بلغت - ثلاثًا -. قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجئ سهم فيقتلني؟ قال: يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار)) .
4- وعن عديسة بنت إهبان بن صيفي الغفاري قالت: ((جاء علي بن أبي طالب إلى أبي فدعاه للخروج معه، فقال له أبي: إن خليلي وابن عمك عهد إلي إذا اختلف الناس أن اتخذ سيفًا من خشب فقد اتخذته فإن شئت خرجت به معك... قالت: فتركه)) .
5- وعن أبي موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الفتن: ((كسروا فيها سيوفكم وقطعوا أوتاركم واضربوا بسيوفكم الحجارة، فإن دخل على أحدكم فليكن كخير ابني آدم)) .
فهذه النصوص جميعها تدل على النهي عن القتال في الفتنة ولا شك أن الخروج على الأئمة مما يؤدي إلى الفتنة، فدل ذلك على النهي عن الخروج على الأئمة الظلمة. قال الحافظ ابن حجر: (والمراد بالفتنة في هذا الباب: هو ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك حيث لا يعلم المحق من المبطل) .
ثالثا: الأحاديث الدالة على أن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر:
فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)) . وفي رواية ((... بأقوام لا خلاق لهم)) .
فإذا كان الدين قد يؤيد وينصر بسبب رجل فاجر، ولا يضر الدين فجوره فلا يجوز الخروج على الأئمة الفجرة لمجرد فجورهم، لأن فجور الفاجر منهم لا يضر هذا الدين وإنما ضرره على نفسه، وقد يجر هذا الخروج إلى فتن وويلات لا تحمد عقباها.
رابعاً: ومن الأدلة على عدم الخروج أيضًا موقف الصحابة الذين توقفوا عن القتال في الفتنة، وموقف علماء السلف أيام حكم بني أمية وبني العباس وكان في بعضهم فسوق وظلم، ومنهم الحجاج بن يوسف الثقفي الذي كفره بعضهم، وكان الحسن البصري يقول: (إن الحجاج عذاب الله فلا تدافعوا عذاب الله بأيديكم ولكن عليكم الإستكانة والتضرع فإن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]) .
وقيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث : أين كنت يا عامر؟ قال: (كنت حيث يقول الشاعر:
عوى الذئب فاستأنت بالذئب إذ عوى... وصوت إنسان فكدت أطير
أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولهذا استقر رأي أهل السنة على ترك القتال في الفتنة، للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم .
قلت: ولا يكاد أحد من علماء السلف يذكر عقيدته إلا وينص على هذه المسألة ذاتها، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الإمام أحمد في عقيدته في أكثر من رواية حيث قال: (ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق ... وبنحو كلام الإمام أحمد هذا. نص على ذلك أبو زرعة، وابن أبي حاتم الرازيان ، وعلي بن المديني ، وغيرهم كثير: كالطحاوي ، وأبي عثمان الصابوني وغيرهم.
خامسًا: ومن الأدلة على النهي عن الخروج على الأئمة صلاة الصحابة رضوان الله عليهم خلف أئمة الجور والمبتدعة، وهذا يقتضي الإقرار بإمامتهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إذا ظهر من المصلي بدعة أو فجور وأمكن الصلاة خلف من يعلم أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره، فأكثر أهل العلم يصححون صلاة المأموم، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وهو: أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى فهذه تصلى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة السنة بلا خلاف عندهم) .
والذي يدل على ذلك الجواز فعل الصحابة رضوان الله عليهم حيث كانوا يصلون خلف من يعرفون فجوره، كما صلى عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وقد كان يشرب الخمر، وصلى مرة الصبح أربعًا، وجلده عثمان رضي الله عنه على ذلك، وكان عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف ، وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد وكان متهمًا بالإلحاد ، وأخرج ابن سعد عن زيد بن أسلم: (أن ابن عمر كان في زمان الفتنة لا يأتي أميرًا إلا صلى خلفه وأدى إليه زكاة ماله) .
سادسًا: ومن الأدلة على عدم جواز الخروج على الأئمة الفسقة مراعاة مقاصد الشريعة إذ أن من أهداف الشريعة الإسلامية تحقيق أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما. ولا شك أن الضرر في الصبر على جور الحكام أقل منه في الخروج عليهم لما يؤدي إليه من الهرج والمرج، فقد يرتكب في فوضى ساعة من المظالم ما لا يرتكب في جور سنين. قال ابن تيمية: (وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر، أعظم مما تولد من الخير) .
ولذلك (فلا يهدم أصل المصلحة شغفًا بمزاياها، كالذي يبني قصرًا ويهدم مصرًا) .
وذكر ابن الأزرق في معرض استدلاله أن جور الإمام لا يسقط وجوب الطاعة قال: (الثاني: دلالة وجوب درء أعظم المفاسد عليه، إذا لا خفاء أن مفسدة عصيانه تربو على مفسدة إعانته بالطاعة له كما قالوا في الجهاد معه، ومن ثَمَّ قيل: عصيان الأئمة هدم أركان الملة) كما أن في الصبر على جورهم واحتساب ذلك عند الله تكفير السيئات ومضاعفة الأجور (فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل) . وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الحكمة التي راعاها الشارع في النهي عن الخروج على الأمراء وندب إلى ترك القتال في الفتنة لما في المقاتلة من قتل للنفوس بلا حصول للمصلحة المطلوبة. قال: (وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالذين خرجوا بالحرة وبدير الجماجم على يزيد والحجاج وغيرهما...) قال: (لكن إذا لم يزل المنكر إلا بما هو أنكر منه صارت إزالته على هذا الوجه منكرًا، وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكر، مفسدته أعظم من مصلحة ذلك المعروف، كان تحصيل ذلك المعروف على هذا الوجه منكرًا، وبهذا الوجه صارت الخوارج يستحلون السيف على أهل القبلة حتى قاتلت عليًا - رضي الله تعالى عنه - وغيره من المسلمين، وكذلك من وافقهم في الخروج على الأئمة بالسيف في الجملة من المعتزلة والزيدية والفقهاء وغيرهم) .
ويقرر تلميذه ابن القيم رحمهما الله هذه المسألة فيقول: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: ((لا، ما أقاموا الصلاة))، وقال: ((ومن رأى من أميره ما يكرهه، فليصبر ولا ينزعن يدًا من طاعة)). ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار، رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكره، فطلب إزالته فتولَّد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت وردِّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه - خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه...) إلى أن قال: (فإنكار المنكر أربع درجات:
الأولى: أن يزول، ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقلّ وإن لم يُزل بجملته.
الثالثة: أن يتساويا.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه).
قال: (فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة) ثم ضرب الأمثلة على كل درجة، ومنها قوله في التمثيل على الرابعة: (سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله سره ونوّر ضريحه يقول: (مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرَّم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء تصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذراري وأخذ الأموال فدعهم) .
سابعًا: ومن الأدلة على عدم جواز الخروج على الأئمة أننا عند استعراضنا للفتن التي قامت في التاريخ الإسلامي الأول نجد أنها لم تؤت الثمار المرجوة من قيامها، بل بالعكس قد أدت إلى فتن وفرقة بين المسلمين لا يعلم عظم فسادها إلا الله، يقول المعلمي: (وقد جرَّب المسلمون الخروج فلم يروا منه إلا الشر:
1- خرج الناس على عثمان يرون أنهم يريدون الحق.
2- ثم خرج أهل الجمل يرى رؤساؤهم ومعظمهم أنهم إنما يطلبون الحق، فكانت ثمرة ذلك بعد اللقيا، والتي أن انقطعت خلافة النبوة وتأسست دولة بني أمية.
3- ثم اضطر الحسين بن علي إلى ما اضطر إليه فكانت تلك المأساة.
4- ثم خرج أهل المدينة فكانت وقعة الحرَّة.
5- ثم خرج القرَّاء مع ابن الأشعث فماذا كان ؟
6- ثم كانت قضية زيد بن علي، وعرض عليه الروافض أن ينصروه على أن يتبرأ من أبي بكر وعمر، فخذلوه، فكان ما كان) .
قلت: وقد عدَّ أبو الحسن الأشعري خمسة وعشرين خارجًا كلهم من آل البيت ولم يكتب لأحد منهم نصيب في الخروج، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقلَّ من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر، أعظم مما تولَّد من الخير...) .
فإذا كان هذا مآل الخارج، وإن كان قصده حسنًا، ولا يريد إلا الخير وإصلاح الأوضاع، فكيف يجوز الخروج ؟
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
والذي يترجح ... ما ذهب إليه المحدثون وجمهور الفقهاء من أن الفسق أو الظلم ليس من مسوغات الخروج على الحاكم وأن مجمل الموقف منه يتلخص في:
- وجوب طاعته في غير معصية الله
- مشروعية الصبر على أذاه
- وجوب نصحه والإنكار عليه
- عدم الخروج عليه بالسيف
- وأما عزله من غير فتنة فمحل نظر
ومن الأدلة على هذا الموقف:
أولا: أما وجوب طاعته في غير معصية فلعموم قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] ولحديث ((إنما الطاعة في المعروف)) .
ثانيا: أما الصبر على أذاه فلقوله صلى الله عليه وسلم ((من كره من أميره شيئا فليصبر عليه)) . وقوله لما قيل له أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا فأعرض عنه ثم قال ((اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم))
ثالثا: وأما وجوب نصحه والإنكار عليه فلقوله صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) وقوله: ((إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع قالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم قال لا ما أقاموا فيكم الصلاة)) وقال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قلت: أبايعك على الإسلام فشرط علي والنصح لكل مسلم فبايعته على هذا)) . قال أبو عمر بن عبد البر: (وأما مناصحة ولاة الأمر فلم يختلف العلماء في وجوبها) .
والنصيحة أعم من الوعظ والأمر والإنكار فهي..كلمة جامعة تعني إرادة الخير كله للمنصوح له قال محمد بن نصر المروزي: (النصيحة لأئمة المسلمين تعني حب صلاحهم ورشدهم وعدلهم وحب اجتماع الأمة عليهم وكراهة افتراق الأمة عليهم والتدين بطاعتهم في طاعة الله والبغض لمن رأى الخروج عليهم وحب إعزازهم في طاعةالله)
رابعا: وأما عدم الخروج عليه بالسيف فللأحاديث المتقدمة وغيرها وهي كثيرة جدا قال عنها الشوكاني إنها متواترة ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((من حمل علينا السلاح فليس منا)) قال النووي: (وأما الخروج عليهم (يعني الأئمة) وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين) .
وأما عزله من غير فتنة فله أدلة شرعية كثيرة:
أن ذلك من باب تغيير المنكر الذي هو فرض بلا خلاف
ولأن هذا التغيير ينسجم مع قواعد الشريعة العامة مثل الضرر يزال والضرر الأشد يزال بالضر الأخف.
ولأن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها .
ولا شك أن إزالة المفسدة بمصلحة أكبر منها لا غبار عليه فتجلب المصلحة الكبرى وتدرأ المفسدة الصغرى بقدر الإمكان.
ثم إن النصوص الشرعية الواردة في المنع من الخروج على الفسقة جاءت في سياقين.
السؤال عن المنازعة والمنابذة والمقاتلة.
النهي عن مفارقة الجماعة أو شق عصاها.
أما ما نحن بصدده فلا أظن في النصوص ما يمنعه.
وهذا هو الذي قرره كثير من أهل العلم يقول الداودي (الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب وإلا فالواجب الصبر) .
على أنه ينبغي أن يعلم أن العزل هنا ينبغي تقييده بأمرين:
أن يفحش فسق الحاكم وظلمه بحيث لا يمكن إصلاحه وتقويمه.
أن يتولى أمر العزل أهل الحل والعقد فكما أنهم تولوا العقد فكذلك الحل والعزل ولا يترك الأمر للدهماء من العامة فيكثر الهرج وتنتشر الفتنة.
الفصل السابع: موقف أهل السنة من تعدد الأئمة
تمهيد
هل يوجب الإسلام على الأمة الإسلامية أن تكون دولة واحدة بإمام واحد؟ أو يجيز للأمة الإسلامية أن تكون دويلات عديدة، كل واحدة مستقلة عن الأخرى، لها إمامها ولها سياستها المستقلة التي قد تتعارض مع أختها المجاورة، كما كان قائما في فترة من الفترات الماضية، وكما هو حاصل الآن في الحاضر من انقسام الأمة الإسلامية إلى دويلات طائفية صغيرة تتناحر وتتنافر فيما بينها ؟.
الواقع أن الإسلام قد جاء بالدواء الشافي لهذا الداء العضال، ولذلك فمن الواجب علينا الكشف عن هذا الدواء، وإظهاره للمسلمين لعلهم يرعوون إلى الحق، ويرجعون إلى رشدهم بجمع كلمتهم، وتوحيد صفهم، ووقوفهم أمام أعدائهم صفًا واحدًا، بدلاً من هذه الفرقة والضعف والهوان، وهو ما أراده لهم أعداؤهم.
مبحث: حكم تعدد الأئمة
مذهب جماهير المسلمين من أهل السنة والجماعة وغيرهم قديمًا وحديثًا وهو أنه: لا يجوز تعدد الأئمة في زمن واحد وفي مكان واحد، قال الماوردي: (إذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم تنعقد إمامتهما، لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد، وإن شذ قوم فجوزوه) .
وقال النووي: (اتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد...) .
وهؤلاء القائلون بالمنع على مذهبين:
أ- قوم قالوا بالمنع مطلقًا سواء اتسعت رقعة الدولة الإسلامية أم لا، وإلى هذا القول ذهب أكثر أهل السنة والجماعة، وبعض المعتزلة حتى زعم النووي اتفاق العلماء عليه .
ب- وهناك من قال بالمنع إلا أن يكون هناك سبب مانع من الإتحاد على إمام واحد، ويقتضي هذا السبب التعدد، ففي هذه الحالة يجوز التعدد. وذكر إمام الحرمين الجويني أهم هذه الأسباب في قوله: (منها اتساع الخطة، وانسحاب الإسلام على أقطار متباينة، وجزائر في الحج متقاذفة، وقد يقع قوم من الناس نبذة من الدنيا لا ينتهي إليهم نظر الإمام، وقد يتولج خط من ديار الكفر بين خطة الإسلام، وينقطع بسبب ذلك نظر الإمام عن الذين وراءه من المسلمين...) قال: (فإذا اتفق ما ذكرناه فقد صار صائرون عند ذلك إلى تجويز نصب إمام في القطر الذي لا يبلغه أثر نظر الإمام) .
وعزا الجويني هذا القول إلى شيخه أبي الحسن الأشعري، والأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي ، ورجحه أبو منصور البغدادي ، وإلى ذلك ذهب القرطبي في تفسيره فقال: (لكن إذا تباعدت الأقطار، وتباينت كالأندلس وخراسان، جاز ذلك) .
لكن يلاحظ من أقوال المجيزين عند اتساع الرقعة، إنما ذلك بسبب الضرورة، وإلا فإن وحدة الإمامة هي الأصل، وإن التعدد إنما أبيح على سيبل الاستثناء المحض، ولضرورات تجيزه، والضرورة تقدر بقدرها وإذا زالت الضرورة زال حكمها وبقي الأصل.
استدلوا على ما ذهبوا إليه بأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول:
1- من الكتاب:
فقد ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تدعو المسلمين وتأمرهم بالإجماع والتآلف، وتنهى عن التفرق والاختلاف المؤديين إلى التنازع والفشل، فمن هذه الآيات قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً...} [ آل عمران: 103].
ومنها قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].
ومنها قوله عز من قائل: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [ الأنفال: 46]. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى.
ووجه الدلالة من هذه الآيات أنها جميعًا جاءت متفقة على الأمر بالوحدة والتضامن، والنهي عن التشتت والافتراق والاختلاف، لما ينجم عن ذلك عادة من التنازع والفشل الممقوت، وكلها تدل على وجوب وحدة الأمة الإسلامية وتضامنها، وذلك لا يتأتى إلا إذا كان إمامها واحدًا لا ينازعه أحد، إذ إن وجود إمامين فأكثر يؤدي إلى غيرة أحدهما من الآخر، ومنافسته له، ومحاولة التعالي عليه، ومن ثم إلى الشقاق والتناحر لا محالة، وهذا مما نهى الإسلام عنه، فدل على وجوب أن يكون إمام المسلمين واحدًا، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
2- من السنة:
أما من السنة فقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث صحيحة صريحة في هذه تدل على وجوب منع تعدد الأئمة في الزمن الواحد ومن هذه الأحاديث:
أ- ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)) . فالأمر بقتل الآخر يدل على تحريم نصب إمامين في آن واحد، لأن القتل لا يكون إلا عن كبيرة يتفاقم خطرها. لذلك فلا يجوز عقد البيعة لخليفتين في زمن واحد.
وأول بعض العلماء القتل هنا بالخلع والاعتراض عليه لا بالقتل الحقيقي .
ولكن هذا التأويل لا محل له ومردود بالحديث التالي:
ب- ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا رقبة الآخر...)) الحديث .
جـ- ما رواه أبو حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: وفوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم)) .
د- ومنها ما رواه عرفجة بن شريح قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)) .
3- الإجماع:
فإن الصحابة رضي الله عنهم قد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يلي إمامة الأمة أكثر من واحد، ودليل ذلك أن المهاجرين لم يوافقوا الأنصار في طلبهم أن يكون منهم أمير، ومن المهاجرين أمير حينما طلبوا ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكان مما روي في ذلك الموقف قول أبي بكر رضي الله عنه: (هيهات أن يجتمع سيفان في غمد) عندئذٍ رضي الأنصار بذلك، فصار ذلك منهم إجماعًا على عدم جواز تعدد الأئمة، بل روى البيهقي في الخطبة نفسها عبارة أكثر تصريحًا من السابقة وهي قوله: (أنه لا يحل أن يكون للمسلمين أميران، فإنه مهما يكن ذلك يختلف أمرهم وأحكامهم، وتتفرق جماعتهم ويتنازعون فيما بينهم، هنالك تترك السنة، وتظهر البدعة، وتعظم الفتنة، وليس لأحد على ذلك صلاح) .
أما من بعدهم فقد نقل الإجماع على ذلك النووي ، وإمام الحرمين الجويني ، والقرطبي ، والقاضي عبد الجبار (من المعتزلة) وابن حزم حيث قال: (واتفقوا أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان، لا متفقان ولا مفترقان، ولا في مكانين ولا في مكان واحد) . وخالفه في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال:
(النزاع في ذلك معروف بين المتكلمين في هذه المسألة كأهل الكلام والنظر، فمذهب الكرامية وغيرهم جواز ذلك، وأن عليًا كان إمامًا ومعاوية كان إمامًا، وأما أئمة الفقهاء فمذهبهم أن كلاً منهم ينفذ حكمه في أهل ولايته كما ينفذ حكم الإمام الواحد، وأما جواز العقد لهما فهذا لا يفعل مع اتفاق الأمة...) لكن نفاذ حكم الثاني كنفاذ حكم الإمام المتغلب على حد سواء، فلا ينافي هذا الحكم المجمع عليه، وليس الكلام إلا حكم الشرع، أما الأمور الطارئة فلها مجال آخر، وتأخذ أحكام الضرورة.
والمراد بالإجماع المذكور هنا هو: إجماع الصحابة وسلف هذه الأمة، وإلا فقد سبق أن ذكرنا من خالف في هذه المسألة من الكرامية وغيرهم من أهل الأهواء، ولكن مخالفتهم لا تؤثر في إجماع أهل السنة والجماعة على ذلك، لأن الإجماع المقصود: إجماعهم لا إجماع جميع الناس... والله أعلم.
4- المعقول: أما الدليل بالمعقول فإن تعدد الأئمة للأمة الإسلامية الواحدة يؤدي إلى الاختلاف والشقاق والخصومات وحصول الفتن والاضطرابات والقلاقل، واختلاف أمر الدين والدنيا، وهذا لا يجوز. وبناء على ذلك فلا تجوز الإمامة لأكثر من واحد في زمن واحد.
وكذلك لو جاز في العالم إمامان لجاز أن يكون ثلاثة وأربعة وأكثر، فإن منع من ذلك مانع كان متحكمًا بلا برهان، ومدعيًا بلا دليل، وهذا الباطل الذي لا يعجز عنه أحد، وإن جاز ذلك الأمر حتى يكون في كل عام إمام، أوفي كل مدينة إمام، أو في كل قرية إمام، أو يكون كل واحد إمامًا وخليفة في منزله، وهذا الفساد المحض وهلاك الدين والدنيا .
قال الشوكاني: إذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد، والأمور راجعة إليه مربوطة به كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد ثبوت ولاية الأول أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة. وأما إذا بايع كل واحد منهما جماعة في وقت واحد فليس أحدهما أولى من الآخر، بل يجب على أهل الحل والعقد أن يأخذوا على أيديهما حتى يجعل الأمر في أحدهما، فإن استمرا على الخلاف كان على أهل الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين، ولا تخفى وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك.
وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته، فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر، فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب، ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته، ولا الدخول تحت ولايته؛ لتباعد الأقطار، فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها، ولا يدرى من قام منهم أو مات، فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق، وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد، فإن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب، فضلا عن أن يتمكنوا من طاعته وهكذا العكس، وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بمن له الولاية في اليمن وهكذا العكس، فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية والمطابق لما تدل عليه الأدلة، ودع عنك ما يقال في مخالفته، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار، ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها.
تمهيد في معنى المعروف والمنكر
المبحث الأول: معنى المعروف والمنكر لغة
المعروف في اللغة، يدور معناه غالبا على ما تعارف عليه الناس وعلموه ولم ينكروه والمنكر في اللغة، يدور معناه غالبا على ما جهله الناس واستنكروه وجحدوه.
قال في القاموس: عرفه يعرفه معرفة وعرفانا وعرفة بالكسر، وعِرِفّانا بكسرتين مشددة الفاء، علمه، والمعروف ضد المنكر.
والنكر بالضم وبضمتين، المنكر كالنكراء، والأمر الشديد، والنكرة خلاف المعرفة، وتناكر تجاهل والقوم تعادوا، ونكر فلان الأمر كفرح نكرا محركة، ونكرا ونكورا بضمها ونكيرا، وأنكره واستنكره وتناكره جهله، والمنكر ضد المعروف.
وقال في لسان العرب: عرف العرفان العلم.... والمعروف ضد المنكر، والعرف ضد النكر، يقال: أولاه عرفا أي معروفا، والمعروف والعارفة خلاف النكر، والمعرف كالعرف، وقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، والإنكار الجحود، وقوله تعالى: {إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19]، أي أقبح الأصوات: والنُكْر، والنكُرُ الأمر الشديد، والمنكر من الأمر خلاف المعروف، وقد تكرر في الحديث الإنكار والمنكر وهو ضد المعروف، وكل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه فهو منكر، والنكْر والنكراء، ممدود، المنكر، وفي التنزيل العزيز، {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا} [الكهف:74]، ونكر الأمر نكيرا، وأنكر إنكارا ونُكرا، جهله عن كراع، وفي التنزيل العزيز: {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [ هود:70].
وقال في المعجم الوسيط: العرف المعروف وهو خلاف النكر وما تعارف عليه الناس في عاداتهم ومعاملاتهم.
نكر فلان نكرا ونُكرا ونكاره، فطن وجاد رأيه،،، والشيء جهله، وفي التنزيل العزيز: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} [ هود:70]، ونكر الأمر نكاره صعب واشتد وصار منكرا، وأنكر الشيء جهله، وفي التنزيل العزيز: {وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [ يوسف:58]، وحقه جحده، وفي التنزيل العزيز: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل:83]
المبحث الثاني: معنى المعروف والمنكر شرعاً
المعروف في الشرع: كل ما يعرفه الشرع ويأمر به ويمدحه ويثني على أهله، ويدخل في ذلك جميع الطاعات، وفي مقدمتها توحيد الله عز وجل والإيمان به.
والمنكر في الشرع: كل ما ينكره الشرع وينهي عنه ويذمه ويذم أهله، ويدخل في ذلك جميع المعاصي والبدع، وفي مقدمتها الشرك بالله عز وجل وإنكار وحدانيته أو ربوبيته أو أسمائه أو صفاته.
وعبارات المفسرين في تفسير المعروف والمنكر، لا تتجاوز ذلك.
فقيل: المعروف: كل قول حسن وفعل جميل وخلق كامل للقريب والبعيد.
وقيل: المعروف: الخير كله، والمنكر جميع الشر.
وقيل: المعروف: ما عرف حسنه شرعا وعقلا، والمنكر: ما عرف قبحه شرعا وعقلا.
وقيل: المعروف: الإحسان والطاعة، وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه
وقيل: المعروف طاعة الله وما يعرفه الشرع وأعمال البر كلها.
وقيل: المعروف: الإيمان، والمنكر الشرك، وقيل المعروف السنة، والمنكر البدعة
وقيل: المعروف: خلع الأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام.
والمنكر. عبادة الأصنام وقطع الأرحام وقيل: المعروف: الطاعات والفضائل أجمع.
وقيل: العرف، صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام وغض الأبصار والاستعداد لدار القرار.
وقيل: المعروف: عبادة وتوحيده وكل ما أتبع ذلك، والمنكر، عبادة الأوثان وكل ما أتبع ذلك ، وهذا الأقوال كلها حق ولا تنافي بينها.
وقال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث:
(عرف) قد تكرر ذكر المعروف في الحديث، وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع، ونهى عنه، من المحسنات والمقبحات، وهو من الصفات الغالبة، أي أمر معروف بني الناس، إذا رأوه لا ينكرونه، والمعروف النصفة وحسن الصحبة مع الأهل وغيرهم من الناس، والمنكر ضد ذلك جميعه.
وقال: وقد تكرر ذكر الإنكار والمنكر في الحديث، وهو ضد المعروف وكل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه فهو منكر يقال: أنكر الشيء ينكره إنكارا فهو منكر، ونكره ينكره نكرا فهو منكور، واستنكره فهو مستنكر والنكير الإنكار، والإنكار الجحود.
المبحث الثالث: المراد بالمعروف والمنكر عند اجتماعهما، وانفراد أحدهما
إذا أطلق الأمر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر فإنه يدخل فيه النهي عن المنكر وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف ولأنه لا يتم فعل الخير إلا بترك الشر، ومثال ذلك قول الله تعالى {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [ النساء:114]، فإن الأمر بالمعروف يتضمن النهي عن المنكر.
وكذلك إذا أطلق النهي عن المنكر، من غير أن يقرن بالأمر بالمعروف فإنه يدخل فيه الأمر بالمعروف وذلك لأن ترك المعروف من المنكر، ولأنه لا يتم ترك الشر إلا بفعل الخير.
ومثال ذلك قول الله تعالى {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [ الأعراف:165]، فإن نهيهم عن السوء يتضمن أمرهم بالخير.
وأما عند اقتران أحدهما بالآخر فيفسر المعروف بفعل الأوامر ويفسر المنكر بترك ا لنواهي، وأمثلة ذلك كثيرة في كتاب الله تعالى. كقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة:71]
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الفصل الأول: فوائدالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفضله، وحكمه
المبحث الأول: فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
هناك حكم عظيمة تتحقق عند القيام بهذا الجانب العظيم من الدين.. وإذا تأملت هذه الحكم تجدها إما راجعة ومتعلقة بالآمر الناهي، وإما عائدة إلى المأمور المنهي، وإما عامة للجميع..
ويمكننا تلخيص هذه الجوانب الثلاثة فيما يلي:
(1) الفوائد والمصالح العائدة للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر:
أ- خروجه من عهدة التكليف ، ولذا قال الذين حذروا المعتدين في السبت من بني إسرائيل لما قيل لهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف: 164] قالوا: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} فالساكت عن الحق مؤاخذ ومتوعد بالعقوبة، كما أنه شيطان أخرس.
قال علي بن الحسين: (التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنابذ كتاب الله وراء ظهره إلا أن يتقي منهم تقاه. قالوا وما تقاه؟ قال: يخاف جباراً عنيداً أن يسطو عليه وأن يطغى) .
ب- إقامة حجة الله على خلقه . قال الله تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 16].
ج- الشهادة على الخلق.. قال الإمام مالك –رحمه الله-: (وينبغي للناس أن يأمروا بطاعة الله، فإن عصوا كانوا شهوداً على من عصاه) أ.هـ.
د- أداء بعض حق الله تعالى عليه من شكر النعم التي أسداها له من صحة البدن وسلامة الأعضاء.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم ((يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة..)) .
هـ- تحصيل الثواب، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، سواء كانت الأدلة خاصة كالحديث السابق أم كانت عامة كقوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ومثل ذا كثير في الأصلين.
و- تكفير السيئات.. قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. وقال –صلى الله عليه وسلم-: ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) . وجاء في حديث حذيفة لما سأله عمر –رضي الله عنه عن الفتنة: ((فتنة الرجل في أهله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والمعروف)) قال سليمان: قد كان يقول: ((الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..)) .
ز- النجاة من العذاب الدنيوي والأخروي الذي توعد الله به من قعد عن هذا الواجب وأهمله.
وحينما يحل العذاب بقوم ظالمين فإن الله ينجي الذين ينهون عن السوء، كما قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116 – 117] وقال: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165].
ح- التشبه بالرسل والقيام بدعوتهم والسير في طريقهم.
ط- إلقاء هيبته في قلوب الخلق.
(2) الفوائد والمصالح العائدة على المأمور والمنهي:
أ- رجاء الانتفاع والاستقامة، كما قال لنا الناصحون من بني إسرائيل لمن قال لهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا...} {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9] وقال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].
ب- تهيئة الأسباب لتحقيق النجاة الدنيوية والأخروية. قال أبو هريرة –رضي الله عنه في قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]: ((خير الناس للناس يجاء بهم وفي أعناقهم السلاسل حتى يدخلهم في الإسلام)) فإن المأمور والمنهي إذا انتفع واهتدى كان ذلك سبباً في تحصيله السعادة الدنيوية والأخروية، فينجو من عقاب الله ويحصل له الثواب.
(3) الفوائد والمصالح العامة والتي لا تختص بطرف دون الآخر:
أ- إقامة الملة والشريعة وحفظ العقيدة والدين لتكون كلمة الله هي العليا، قال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251] وقال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ} [البقرة: 193] وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} [الأنفال: 39].
هذا واعلم أن الإنسان لابد له من أمر ونهي ودعوة، فمن لم يأمر بالخير ويدعو إليه أمر بالشر.. بل لو أراد الإنسان أن لا يأمر ولا ينهى لا بخير ولا بشر، فإنه لابد له وأن يؤمر وينهى كما تقدم،.. فلمن لم يزحف بمبادئه زحف عليه بكل مبدأ وفكرة، والنفس تتلقى وتتشرب من المبادئ الأخرى والأخلاق، والطبع سراق، شعرت أم لم تشعر.
ولذلك أمر الإسلام بمجالسة الصالحين وأهل البر والمعروف والخير، ونهى عن مجالسة غيرهم، لأن النفس والطبع سراقان لما يريانه، وصاحبهما لا يشعر في كثير من الأحيان.
فإذا قام الناس بذلك المطلب العظيم تحققت حماية المجتمع المسلم من كل دخيل عليه، وإن ذلك يكون بمثابة قوة المناعة التي أودعها الله تعالى في البدن لتقاوم الأمراض والأسقام.. بالإضافة إلى أن الأمر بالمعروف يغذي الأمة أفراداً وجماعات بالمثل والقيم والأخلاق والعقائد السليمة.. فلا يحتاج أحد منهم إلى استيراد مبدأ أو خلق أجنبي على هذا الدين.
فإذا أهملنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، شعر الناس بالخواء الفكري والروحي، وبدؤوا يبحثون عما يسد جوعتهم، ويملأ نفوسهم وقلوبهم، واتجهوا إلى المبادئ الأرضية والأفكار المتعفنة، وهجمت عليهم الانحرافات بأنواعها وألوانها التي لا تحصى، ومن ثم يتلقفهم شياطين الجن والإنس على مختلف رتبهم وتخصصاتهم من مشككين ومشرعين.. إلخ.
وبالتالي تظهر الفترة، وتستحكم الغربة، ويصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً.
ومن المعلوم أن الإنسان لديه دافع داخلي يدفعه إلى حب الفضيلة والخير وفعلهما، وهو أمر مغروس في فطرته، فإذا وجد من يفعل المعروف فإن ذلك يحركه للقيام به، فإذا كان ذلك الفاعل له من نظرائه كان الدافع لفعله أكبر، فكيف إذا أمره بفعله آمر وحرضه عليه؟! لا ريب أن هذا يكون أدعى إلى القيام به، ثم لو ليم على ترك ذلك المعروف، أو نيل منه بكلام أو ضرب أو حبس، كان ذلك دافعاً خامساً لتحقيقه.
وذلك لأن النفوس مجبولة على تشبه بعضها ببعض.. وقد شبهها شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- بأسراب القطا.. فإذا كثر الفاعلون للخير تداعى الناس لفعله، ولذا جاء في الحديث: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها..)) .
وسبب ورود هذا الحديث، هو ذلك الرجل الذي جاء بتلك الصرة من المال فوضعها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتداعى الناس إلى التصدق.
ب- رفع العقوبات العامة.. قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] وقال أيضاً في الجواب عن سبب مصابهم يوم أحد: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] فالكفر والمعاصي بأنواعها سبب للمصائب والمهالك، قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ....} [هود: 116] وقال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] (وهذه الإشارة تكشف عن سنة من سنن الله في الأمم، فإن الأمة التي يقع فيها الظلم والفساد فيجدان من ينهض لدفعهما هي أمم ناجية لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير، فأما الأمم التي يظلم فيها الظالمون، ويفسد فيها المفسدون، فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد، أو يكون فيها من يستنكر ذلك، ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد فهي أمم مهددة بالدمار والهلاك كما هي سنة الله تعالى في خلقه، وبهذا تعلم أن دعاة الإصلاح المناهضون للطغيان والظلم والفساد هم صمام الأمان للأمم والشعوب، وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين للخير والصلاح الواقفين للظلم والفساد، إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب، إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب الله واستحقاق النكال والضياع) .
ج- استنزال الرحمة من الله تعالى، لأن الطاعة والمعروف سبب للنعمة قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] وقال: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 – 148]
وقال: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 41-42]. ومثل ذا كثير في الكتاب والسنة كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96] وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم...} [المائدة: 66].
وقال عليه الصلاة والسلام: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً)) .
د- شد ظهر المؤمن وتقويته ورفع عزيمته، وإرغام أنف المنافق.. فإن المؤمن يقوى ويعتز حينما ينتشر الخير والصلاح ويوحد الله لا يشرك به، وتضمحل المنكرات على إثر ذلك، بينما يخنس المنافق بذلك، ويكون ذلك سبباً لغمه وضيق صدره وحسرته، لأنه لا يحب ظهور هذا الأمر ولا ذيوعه بين الخلق. كيف لو طولب هو بالتطبيق والعمل ومجانبة المنكر.. وألزم بما أظهر من الانتساب إلى الدين؟! لا شك أنه يتألم لذلك أشد الألم ويحزن بسببه أشد الحزن.
قال الثوري –رحمه الله-: (إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر المؤمن، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق) .
هـ- بقيام المسلمين بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يحصل لهم الطموح والترفع عن الدنايا، كما يحصل لهم الشعور بأنهم ربانيون يصلحون الناس، وحينئذ يكونون قدوة حسنة بصلاح أنفسهم وحسن استقامتهم، مما يجعلهم يحاسبون أنفسهم على أصغر زلة، وهذه بحد ذاتها فائدة عظيمة جداً اقتضتها حكمة الله في تهيئة هذه الأمة لقيادة غيرها من الأمم .
و- ابتلاء الخلق بعضهم ببعض.. لأن هذا العمل بجميع مراتبه وأنواعه جهاد، وما قتال الكفار بالسيف والسنان إلا نوع من أنواعه.
قال تعالى: {وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [محمد: 4]. وبمثل هذه الابتلاءات يظهر إيمان المؤمن، وصبره على مكاره النفس في سبيل رضى ربه، ولأجل نشر دينه وشريعته.
ز- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للنصر على الأعداء، فإن الأمة لا تنتصر بعدد ولا عدة، وإنما تنتصر بهذا الدين، ولذا كانت مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإرادة الدنيا من البعض سبب لوقوع الهزيمة في أحد، {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] وقال: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وقال: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25] وقال: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 – 41].
ح- تحقيق وصف الخيرية في هذه الأمة قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران: 110] وقد تقدم إيراد كلام بعض أهل العلم في هذه الآية، كعمر بن الخطاب –رضي الله عنه-، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن كثير وغيرهم.
ط- التجافي عن صفات المنافقين، وظهور الفرقان بين صفاتهم وصفات المؤمنين.. ذلك أن من أخص صفات المؤمنين القيام بهذا العمل الطيب قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ...} [التوبة: 71].
كما أن ترك القيام بهذا العمل يعد من صفات المنافقين البارزة، كما أخبر الله عز وجل عن ذلك بقوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67]. وسيأتي في آخر هذا المبحث – عند ذكر الآثار المترتبة على تركه – كلام الإمام أحمد – رحمه الله – (يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه بينهم مثل الجيفة ويكون المنافق يشار إليه بالأصابع – إلى أن قال – المؤمن إذا رأى أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر لم يصبر حتى يأمر وينهى.. والمنافق كل شيء يراه قال بيده على فمه..).
ي- استقامة الموازين، واتزان المفاهيم، فيجلو أمر المنكر أمام الناس، ويعلمون أنه منكر، كما يعلمون أن هذا الأمر المعين من المعروف، وبالتالي يقبلون على هذا ويعرضون عن ذاك، بخلاف ما إذا عطل جانب الأمر والنهي، فقد يتوهم كثير من الناس في كثير من المنكرات أنها من المعروف، كما يتوهم كثير منهم كذلك في كثير من أمور المعروف وخصاله أنها من المنكر، فيشنعون على فاعلها، ويقفون في طريقه، كما هو حاصل في هذه الأيام
المبحث الثالث: الآثار المترتبة على تركه
1- وقوع الهلاك: وذلك من جهتين:
الأولى: أن المعاصي التي تظهر ولا تنكر سبب للعقوبات والمصائب .
الثانية: أن السكوت ذاته يعد معصية يستحق صاحبه العقوبة ، كما أنه يدل على التهاون في دين الله عز وجل.
هذا إذا كان الساكت عنه فرداً من أفراد المجتمع.. أما حين يسكت المجتمع بأكمله.. فإن العقوبة تعم في هذه الحال. قال الله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال: 25]. وقال البخاري –رحمه الله-: باب ما جاء في قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً...} ثم ذكر بعض الأحاديث تحت هذا الباب. قال الحافظ: (وعند الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب) . ولهذا الأثر شاهد من حديث عدي بن عميرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة)) . ا.هـ .
وقد ورد في هذا المعنى أحاديث وآثار متنوعة، منها حديث أبي بكر الصديق –رضي الله عنه عند بيانه لما أشكل على البعض من قوله تعالى: {عليكم أنفسكم} وفيه: وإنما سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب...)) .
وثبت عنه أيضاً. ((وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون أن يغيروا ولا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب)) .
قال ابن العربي في شرحه: (وهذا الفقه عظيم، وهو أن الذنوب منها ما يعجل الله عقوبته، ومنها ما يمهل بها إلى الآخرة، والسكوت عن المنكر تتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات، وركوب الذل من الظلمة للخلق...) ا.هـ .
وقد جاء من حديث جرير –رضي الله عنه مرفوعاً: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز منهم وأمنع لا يغيرون إلا عمهم الله بعقاب)) .
وعن حذيفة –رضي الله عنه مرفوعاً: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) .
ولما قالت أم المؤمنين زينب –رضي الله عنها-: ((أنهلك وفينا الصالحون؟)) قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم إذا كثر الخبث)) .
وقال بلال بن سعد –رحمه الله-: (إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت فلم تغير ضرت العامة) .
وقال عمر بن عبد العزيز –رحمه الله-: (كان يقال: إن الله تعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهاراً استحقوا كلهم العقوبة) .
هذا وإن العقوبات تتنوع وتقع بصور مختلفة، فمنها ما يكون بالتدمير بالزلازل أو الفيضانات أو نقص الأنفس من جراء الحروب أو الأوبئة أو نقص الثمرات، ومنها ما يكون بالريح، أو بإدالة الأعداء، أو بتولي أهل الشر وتسلطهم على رقاب المسلمين (ولا تكون القيادة لأهل الشر إلا إذا تخلى عنها أهل الخير ورضوا من إيمانهم بإيمان صوري، أو إيمان ناقص لا يلحقهم بهذه الخيرية، وإنما يعاقبهم بتسليط أهل الشر عليهم فيحكمونهم بالحكم الدنيوي المرخص لأعراضهم والمهدر لكرامتهم والمصادر لأموالهم..) .
وبهذا تعلم أن العاصي لا يضر نفسه فحسب، وإنما يضر مجتمعه بأكمله، وقد شبه الرسول –صلى الله عليه وسلم- حاله مع حالهم بقوله: ((مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها يصعدون فيستقون الماء فيصبون على الذين في أعلاها. فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا، فقال الذين في أسفلها: فإنا ننقبها من أسفلها فنستقي، فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم نجوا جميعاً، وإن تركوهم غرقوا جميعاً)) .
2- انتفاء وصف الخيرية عن هذه الأمة: وذلك أن الحكم المقرون بالوصف المناسب له يدل على أنه معلل بذلك الوصف، فيدور الحكم مع الوصف وجوداً وعدماً، كما قال في المراقي:

دلالة الإيماء والتنبيه
في الفن تقصد لدى ذويه

أن يقرن الوصف بحكم إن يكن
لغير علة يعبه من فطن


3- أنه يجرئ العصاة والفساق على أهل الحق والخير: فينالون منهم ويتطاولون عليهم وهذا مشاهد ملموس في هذه الأيام – والله المستعان -.
4- أنه سبب لظهور الجهل واندراس العلم : وذلك أنه إذا ظهر المنكر ولم يوجد من ينكره نشأ عليه الصغير وألفه وظن أنه من الحق، كما هي الحال في كثير من المنكرات اليوم.
5- أن في هذا الأمر تزييناً للمعاصي عند الناس وفي نفوسهم ؛ لأن صاحب المنكر كالبعير الأجرب يختلط بالإبل فتجرب جميعاً بإذن الله..!!
والناس كأسراب القطا قد جبل بعضهم على التشبه ببعض..!!
فإذا أضفت إلى ذلك ما يوجد داخل النفس من الأمر بالسوء، وحب الشهوة، فإذا وجد المنكر عند الناس في الخارج قوي الباعث الذي في النفس!!
فإذا كان الفاعل له في الخارج من نظراء هذا ازداد طلبه له، ويشتد الدافع له إذا وجد من يأمره به ويرغبه بارتكابه.. ويعظم الدافع إلى ارتكابه إذا أوذي بسبب تركه ونيل منه بسبب مجانبته..!!
هذا وإن أهل الفساد لا يرضون إلا بموافقته لهم ويكرهون من تنزه عن ذلك. وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- إلى أن المرأة الزانية تود أن النساء كلهن يزنين.. ونقله عن بعض السلف.
علماً أنه لو وقع فيه معهم لانتقصوه وصغر في أعينهم.. واتخذوا من فعله هذا حجة عليه يطعنون بها متى شاؤوا!! .
6- عدم إجابة الدعاء: جاء هذا في حديث عائشة –رضي الله عنها- مرفوعاً: ((مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم)) وقد تقدم حديث حذيفة قريباً وفيه: ((ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) .
7- سبب ظهور غربة الدين: واختفاء معالمه، وتفشي المنكرات والكفر والظلم.. وهذا هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء)) فكلما انتشر الفساد والظلم كلما ازدادت الغربة.. حتى يصبح المتمسك بدينه غريباً بينهم.. وحتى تصبح السنن والهدى من الأمور المرفوضة والمستهجنة عند هذا الجنس السيئ من الخلق.. قال الخلال: (أخبرني عمر بن صالح بطرسوس، قال: قال لي أبو عبد الله: يا أبا حفص: يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه بينهم مثل الجيفة، ويكون المنافق يشار إليه بالأصابع.
فقلت: يا أبا عبد الله، وكيف يشار إلى المنافق بالأصابع؟! فقال: يا أبا حفص صيروا أمر الله فضولاً. وقال: المؤمن إذا رأى أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر لم يصبر حتى يأمر وينهى، يعني قالوا: هذا فضول. قال: والمنافق كل شيء يراه قال بيده على فمه. فقالوا: نعم الرجل، وليس بينه وبين الفضول عمل!) .
وقال جامع بن شداد: كنت عند عبد الرحمن بن يزيد بفارس، فأتاه نعي الأسود بن يزيد، فأتيناه نعزيه. فقال: مات أخي الأسود. ثم قال: قال عبد الله: يذهب الصالحون أسلافاً ويبقى أصحاب الريب.
قالوا: يا أبا عبد الرحمن، وما أصحاب الريب؟!
قال: (قوم لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر) .
8- إلف المسلم لهذه المنكرات: المتفشية لكثرة مشاهدته لها، والأمر كما قيل: (كثرة المساس تبلد الإحساس)، فما تعود للقلب تلك الشفافية والحساسية عند رؤية المنكر.
وقد حكي عن بعضهم: أنه مر يوماً في السوق فرأى بدعة فبال الدم من شدة إنكاره لها بقلبه، وتغير مزاجه لرؤيتها، فلما كان في اليوم الثاني مر فرآها فبال دماً صافياً، فلما كان في اليوم الثالث مر فرآها فبال بوله المعتاد لأنه قد ألف رؤيتها
الفصل الثاني: الشروط والآداب الواجب توافرها في المحتسب، وذكر شروط إنكار المنكر
المبحث الأول: شروط المحتسب المعتبرة وغير المعتبرة
المطلب الأول: الشروط المعتبرة التي لابد من توافرها
الأول: التكليف :
وهذا الشرط يخرج غير المكلف كالمجنون والصبي.. والمكلف في اصطلاح الفقهاء: هو البالغ العاقل.
وهذا الشرط يعد من شروط الوجوب، لكن لا يعني هذا الاشتراط للتكليف أن غير البالغ لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر بل يكون ذلك مندوباً في حقه.
كما هو الحال في الصلاة والصوم والحج ونحوها مما هو معلوم .
الثاني: الإسلام :
الحسبة فيها نوع ولاية، ولا ولاية للكافر على المسلم؛ ثم إن الكافر لو قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه لا يقبل منه مع انتفاء شرط الإسلام، بقطع النظر عن كونه مخاطباً بفروع الشريعة أم لا.
ولأن الحسبة نصرة للدين ورفع له فلا يرجى أن يكون ناصره من هو جاحد لأصله . لكن لو قام الكافر بالإنكار للمنكر.. فهل يبقى على المسلم إنكار له؟!
والجواب عن هذا أن يقال: إن زال المنكر فليس على المسلم إنكار بعده، لأنه لا وجود للمنكر.. لكن إن كان المسلم عالماً بالمنكر قبل إنكار الكافر له كان إنكاره متعيناً على المسلم فيلام على الترك.
أما في حال بقاء المنكر بعد إنكار الكافر له فلا شك أن هذا لا يعفى المسلم من إنكاره أبداً.
الثالث: الإخلاص وإحضار النية :
لابد للمحتسب من أن يطلب بعمله وجه الله تعالى ورضاه.. دون أن يقصد بعمله وحسبته رياء ولا سمعة.. ولا منزلة في قلوب الخلق أو شيئا من دنياهم.
وهذا الأمر –أعني الإخلاص- شرط في قبول سائر الأعمال الصالحة كما تقدم قال الله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
ويتأكد الإخلاص في حال كون العمل بارزاً ظاهراً يراه الناس ويشاهدونه. وننبه في هذا الموضع إلى مدخل شيطاني يوسوس به إبليس في نفوس بعض الغيورين فيشككهم في إخلاصهم وبالتالي يقعدهم عن القيام بمثل هذا العمل العظيم.. أو يقعدهم عنه ابتداء تحاشياً للشهرة أو الانزلاق بالعجب أو الرياء والسمعة.. كما نسمع من بعض القاعدين عنه!! فلا ينبغي الالتفات إلى شيء من هذه الوساوس ولا الركون إلى تلك الهواجس..!! وسيأتي المزيد من بيان هذا عند الكلام على أحوال الناس بالنسبة إلى القيام به وعدمه.
وقد يكون للرجل جهاد وعمل ضخم في مجالات الدعوة والإصلاح والتوجيه وليس له عند الله تعالى نصيب، لأنه إنما دعا إلى تجميع الناس حول نفسه.. فدعوته وجهاده لرفع تلك النفس.
الرابع: المتابعة:
إن الغرض من الاحتساب هو إيجاد المعروف وإزالة المنكر والمعروف هو ما جاء به محمد –صلى الله عليه وسلم-.. فعلى المحتسب أن يجعل هذا نصب عينيه، وعليه أن يعلم جيداً أن المتابعة شرط في قبول عمله لقوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110] والعمل الصالح هو العمل الصائب الموافق لهديه –صلوات الله وسلامه عليه-.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة المتقدم – عن مداخلة الدخن للخير الذي يكون بعد الشر لما ذكر الفتن.. وفسره بقوله ((قوم يهدون بغير هديي ويستنون بغير سنتي)).
فيجب أن يكون منهجنا في التغيير للانحرافات الواقعة في الأمة.. وإيجاد الفضيلة والخير في المجتمع سائراً على المنهج الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رسول الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31].
ولقد بدأ –صلوات الله وسلامه عليه- كغيره من الأنبياء قبله –بإصلاح عقائد الناس أولاً وجمعهم على عقيدة التوحيد؛ كما ربى أصحابه –رضوان الله عليهم أجمعين- على وحدة مصدر التلقي.. وعلى أن كل قول غير قول الله وقوله رسوله –صلى الله عليه وسلم- فإنه هو قول قابل للخطأ والصواب فلا ينظر إليه باعتبار قائله (اعرف الحق تعرف أهله، فإنما الحق لا يعرف بالرجال).
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
فإذا بدأ المحتسب أو (الداعي) بعكس ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما لو بدأ بالجهاد أو إقامة الدولة مثلاً فإنه لا يفلح في دعوته، وهذا ولا شك من ذلك الدخن الذي أخبرنا عنه –صلى الله عليه وسلم- قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والنهي على الصراط المستقيم، والصراط المستقيم أقرب الطرق. وهو الموصل إلى حصول القصد) ا.هـ.
فكل دعوة إلى الإصلاح وكل أمر بمعروف أو نهي عن منكر لا ينتهجان ذلك المنهج السوي فلهما من المفارقة لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي هو منهج أهل السنة والجماعة بقدر المخالفة له.
فإن منهج أهل السنة وطريقهم لا يقتصر على مسائل الصفات فقط، أو قضايا العلم والاعتقاد، بل ذلك يكون في تلك القضايا وغيرها من الأمور العملية وإنما كثر التدوين في مسائل الصفات خاصة ومسائل الاعتقاد عامة لكثرة المخالفين فيها أولاً ثم لخطورة الخلاف في تلك المسائل ثانياً.
ونحن ندعو كل مسلم إلى التمسك بذلك المنهج فهو طريق الخلاص من هذا الواقع المرير.
الخامس: العلم :
تبين لك فيما سبق أنه لابد من بلوغ المطالبة بالتكليف إلى المكلف في العمل المعين.. وإلا فإنه لا يؤاخذ على تركه. وهذا ظاهر وهو الذي مر معك عند الكلام في شرطية العلم بالتكليف وأنه من شروط الوجوب، لكن العلم الذي نريد الحديث عنه هو العلم بما يأمر والعلم بما ينهى.
فلابد للآمر أن يعلم أن ما يأمر به هو من المعروف، كما لابد للناهي أن يعلم أن ما نهى عنه يعد من المنكر.. فلابد إذاً أن يكون فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فيما ينهى عنه. فحاله كحال الطبيب لا يمكنه العلاج حتى يفهم المرض والدواء معاً.
قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] فدلت الآية على لزوم البصيرة وهي الدليل الواضح . قال ابن القيم –رحمه الله-: (وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها، فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه بل لابد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حد أقصى ما يصل إليه السعي.
ويكفي هذا في شرف العلم أن صاحبه يحوز به هذا المقام، والله يؤتي فضله من يشاء) ا.هـ .
وإن مما يدخل في هذا العلم المطلوب: علم المحتسب بمواقع الحسبة وحدودها . قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: (من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح) .
قال النووي –رحمه الله-: (إنما يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه، ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء) ا.هـ. بل لا يكون عمل المحتسب أو الداعي صالحاً ما لم يكن بعلم وفقه كما قال عمر بن عبد العزيز –رحمه الله-.. لأن القصد والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلاً وضلالاً واتباعاً للهوى.. وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام.
فلابد إذاً من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما، كما لابد من العلم بحال المأمور وحال المنهي .
ولا تفهم مما سبق أن المطلوب منك عند قيامك بمهمة الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تكون عالماً فقيهاً!! بل يكفي في ذلك أن تعلم أن هذا من المنكر فتنكره أو من المعروف فتأمر به وتدعو الناس إليه.
أما إذا اقتحم الجهال الدعوة، وترأسوا فيها، وأخذوا بالأمر والنهي بلا علم في ذلك كله، فإنهم يفسدون في هذه الحال أكثر مما يصلحون كما تقدم؛ فقد يأمر أحدهم بالمنكر وينهى عن المعروف جهلاً منه .. قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ...} [النحل: 116].
وإن من أمارات الساعة ومن أسباب تعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رفع العلم كما قال –صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) .
قال الإمام البخاري في صحيحه: (باب لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه) ثم أورد حديث الزبير بن عدي قال: ((أتينا أنس ابن مالك فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج. فقال: اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه. حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم –صلى الله عليه وسلم-)) .
وقد ذكر الحافظ في شرحه أقوالاً متعددة ثم قال: ثم وجدت عند عبد الله بن مسعود التصريح بالمراد وهو أولى بالاتباع. فأخرج يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة عن زيد بن وهب قال: (سمعت عبد الله بن مسعود يقول: لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه، ولا مالاً يفيده، لكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علماً من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون). ومن طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود إلى قوله (شر منه).
قال: فأصابتنا سنة خصب. فقال: ليس ذلك أعني، إنما أعني ذهاب العلماء). ومن طريق الشعبي عن مسروق عنه قال: (لا يأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما كان قبله، أما إني لا أعني أميراً خيراً من أمير ولا عاماً خيراً من عام، ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجد منهم خلفاً، ويجيء قوم يفتون برأيهم) وفي لفظ عنه من هذا الوجه: (ما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها، ولكن بذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه) . والله المستعان.
هذا وقد يحمل الإقدام على الإنكار بغير علم ذوي النفوذ على الوقوف في وجه الحسبة وتعطيلها قال عبد الصمد بن المهتدي: لما دخل المأمون بغداد، نادى بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك لأن الشيوخ بقوا يضربون ويحبسون، فنهاهم المأمون وقال: قد اجتمع الناس على إمام، فمر أبو نعيم، فرأى جندياً وقد أدخل يديه بين فخذي امرأة، فنهاه بعنف، فحمله إلى الوالي، فحمله الوالي إلى المأمون. قال: فأدخلت عليه بكرة وهو يسبح، فقال توضأ. فتوضأت ثلاثاً ثلاثاً على ما رواه عبد خير، عن علي، فصليت ركعتين، فقال: ما تقول في رجل مات عن أبوين؟ فقلت: للأم الثالث، وما بقى للأب، قال فإن خلف أبويه وأخاه؟ قلت: المسألة بحالها، وسقط الأخ، قال: فإن خلف أبوين وأخوين؟ قلت: للأم السدس وما بقى للأب. قال: في قول الناس كلهم؟ قلت: لا، إن جدك ابن عباس يا أمير المؤمنين ما حجب الأم عن الثلث إلا بثلاثة إخوة. فقال: يا هذا، من نهى مثلك عن الأمر بالمعروف؟! إنما نهينا أقواماً يجعلون المعروف منكراً. ثم خرجت .
السادس القدرة :
يقول الله عز وجل: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فمن كان بوسعه القيام بالأمر والنهي لزمه ذلك ومن لا فلا.
هذا واعلم أن الناس يتفاوتون في القدرة تفاوتاً كبيراً.. فالسلطان أقدر من غيره على القيام بذلك.. كم أن المتطوع أقل اقتداراً في الغالب من المنصوب للاحتساب.. وهكذا.
وكلما كان الإنسان أقدر كلما كان تعين ذلك عليه آكد .
فإذا كان يعجز عن القيام به بيده تعين اللسان، فإن عجز عنه تعين القلب، وقد بينا أن الإنكار بالقلب لا يسقط عنه بحال من الأحوال، كما بينا أن العجز يكون حسياً ويكون ملحقاً به كخوف لحوق الأذى .
لكن لو تمكن المرء من الإنكار على الضعفاء دون الأقوياء فهل يلزمه الإنكار على من قدر عليهم؟!
الجواب: نعم يلزمه ذلك. لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وهذا عمل بما يستطيع.. والله تعالى لا يكلفه ما لا يطيق {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286].
وفي القاعدة الثامنة من قواعد ابن رجب –رحمه الله-: (من قدر على بعض العبادة وعجز عن باقيها هل يلزمه الإتيان بما قدر عليه منها أم لا) ؟
وهذا فيه تفصيل يهمنا منه لزوم بعض العبادات التي تقبل ذلك كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلو رأى منكرين أحدهما كبير والآخر صغير وقدر على إنكار الصغير منهما دون الكبير فإن إنكار الصغيرة لا يسقط عنه.
قال الخلاب: (باب الرجل يرى المنكر الغليظ فلا يقدر أن ينهى عنه ويرى منكراً صغيراً يقدر أن ينهي عنه كيف العمل فيهما)؟ أخبرنا سليمان بن الأشعث قال: سئل أبو عبد الله عن رجل له جار يعمل بالمنكر لا يقوى على أن ينكر عليه، وضعيف يعمل بالمنكر أيضاً، ويقوى على هذا الضعيف أينكر عليه؟ قال: نعم ينكر على هذا الذي يقوى أن ينكر عليه .
المطلب الثاني: ذكر الشروط غير المعتبرة
1) العدالة:
ذهب قوم إلى اشتراط العدالة مستدلين بما يأتي:
1- قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] قالوا: فالفاسق ليس من المفلحين، فيجب أن يكون الآمر الناهي غير فاسق.
2- قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] فأنكر عليهم أمرهم بالشيء وواقعهم يخالفه. ولذا قال بعض الأنبياء لأقوامهم: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ..} [هود: 88] وقال تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3-4].
واستدلوا بقوله –صلى الله عليه وسلم-: ((يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه..)) إلخ قالوا: فهذا كان معاقب لكونه يأمر وينهى ولا يأتمر وينتهي بنفسه.
الجواب عما استدلوا به: يمكن أن يجاب عن الآية الأولى بأن الفلاح المذكور حاصل حتى للفاسق فإنه لا يكون مخلداً في النار.
أو يقال: بأن هذا ورد على سبيل التغليب، لأن الغالب أن لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من أصلح أحوال نفسه. فالعاقل يقدم ما يصلحها على ما يصلح غيره في الآجل.
وأما الجواب عن النصوص التي تضمنت الإنكار والوعيد لمن يأمر ولا يمتثل فيقال: قد اجتمع في هذا الموضع على المكلف واجبان:
الأول: الامتثال لأمر الله تعالى.
الثاني: حث الناس على ذلك وأمرهم به وتحذيرهم ونهيهم عما خالفه.
فإذا قصر في أحد هذين فإن ذلك لا يعني سقوط الآخر عنه.. فإن ترك الأمر والنهي بقي عليه الامتثال.. وإن ترك الامتثال بنفسه بقي عليه الأمر والنهي .
هذا وقد وقع الذم في تلك النصوص والوعيد على ارتكاب ما نهى عنه الناهي عن المنكر، ولم يقع الذم على نفس النهي عن المنكر، بل هذا يحمد ولا يذم فهو طاعة لله عز وجل وقربة، ولا شك أن وقوع المنكر ممن ينهى عنه أقبح من وقوعه ممن لا يعلم أنه منكر أو علم ولم يدع إلى تركه. وهذا لا يعني إعفاءه من الأمر والنهي كما تقدم .
وبهذا تعلم أن التوبيخ إنما وقع على نسيانهم لأنفسهم من المعروف الذي أمروا به، وليس التوبيخ على أمرهم ونهيهم .
قال ابن العربي: (وليس من شرطه أن يكون عدلاً عند أهل السنة ، وقالت المبتدعة: لا يغير المنكر إلا عدل. وهذا ساقط، فإن العدالة محصورة في قليل من الخلق، والنهي عن المنكر عام في جميع الناس) ا.هـ.
ومن المعلوم لديك أن شروط الطاعات لا تثبت إلا بالأدلة .
قال الجصاص: لما ثبت وجوب فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبينا أنه فرض على الكفاية.. وجب أن يختلف في لزوم فرضه البر والفاجر لأن ترك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضاً غيرها.. ألا ترى أن تركه للصلاة لا يسقط عنه فرض الصوم وسائر العبادات، فكذلك من لم يفعل سائر المعروف، ولم ينته عن سائر المناكير، فإن فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ساقط عنه ا.هـ.
وإن مما يبرهن على صحة ما ذكرنا أن العصمة من المعاصي ليست من شروط الاحتساب بالإجماع، فلو اشترط ذلك لتعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع الأعصار، وسواء في ذلك عصر الصحابة أو من بعدهم، إذ لا أحد معصوم من المعاصي منهم.. بل حتى الأنبياء تقع منهم الصغائر على القول الراجح لكنهم لا يصرون عليها.
ومن أجل ذا قال الإمام مالك وسعيد بن جبير –رحمهما الله-: (لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر).
قال مالك: (ومن هذا الذي ليس فيه شيء؟) .
قال عمر بن عبد العزيز –رحمه الله-: (لو أن المرء لا يعظ أخاه حتى يحكم أمر نفسه، ويكمل الذي خلق له من عبادة ربه، إذاً لتواكل الناس الخير! وإذاً لرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة في الأرض) .
وقال أبو الدرداء –رضي الله عنه-: (إني لآمركم بالأمر وما أفعله، ولكن لعل الله يأجرني فيه) .
وقد نقل عن الحسن أنه قال لمطرف بن عبد الله: عظ أصحابك. فقال إني أخاف أن أقول ما لا أفعل. قال: يرحمك الله! وأينا يفعل ما يقول! ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر .
ولو قال قائل إن ذلك مختص بالكبائر! قيل له: هل للزاني أو شارب الخمر مثلاً أن يغزو الكفار؟!
فإن قالوا: لا. فقد خرقوا الإجماع.. فلا زال جنود المسلمين منذ عهد الصحابة مشتملة على بعض من يقترف الكبائر، وقصة أبي محجن رضي الله عنه يوم القادسية مشهورة معلومة، ولم يمنعهم أحد لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من بعده عن الغزو .
وقال ابن كثير –رحمه الله- بعد أن قرر عدم اشتراط العدالة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ولكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم، ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك) ا.هـ ثم ذكر جملة من الآثار الدالة على ذلك .
المبحث الثاني: الآداب الواجب توافرها في المحتسب(13787)
المطلب الأول: الرفق
لابد أن يكون المحتسب رفيقاً في احتسابه ما أمكنه ذلك، لأن هذه الصفة الطيبة –أعني الرفق- هي من الصفات المحببة إلى الخلق كما يحبها الخالق جل وعلا، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)) كما قال صلى الله عليه وسلم ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)) وعن جرير رضي الله عنه مرفوعاً: ((من يحرم الرفق يحرم الخير كله)) .
ثم إن هذه الصفة محببة إلى الخلق، لأن الإنسان بطبعه وفطرته يحب الإحسان ويكره الإساءة.. وهو يقبل من طريق الرفق ما لا يقبل من طريق العنف والشدة، بل إن الإنسان –غالباً- إذا أمر بعنف فإنه تأخذه العزة بالإثم فيأنف ويصر على خطئه عناداً.. وهو بطبعه نفور من أهل الفظاظة والغلظة.. ومصداق ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] ولذا أرشده إلى المدخل إلى نفوسهم وقلوبهم وهو ضد ذلك الوصف الرديء.. فقال {فَاعْفُ عَنْهُمْ} وهذا لا شك إذا كان المقام يحتمل ذلك.. ثم أعقب ذلك بقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] فاتصاف الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بالشفقة والرحمة والخوف على مصلحة المأمور أمر ضروري لقبول دعوته.
وهكذا كان حال النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى ممتناً ببعثته: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] بل كان –صلوات الله وسلامه عليه- يشتد عليه إعراض قومه، ويتألم لذلك، ولهذا قال تعالى له مهوناً عليه: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127].
وقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6] {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً} [آل عمران: 176] {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41].
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} [يونس: 65] {وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23].
هذا وإن الاحتساب المثمر هو الذي يجعل المحتسب عليه ينقاد لما يطلب منه من فعل أو ترك.. فإن رافق ذلك وصاحبه الاقتناع بما طلب منه كان ذلك أكمل وأفضل حتى يكون له وازع من نفسه وقلبه بضرورة فعل هذا الأمر أو تركه .
قيل للإمام مالك رحمه الله: الرجل يعمل أعمالاً سيئة، يأمره الرجل بالمعروف وهو يظن أنه لا يطيعه، وهو ممن لا يخافه كالجار والأخ؟! فقال: ما بذلك بأس. ومن الناس من يرفق به فيطيع؛ قال الله عز وجل: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] ا.هـ وقال الثوري: (أؤمر بالمعروف في رفق، فإن قبل منك حمدت الله عز وجل وإلا أقبلت على نفسك) ا.هـ .
وقال الإمام أحمد: (والناس يحتاجون إلى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة، إلا رجلاً مبايناً معلناً بالفسق فيجب عليك نهيه وإعلانه لأنه يقال: ليس لفاسق حرمة، فهذا لا حرمة له) وقال أيضاً: كان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون يقولون: مهلاً رحمكم الله .
وقال أيضاً: ما أغضبت رجلاً فقبل منك كما سئل –رحمه الله- عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كيف ينبغي أن يأمر؟ قال: يأمر بالرفق والخضوع. ثم قال: إن أسمعوه ما يكره لا يغضب فيكون يريد ينتصر لنفسه .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر.. ولا يجوز أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بطيش وتخرق.. وقد أنكر الثوري –رحمه الله- على من جانب هذا الوصف فلم يكتف بالدخول على أهل المنكر من أبوابهم –مع إمكان ذلك- وإنما عمد إلى تسلق الأسوار!! نقل ذلك الخلال في رسالته ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) من طريق أبي عبد الله بن الربيع الصوفي قال: دخلت على سفيان بالبصرة فقلت: يا أبا عبد الله! إني أكون مع هؤلاء المحتسبة فندخل على هؤلاء الخبيثين ونتسلق الحيطان. قال: أليس لهم أبواب؟ قلت: بلى ولكن ندخل عليهم لكيلا يفروا. فأنكر ذلك إنكاراً شديداً وعاب فعالنا فقال رجل: من أدخل ذا؟ قلت: إنما دخلت إلى الطبيب لأخبره بدائي.
فانتفض سفيان وقال: إنما أهلكنا أنا نحن سقمى ونسمى أطباء! ثم قال: لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث: (رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر عالم بما ينهى) وإن من الرفق أيضاً ترك التشهير بالمنصوح إلا إن اقتضى الحال والمصلحة ذلك والله المستعان.
المطلب الثاني: البدء بالنفس
قدمنا لك فيما سبق أن العدالة ليست بشرط للقيام بهذا العمل.. وإلا حكمنا بإبطال مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد قيل:

إذا لم يعظ الناس من هو مذنب
فمن يعظ الناس بعد محمد

وليس معنى عدم اشتراط العدالة من أجل القيام بتلك المهمة أن لا يلام من فرط فيها فارتكب محارم الله!!
بل القبح للذنب في حقه أعظم وأشد من غيره. ولذا كانت عقوبته في الآخرة من نوع خاص في جهنم!.. إنه يدور في أمعائه كما يدور الحمار في الرحى.. كما جاء ذلك صريحاً في حديث أسامة بن زيد –رضي الله عنه- مرفوعاً: ((يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان: ما شأنك؟ أليس كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآيته)) .
ومن لطيف المناسبة هنا أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وهو غير ممتثل لما يأمر به ولا تارك لما ينهى عنه قد وقع تشبيهه في هذا الحديث بالحمار! كما أن الله عز وجل شبه حال المعرضين عن الأمر والنهي والموعظة والتذكير بالحمار أيضاً فقال: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 50-51] فما أسوأ الحالين وما أحرى المسلم بالابتعاد عنهما!!
قال السفاريني –رحمه الله-:

ومن نهى عما له قد ارتكب
فقد أتى مما به يقضي العجب

فلو بدا بنفسه فذادها
عن غيها لكان قد أفادها

وقال أيضاً: (إنما يصح التأديب بالسوط من صحيح البدن، ثابت القلب، قوي الذراعين، فيؤلم ضربه فيردع، فأما من هو سقيم البدن لا قوة له، فماذا ينفع تأديبه بالضرب؟ والنفوس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعلمه ولا ينتفع به) ا.هـ.
وإنما كان التشنيع على هذا الصنف من الناس.. لكونهم عالمين بوجوب ما تركوا، أو بتحريم ما اقترفوا.. ولا أدل على علمهم بذلك من أمرهم به أو نهيهم عنه!!
وقد سبق أن قدمنا لك بعض النصوص الدالة على ذم هؤلاء كقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].
وقوله: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] بعد أن وبخهم بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]؟
فمن أجل ذلك كله قال شعيب –عليه السلام- لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88].
فإذا امتثل الآمر ما يأمر به، وانتهى عما ينهى عنه، قبل الناس دعوته وانشرحت صدورهم بسماع كلامه.. أما إن اختل ذلك فإنه يكون داعياً لهم بلسانه، راداً ومنفراً لهم بحاله، وقد تنبه لهذا المعنى عمر بن عبد العزيز رحمه الله.. فحينما ولي الخلافة وأراد أن يرد المظالم إلى أصحابها.. بدأ بنفسه وأهل بيته أولاً.. فوقف على المنبر وقال: أما بعد: فإن هؤلاء أعطونا عطايا ما كان ينبغي لنا أن نأخذها وما كان لهم أن يعطوناها، وإني قد رأيت ذلك ليس علي فيه دون الله محاسب، وإني قد بدأت بنفسي وأهل بيتي، اقرأ يا مزاحم. فجعل يقرأ كتاباً كتاباً ثم يأخذه عمر وبيده الجلم فيقطعه حتى نودي بالظهر .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وإن من خبر الناس وعرف حالهم علم أنهم ينظرون لمن يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر نظرة فاحصة تختلف عن نظرهم لغيره من سائر الناس.. فيرقبون حاله ومقاله وجميع تصرفاته.. كما يحصون عليه الكبير والقطمير.. بل وتضخم أخطاؤه في كثير من الأوقات.
وإذا عثروا على خطأ له فالويل له ولمن كان على شاكلته!!
فتقصيره –عندهم- لا يقف عليه وحده بل يتعداه إلى كل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر! ثم يصير ذلك التقصير الذي شاهدوه عصاً في أيديهم يقومون بإشهارها متى ما يحلو لهم ذلك!!
فالحاصل أن المحتسب يلزمه أن يكون في موضع الأسوة والقدوة الحسنة لا أن يدعو الناس باللسان ويصرفهم بالعمل والسلوك!
وما أحسن ما قيل:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم

وقول الآخر:

وغير تقي يأمر الناس بالتقى
طبيب يداوي الناس وهو سقيم

وقال ثالث:

فإنك إذا ما تأت ما أنت آمر
به تُلف من إياه تأمر آتياً

وقال منصور الفقيه:

إن قوماً يأمرونا
بالذي لا يفعلونا

لمجانين وإن هم
لم يكونوا يصرعونا

وقال أبو العتاهية:

وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى
وريح الخطايا من ثيابك تسطع
المطلب الثالث: المساواة بين القرابة وغيرهم
كما يجب على المرء أن يقوم نفسه ويزكيها.. فإن عليه أيضاً أن يعنى عناية كبرى بقرابته ومن هم تحت ولايته.. وقد أرشد الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم لذلك فقال: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214].
وهذا التوجه إنما هو نابع من إدراك المحتسب لحقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنه عملية إنقاذ وتخليص للأفراد والمجتمعات من الهلاك والعذاب الأخروي.
لكن حينما يخطئ المحتسب فهم هذه الحقيقة فإنه يجور في احتسابه ويحيد..!! فيهمل قرابته، ويدع الاحتساب عليهم، لوجود دافع من الدوافع في النفس لذلك كالشفقة العمياء أو العاطفة الهوجاء!!
مع أنه لو تبصر لأبصر أن عين الشفقة إنما تكون في الاحتساب عليهم لتخليصهم من العقوبة المتوعدة.
والحق أن هذا السلوك المعوج ينبئ عن كون نية المحتسب مشوبة..!! إذ الصدق مع الله تعالى ومع الناس يمنع من سلوك هذا المسلك الرديء المردى.
قال الخلال: (باب ما ينبغي للرجل أن يفعل ويعدل في أمره ونهيه في القريب والبعيد) أخبرنا أبو عبد الله المروزي قال: (قلت لأبي عبد الله: فإن كان للرجل قرابة فيرى عندهم المنكر فيكره أن يغيره أو يقول لهم فيخرج إلى ما يغتم به من أهل بيته وهو لا يرى بداً، أو يرى المنكر في غيره فيكره أن يغير للذي في قرابته. قال: إن صحت نيتك لم تبال) .
ومن آفات هذا المسلك اعتراض الناس على المحتسب بحال قرابته وأهل بيته كما يعترضون عليه بحاله إن كان غير ممتثل كما تقدم.. وكم يصرف مثل هذا المحتسب من القلوب عن قبول الحق والعمل به!.
قال النووي – رحمه الله-: (ولا يتاركه أيضاً لصداقته ومودته ومداهنته.. فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقاً، ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته وينقذه من مضارها، وصديق الإنسان ومحبه هو من سعى في عمارة آخرته وإن أدى إلى نقص في دنياه، وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته، وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه، وإنما كان إبليس عدواً لنا لهذا، وكانت الأنبياء –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- أولياء للمؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها) ا.هـ.
هذا وقد يعرض الرجل عن كثير من الاحتساب على قرابته وأهل بيته غفلة عن ذلك واشتغالاً بغيرهم.. وهذا هو الذائع الغالب!
فتجد للمحتسب أو الداعي مع الناس مجاهدات وصبراً ومتابعة.. وبذلاً للمال والوقت والجهد في سبيل إرشادهم إلى الحق والخير، وأهله وقرابته أحوج ما يكونون إلى التوجيه والتعليم والنصح!!
وهذه غفلة يقع فيها الكثير مع إخلاصهم ونصحهم..
المطلب الرابع: البدء بالأهم وتقديمه على غيره
وأهمية التدرج في ذلك حسب ما تقتضيه المصلحة.
قال بعضهم:

إن اللبيب إذا بدا من جسمه
مرضان مختلفان داوى الأخطر

إن معرفة الأولويات ومنازل الأعمال وما يترتب عليها فعلاً أو تركاً أمر ضروري للمحتسب في أزمنة الفترات، وتفشي وظهور المنكرات، واضمحلال الديانة في قلوب الناس وواقعهم.. مثل هذا الزمان الذي نعيشه اليوم.
ولقد دل على ثبوت هذا المبدأ وشرعيته الكتاب والسنة، وعليه جرى عمل سلف الأمة.
وقد قص الله تعالى علينا قصص الأنبياء وأخبارهم مع أقوامهم فكان كل واحد منهم يخاطب قومه من حين بعثته إليهم بقوله: {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
ومن المعلوم أنهم معصومون في أمور البلاغ والتشريع.. فطرائقهم وهديهم ومنهجهم كل ذلك معصوم ومحفوظ من وقوع الخلل في حال تبيينه للناس وتبليغه لهم عن طريق هؤلاء الرسل –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.
ومن المعروف أنهم لم يكونوا يبدؤون دعوتهم لأقوامهم بالحديث عن تحريم السكر أو الزنا أو نحو ذلك من الأمور.. وإنما كانوا يقررون لهم التوحيد أولاً ويجعلونه منطلقاً لدعوتهم.. ثم ينتقلون معه إلى معالجة كبرى المشكلات التي يعايشها ذلك المجتمع الذي يبعثون فيه.. وبعد ذلك ينتقلون إلى ما دونها وهكذا.
فهذا هو سبيلهم من أولهم إلى خاتمهم –صلى الله عليه وسلم- الذي أنزل عليه قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي...} [يوسف: 108] وأنزل عليه قول تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
فقد كان هذا المنهج هو المنهج الذي سار عليه –صلوات الله وسلامه عليه- في دعوته.. روي البخاري بسنده عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: ((إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبداً. ولو نزل: لا تزنوا. لقالوا: لا ندع الزنا أبداً.
لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46] وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده.)) .
وأخرج ابن بطة بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]: إن الله بعث نبيه –صلى الله عليه وسلم- بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم فقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...} [المائدة: 3].
قال ابن عباس: وكان المشركون والمسلمون يحجون جميعاً فلما نزلت (براءة) نفي المشركون عن البيت وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، وكان ذلك في تمام النعمة، وكمال الدين فأنزل الله تعالى {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} [المائدة: 3] إلى قوله {الإِسْلاَمَ دِينًا} .
وبهذا التدرج كان يوصي صلى الله عليه وسلم رسله ويأمرهم إذا بعثهم للقيام بالدعوة.. كما أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس –رضي الله عنهما- أنه قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم)) الحديث.
هذا وقد تمثل هذا المنهج في دعوة الأئمة من بعده صلى الله عليه وسلم.. نقل ابن الجوزي وغيره أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه وهو في قائلته فأيقظه وقال: ما يؤمنك أن تؤتى في منامك، وقد رفعت إليك مظالم لم تقض حق الله فيها. قال: يا بني إن نفسي مطيتي، إن لم أرفق بها لم تبلغني؛ إني لو أتعبت نفسي وأعواني لم يك ذلك إلا قليلاً حتى أسقط ويسقطوا؛ وإني لأحتسب في نومتي من الأجر مثل الذي أحتسب في يقظتي. إن الله جل ثناؤه لو أراد أن ينزل القرآن جملة لأنزله، ولكنه أنزله الآية والآيتين، حتى استكن الإيمان في قلوبهم. ثم قال: يا بني أما مما أنا فيه أمر هو أهم إلى من أهل بيتك، هم أهل العدة والعدد، وقبلهم ما قبلهم، فلئن جمعت ذلك في يوم واحد خشيت انتشاره علي، ولكني انصف من الرجل والاثنين فيبلغ ذلك من وراءه فيكون أنجع له، فإن يرد الله تمام هذا الأمر أتمه .
فهذه حكمة بالغة لا يدركها حق إدراكها ويعمل بها كما يطلب إلا مجدد أو محتذ حذوه.
إن الفساد الذي ينخر في المجتمعات الإسلامية اليوم إنما هو حصيلة قرون متطاولة.. وقد عمل على تقريره وإذاعته وتعميق جذوره جبابرة ودهاقنة للفساد متتابعون! تباعدت أقطارهم واتحدت أهدافهم.. ومثل ذا لا يمكن أن يغير بيوم ولا سنة! وإنما يحتاج إلى مدة كافية تماماً يروض فيها الناس على التوحيد والإيمان والصدق بعد أن سفت السوافي على هذه الأمور العظام، وكادت أن تأفل من عالم الواقع..
إن حالاً كتلك لا يمكن أن تغير بجرة قلم كم يظن البعض.. فتجده يعمل جاهداً ومسخراً دعوته للوصول إلى ذلك القلم بأقرب طريق!
إن هذا المسلك مغاير لمنهج الرسل –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- في دعوتهم.
أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- أنه قال: (لقد عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد –صلى الله عليه وسلم- فنتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما تعلمون أنتم اليوم القرآن؛ ثم لقد رأيت اليوم رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه فينثره نثر الدقل) .
وأخرج ابن بطة بسنده أيضاً عن جندب –رضي الله عنه- قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غلماناً حزاورة فنتعلم الإيمان قبل أن نتعلم القرآن فازددنا إيماناً) .
فينبغي أن يبدأ بترسيخ الإيمان في النفوس أولاً.. وتعليم الناس توحيد الله عز وجل، وتصفية نفوسهم وواقعهم من الشرك ومظاهره.. ثم ينطلق الدعاة والمحتسبون إلى ما دونه من الأمور والتي تليه أهمية.. وهكذا.
وهذا لا يعني أن تقتصر الدعوة في أول أمرها على التوحيد فحسب، بل يكون هو المنطلق والأساس والقاعدة التي يبني عليها الأمر بالتخلي عن سائر الانحرافات الأخرى.
وهذا جلي فيما حكاه القرآن من دعوة الرسل، إذ كانوا يدعون إلى عبادة الله وحده مع كونهم ينكرون جرائم أخرى قد تفشت في أقوامهم كاللواط، ونقص المكيال والميزان، وقطع الطريق، وما إلى ذلك من الانحرافات المتنوعة.
وإنما آفة هذه الحكمة التعجل الذي غالباً ما يكون ناتجاً عن ضعف العلم والبصيرة، ولذا جاء في الحديث: ((التأني من الله والعجلة من الشيطان)) .
وكما في الحديث الآخر: ((التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة)) .
ثم إن هذا المنهج كما يطبق في تغيير واقع المجتمعات فهو كذلك يطبق في دعوة الأفراد على حد سواء.
ولشيخ الإسلام –رحمه الله- كلام نفيس جداً في هذا المقام حيث يقول: (.. فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما، لم يكن الآخر في هذه الحال واجباً، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجباً في الحقيقة، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة، وإن سمى ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر، وفعل المحرم للمصلحة الراجحة، أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم، وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء.
وهذا باب التعارض –باب واسع جداً لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة، وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة.
فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن إما لجهله وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر. فالعالم في البيان والبلاغ كذلك قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً إلى بيانها.
يبين حقيقة الحال هذه أن الله يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].
والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلاً. وهذه أوقات الفترات، فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئاً فشيئاً، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بالمستطاع.
كذلك المجدد لدينه، والمحيي لسنته، لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها؛ وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم، والمسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما عفى الرسول عما عفى عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع.
ومن هنا يتبين سقوط كثير من الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي، وإن كان واجباً في الأصل) ا.هـ.
فإذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين منكر كبير ومنكرات دونه أنكرنا أولاً المنكر الأكبر كأمور الاعتقاد، لأنها تقدم على ما دونها من الانحرافات.. لكن إن أمكن إنكار المنكر الأقل دون الأكبر لعذر صحيح يتعلق بالمحتسب، أو كانت المصلحة في ذلك عائدة على الحسبة نفسها أو المحتسب عليه.. فإنه ينكر الأدون في هذه الحالة؛ كالسلطان الذي يحكم القوانين ويلبس الذهب والحرير، أو يأكل الربا، أو يقامر، ولم يمكن للمحتسب أن ينكر عليه تحكيم القوانين خوفاً على نفسه أو خوفاً على دعوته فإنه إن أمكنه إنكار ما دون ذلك فعل؛ وكمن يسافر إلى بلد الكفار ويزني بالكافرات ويشرب الخمر هناك مع كونه قد حلق رأسه قزعاً.. فلم يمكن إنكار السفر وفعل الفاحشة عليه لمصلحة تتعلق بالمسلمين، كإظهاره الشراب بين أظهرهم، وزناه في ديارهم ونسائهم!! فينكر حينئذ الأدون إن أمكن، وهكذا.
وقد يقدم المحتسب إنكار المنكر الأقل لمصلحة تقتضي ذلك في بعض الأحيان، كمن رأيته يريد الزنا أو شرب الخمر وأنت تعلم أن الرجل لا يزكي ماله، أو يتصف بمنكر هو أعظم من الزنا والشرب للمسكر دون الشرك بالله.. ففي هذه الحال يقدم إنكار الزنا أو الشرب لإبعاده عنه قبل الوقوع فيه فالدفع أسهل من الرفع.
ثم إن الطاعة أو المعصية تتعاظم باعتبارات عدة:
الأول: باعتبار الفاعل. فإذا كان الذي يقدم على المعصية ممن يقتدى به فإن هذا أخطر من إقدام الأغمار عليها. ولهذا كانت زلة العالم زلة العالم.
الثاني: باعتبار الزمان. فليس الذي يشرب المسكر في نهار رمضان كالذي يشربه في غيره وهكذا.
الثالث: باعتبار المكان. إذ المعصية أو الطاعة في الحرم أعظم منها خارجه.
الرابع: باعتبار ما يترتب على العمل من الآثار . ولهذا كانت البدع أشد ضرراً وخطراً من المعاصي الأخرى الواردة من باب الشهوات. وكذلك المعصية المتعدية أعظم من القاصرة على الفاعل.
ومن المعلوم أن المنكرات أقسام: فمنها ما يكون ظلماً للناس، كالوقوع في أعراضهم، أو سفك دمائهم، أو نهب أموالهم.. ومنها ما يكون ظلماً للنفس، كالشرب للخمر أو المخدر وغيرهما من المعاصي التي لا يتعدى ضررها على غير فاعلها. والقسم الثالث وهو ما كان يجمع بين هذا وذاك كمن يغتصب النساء، ويزني بهن، أو يأكل الربا.. وهذا النوع الأخير هو شر تلك الأنواع وأخطرها، ويليه الأول، وأقلها الثاني.. وأنت إذا تأملت النوع الأول منها رأيت أن فيه ظلماً للنفس في حقيقة الأمر وباطنه؛ فإذا رأينا من يجمع بين بعض هذه الأنواع فينبغي أن نقدم الإنكار للأعظم.
هذا واعلم أن جنس فعل الواجبات أعظم وأعلى من جنس ترك المحرمات، فيكون الإنسان مستحقاً للذم والإثم حال كونه تاركاً واجباً من الواجبات أكثر من استحقاقه ذلك عندما يكون مرتكباً لشيء من المنهيات؛ ولهذا كانت عقوبة إبليس لما امتنع من الامتثال للأمر الطرد والإبعاد من رحمة الله.. بينما كانت عقوبة آدم –عليه السلام- لما كان ذنبه من قبل ارتكاب المحظورات الإخراج من الجنة وإهباطه إلى الأرض.
وبهذا تعلم أنه إذا اجتمع في شخص ترك واجب وفعل محرم قدم الإنكار على ترك الواجب أولاً.. هذا من حيث الجملة، وإن كان الحكم قد يختلف في بعض الصور والحالات، كما إذا كان ترك الواجب العين أقل جرماً وإثماً من ارتكاب المحرم المعين، كمن ترك الصلاة مع الجماعة وفي نفس الوقت هو مقدم على القتل أو ضرب أحد والديه.. فيقدم في هذه الحال إنكار ارتكاب المحرم لشناعته وعظمه.
ومما ينبغي معرفته أيضاً أن المنكرات الظاهرة تقدم في الإنكار على المنكرات المستترة، لأن العقوبة في الظاهر تعم.. ثم إنها تجرئ أصحاب المنكر وتغري غيرهم به.. بل تنقلهم إلى أعظم منه.. ثم إن هذا يكون سبباً لظهور المنكر المستتر!!
وهذا مشاهد في واقعنا.. فنحن نشاهد أن السفور يبدأ من ظهور العري في التلفاز والمجلات.. من ناحية.. ومن العبث بالحجاب، تارة برفع العباءة أو تقصيرها، أو ظهور ما يسمى بالنقاب الذي تخرج المرأة فيه عينيها ثم يتدرج الأمر حتى يصل إلى إظهار الوجه، ثم الساقين والذراعين وهكذا.. فحينما نسكت عن إنكار الانحراف الأول فإنه يزداد ويتعاظم وينتشر.. ومن أمثلة ذلك أن التدخين كان أمراً مستهجناً يعزر فاعله بالجلد أربعين سوطاً في بعض الجهات.. وقد يهجر.. ثم تدرج الأمر حتى سكت الكثير عنه.. فصار أمراً مألوفاً ثم وصل الأمر بالبعض إلى شرب الخمر.. ثم جاءت المخدرات فأنست الناس ذلك كله!!
المطلب الخامس: الصبر واحتمال الأذى
إن النصوص القرآنية والحديثية الواردة في موضوع الصبر لا يكاد يحصيها العاد كثرة.. وقد أخبرنا القرآن عن لقمان بأنه أوصى ابنه بقوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] فأتبع حثه له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصبر؛ وما ذلك إلا لأن القيام بهذه المهمة يتطلب الكثير من المجاهدة ولحوق الأذى بالمحتسب، وهذا لا يثبت معه إلا من كان متحلياً بالصبر.
فعلى المحتسب أن يصبر على ما أصابه، فإن الأذى هو الأصل في حقه! فليروض نفسه على تحمل ذلك في سبيل تبليغ الحق إلى قلوب الناس وإزالة المنكر من واقعهم.
فإذا لم يروض المحتسب نفسه على ذلك منذ البداية فإنه ينقطع في أول الطريق أو وسطه! (ولهذا نجد أن الله تعالى أمر رسله –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – به، بل أمر به خاتمهم – صلى الله عليه وسلم – في أول سورة أرسل فيها فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} – إلى قوله – {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1-7] فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالإنذار، واختتمها بالأمر بالصبر؛ ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فعلم أنه يجب بعده الصبر.) .
هذا ومن المقررات الأساسية، والمبادئ الأولية، أن أول ما يجب على المكلف العلم ثم العمل، ثم الدعوة إليه، ثم الصبر وتحمل الأذى في سبيل ذلك؛ ثم إن هذا القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يقوم بمهمة من مهام الأنبياء والرسل – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سعد بن أبي وقاص –رضي الله عنه قال: ((قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى العبد على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة)) .
فكم من الأذى لاقاه الأنبياء وأتباعهم فصبروا.. قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146] وقال أيضاً {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34].
وقال موجهاً لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127]
وكلما ازداد البلاء ازداد المؤمن يقيناً وثباتاً، بخلاف المنافق، لأن المؤمن قد هيأ نفسه للابتلاء.. منذ أول خطوة في الطريق.. ثم إنه موقن بحسن العاقبة مع الصبر.. ولذا لما اجتمع الأحزاب حول المدينة، ونجم نفاق المنافقين، وظهرت خيانة اليهود من الداخل بنقض العهد.. لما كان ذلك قال المؤمنين: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 22] قالوا هذه المقالة مع كون ظواهر الأمور في غير صالحهم، سواء من جهة كثرة العدو.. أو شدة العيش والبرد في ذلك الوقت الذي وقعت فيه تلك الواقعة. وإنما كانوا يعنون بذلك أن الله تبارك وتعالى قد وعدهم بالابتلاء وأخبرهم بوقوعه بقوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186] وبقوله أيضا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] وبقوله {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].
وغير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى.. فكانت النتيجة رسوخ إيمان المؤمنين وثبات نفوسهم.. ولذا عقب تلك الآية بقوله في وصف حالهم: {زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
وهذا بخلاف حال المنافقين الذين قالوا لما رأوا ذلك: {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12] وقال بعضهم {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هي بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب: 13-14].
وهذه سنة جارية لا تتبدل ولا تتغير على مر الزمان.. قال مالك –رحمه الله- (ضرب محمد بن المنكدر وأصحاب له في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر) وأنكر الإمام عماد الدين الجماعيلي المقدسي –رحمه الله- على فساق وكسر ما معهم، فضربوه حتى غشي عليه .
وقد كان أهل العلم يوصون به غيرهم.. فكان من وصية عمير بن حبيب –رحمه الله- لبنيه: (إذا أراد أحدكم أن يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر فليوطن نفسه على الأذى، وليوقن بالثواب من الله، فإنه من يثق بالثواب من الله لا يجد مس الأذى) .
وسئل الإمام أحمد –رحمه الله-: (مثل زماننا ترجو أن لا يلزم الرجل القيام بالأمر والنهي؟ قال: إذا خاف أن ينال منه. قلت –السائل- فالصلاة تراهم لا يحسنون؟. قال: مثل هذا تأمرهم. قلت –السائل- يشتم. قال: يتحمل؛ من يريد أن يأمر وينهى لا يريد أن ينتصر بعد ذلك) .
قال الشيخ محمد بن إبراهيم –رحمه الله-: (ويكون مع أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصيرة وثبات على الحق، ويعلم أنه سيصيبه شيء، وإذا لم يعلم ذلك زاد البلاء فيما بعد، فإن المنكرات ما تفشت إلا بسبب أن أول شيء يوجد يتساهل به، فيكون الأول قد نسى وصار كعادة وصعب إزالته وتأتي الأمور الأخرى وهكذا..) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
المطلب السابع: البدء بالأرفق
اعلم أن هذا المطلب مغاير للرفق الذي مضى، وهو مغاير أيضاً لما تحدثنا عنه من البدء بالأهم وتقديمه على المهم في عملية الاحتساب.. وكذلك فإنه لا يراد به ما سنتحدث عنه إن شاء الله في درجات الإنكار ومراتبه.
وإنما نعني بذلك أنه إذا كان أمام المحتسب لإزالة المنكر أو الأمر بالمعروف طريقان أحدهما يحتاج إلى جهود وبلاء وعناء.. والآخر يحتاج إلى شيء أقل من ذلك فعليه أن يسلك الطريق الآخر إن كان يتحقق المطلوب به ولم يكن مشتملاً على مخالفة للشرع؛ ويمكن توضيح هذا الأمر بذكر بعض الأمثلة التي تبينه فنقول: قال الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا التي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] فجعل الله عز وجل الإصلاح مقدماً في ذلك، ثم شرع استعمال القوة إن لم يثمر الإصلاح المطلوب؛ وبهذا يكون قد ترقى من الأرفق إلى الأغلظ في إزالة المنكر.
ومثل ما سبق ما جاء في قوله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] فأتي بالأمر على مراحل، وأحوال الناس تختلف في هذا.. فمنهم من يكفيه النظرة الدالة على الإنكار عليه.. ومنهم من يكفيه الإشاحة بالوجه.. ومنهم من تكفيه الموعظة.. ومنهم من يحتاج إلى الزجر والتعنيف.. ومنهم من لا يمتنع عن المنكر إلا بالحبس أو الضرب.. فمن كان يكفيه الإشاحة فلا حاجة لتعنيفه ولا لضربه وهكذا.
(ثم عليك أن تعلم أن الدعوة إلى الله تكون بطريقين: طريق لين، وطريق قسوة؛ أما طريق اللين فهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإيضاح الأدلة في أحسن أسلوب وألطفه، فإن نجحت هذه الطريقة فبها ونعمت، وهو المطلوب، وإن لم تنجح تعين طريق القسوة بالسيف حتى يعبد الله وحده وتقام حدوده، وتمتثل أوامره وتجتنب نواهيه، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25].
ففيه الإشارة إلى إعمال السيف بعد إقامة الحجة، فإن لم تنفع الكتب تعينت الكتائب، والله تعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) وهذا إنما يكون لأهله وهم الولاة كما هو معلوم وليس ذلك لآحاد الناس لما سنبين لك إن شاء الله تعالى.
قال ابن القيم رحمه الله عند قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هي أَحْسَنُ} [النحل: 125]: (جعل الله سبحانه وتعالى مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق، فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة، والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن) ا.هـ .
وهذا يتطلب من المحتسبين معرفة أحوال المحتسب عليهم ولا شك، وسيأتي بيان شيء من ذلك في الكلام على المحتسب عليه.
هذا واعلم أن الدفع بالأرفق والبدء به ليس على إطلاقه، قال الشيخ محمد بن إبراهيم –رحمه الله-: إذا صار الصائل على الحريم بفعل الفاحشة، ووجده على الفراش على المرأة، فإنه لو تكلم عليه ربما يهرب.. فوجده على هذه الحال هل يتكلم عليه حتى يهرب أو يقتله؟
المفهوم من السنة أن له قتله، ولا يصيح به ليهرب، بل يضربه في تلك الحالة، مع أن من فيه غيرة لا يمكن أن يصبر عن قتله.. وقصة سعد فيمن وجد رجلاً مع امرأته.. وفيه سرور النبي صلى الله عليه وسلم بسعد وغيرته وبين أنه أغير من سعد وأن الله أغير من النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن قد علم وتقرر ما في القصة التي وقعت للرجل لما وجد رجلاً بين فخذي امرأته فضربه فقتله فقال: (إنما ضربت بالسيف بين فخذيها ففتشوا فوجدوا فكان عذراً له؛ فيظهر من حديث هذا وحديث سعد أنها متى قامت البينة على هذه الحالة فليس بمضمون) ا.هـ .
المطلب الثامن: مراعاة المصالح وتحقيقها ودرء المفاسد وتعطيلها(13837)
تمهيد
وهذا أصل عظيم جليل طلبه الشارع واعتبره قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] وقال: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقال: {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) .
وقال صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) .
ومن مقررات الشريعة المتفق عليها: لزوم الدية في القتل على العامد والمخطئ، والعالم والجاهل، والصغير والكبير؛ وكذا غرام المتلفات على جميع هؤلاء تحقيقاً لمصالح العباد.
وبعد تقدير المصالح وتمييزها والقدرة على الموازنة بينها وبين المفاسد من أدق المسائل المتعلقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكما كان المحتسب أقدر على معرفة ذلك وتمييزه كلما كان احتسابه أقوى وأثبت.
ويكفي في بيان أهمية هذا الجانب أن مدار بعثة الرسل وإنزال الكتب والشرائع قائم عليه، فلم تبعث الرسل وتنزل الشرائع إلا لجلب المصالح وتحصيلها من عبادة الله وحده لا شريك له وظهور شرعه ودينه.. ودفع المفاسد وتعطيلها.
وهذه هي حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هذا وأعلم أن أصل المصلحة: المنفعة، وهي في اصطلاح الشرع (جلب المنفعة ودفع المفسدة في نظر الشارع) فهي إما أن تكون نفعاً يجلب أو ضرراً يدفع.
والمراد بالمنافع: اللذات والأفراح وأسبابها، وضدها المفاسد التي هي الآلام والغموم وأسبابها. وقد يعبر عنهما بالخير والشر والنفع والضر.
وطريق تحديد المصلحة إنما هو الشرع، لا القانون أو العرف أو العقل أو الذوق.. فكل ما أمر به الشرع فهو مصلحة، وكل ما نهى عنه فهو مفسدة.
ثم اعلم أن المصالح الشرعية دائمة أبدية تشمل الدنيا والآخرة، كما أنها شاملة، فلا تختص بالبعض دون غيرهم، أو فئة دون الأخرى، بل تخدم الأمة عامة وتعود على الناس بحفظ ضروراتهم وحاجياتهم وما كان لهم به نفع.
الفرع الأول: أقسام المصلحة من حيث اعتبار الشارع وعدمه
تنقسم المصلحة من هذه الحيثية إلى ثلاثة أقسام وهي:
1- ما نص الشارع على اعتبارها فهي الشرعية، كمصلحة حفظ الدين والتي تقوم بنشر العلم الشرعي النافع والدعوة إلى الدين علماً وعملاً بالقلم واللسان والسيف والسنان؛ وكذلك تحريم كل ما يضعفه أو يضاده من العلوم الرديئة والأعمال المنحرفة.. والمظاهر المخالفة.. ولذا جاء تحريم التصوير ولعن المصورين، كما حرم رفع القبور وتجصيصها والبناء عليها والكتابة فكل مأمورات الشرع داخلة في هذا وكذا نواهيه.
2- ما قام الشارع بإلغائه وعدم اعتباره، كمصلحة المرأة في مساواتها بالرجل في الميراث.. ويدخل في هذا القسم كل ما علم أن الشارع ألغى اعتباره، وإن رأى الإنسان بعقله القاصر أنه مصلحة؛ فهو ليس كذلك لمصادمته الشرع أو إخلاله بمقصد من مقاصده، أو لكونه معارضاً لمصلحة أعظم.
3- ما سكت عنه الشارع فلم يرد طلبه ولا إلغاؤه.. وهذا النوع هو ما يسمى بالمصالح المرسلة.. ولها شروط وضوابط وتفاصيل ليس هذا موضعها.
ثم إن المصلحة الشرعية الدنيوية (وهي الواقعة في الحياة الدنيا) من عبادات ومعاملات.. لابد وأن يشوبها شيء من المفسدة.. للحوق المشقة بها سواء كانت على وجه التقدم عليها أو المقارنة أو التأخر عنها.
فالمصلحة في هذه الدار راجحة غالبة لا خالصة، بخلاف الأخروية –وهي نعيم أهل الجنة- فإنها خالصة لا كدر فيها.
وقد تعارض المصلحة الشرعية بمصلحة مرجوحة فتكون غالبة، وقد لا يعارضها غيرها فتكون راجحة كما سيأتي.
ومقصود الشارع إنما هو المصلحة الراجحة – الواقعة في الدنيا – وكذلك الخالصة وهي الواقعة في الآخرة كما تقدم.
ثم إن المصالح الشرعية تتفاوت قوة وضعفاً بحسب متعلقها... فهي لا تخلو من أن تكون ضرورية أو حاجية أو تحسينية..
فالضرورية هي التي لابد من توفرها لقيام حياة الناس على الوجه المستقيم دون اضطراب كالمحافظة على الدين –وهو أعلاها- بتثبيت دعائمه ورفع ما يضاده.. وكالمحافظة على العقل وسلامته ومقاومة ما يفسده من مسكر ومخدر حسي أو معنوي؛ وكالمحافظة على الأعراض والأنساب ودفع كل ما يعترضها من فساد بأي صورة كان، سواء عن طريق مقارفة الفواحش، أو ما يجر إليها كالسفور والتبرج واللحن بالقول والخضوع فيه.. وكنشر الصور والمجلات الرديئة أو الأفلام والأغاني الماجنة؛ وكذا حفظ النفوس والمحافظة على سلامتها، ولذا حرم كل ما يضر البدن كالدخان والميتة وأنواع السموم ونحوها من الأمور الضارة.
وكذا حفظ المال وبقائه بأن شرع أنواع العقود المباحة، وبين طرق أخذ المال وإنفاقه.. وحرم الربا وغيره من المحرمات المتعلقة بالمعاملات المالية.. كما تقدم.
والمصالح الحاجية هي التي يفتقر إليها الناس لرفع الحرج والضيق عنهم؛ أما التحسينية فكالأخذ بمحاسن الأمور والجري على مكارم الأخلاق، ومن فروع ذلك خصال الفطرة كإعفاء اللحية وقص الشارب وكتحريم المستقذرات.
فالأكل منه ما لابد منه في قيام حياة الإنسان فهو ضروري، ومنه ما لو ترك لوقع الإنسان في ضرر وحرج لكنه لا يلحق به العطب فهو حاجي، وما زاد فهو تحسيني.
وعمل المحتسب يتعلق بجميع مراتب المصلحة وصورها الشرعية.
هذا وقد تكون المصالح عامة لأغلب الناس أو جميعهم، وقد تكون خاصة وقاصرة على بعض الأفراد أو الجهات.
وهي باعتبار التغير والثبات على قسمين:
الأولى: ثابتة، كالواجبات الشرعية وتحريم المحرمات.
الثانية: متغيرة حسب الأحوال زماناً ومكاناً، فتكون خاضعة للاجتهاد، كمقادير التعزيرات وكاتخاذ الدواوين.. ومن ذلك أيضاً اختلاف بعض أساليب الدعوة والتي لا يشوبها مخالفة للشرع كاتخاذ الكتب والمجلات والأشرطة والرحلات وغير ذلك من الأساليب المباحة بشرط عدم المخالفة.
أما باعتبار الوقوع فهي قسمان:
الأولى: قطعية الوقوع أو ما يقارب ذلك.
الثانية: ظنية الوقوع وهي ما يكون وقوعها جائزاً أو كثيراً لكن لا يصل إلى درجة اليقين أو ما يقاربه.
الفرع الثاني: ذكر ضوابط المصلحة الشرعية
حتى تكون المصلحة معتبرة شرعاً لابد من توفر شرطين:
الأول: ورود النص أو القياس بطلبها.
الثاني: أن لا تكون معارضة بمصلحة أرجح منها أو مساوية، وطريق الترجيح بين المصالح لمعرفة مراتبها يكون كالآتي:
1- تقدم الضرورية على الحاجية، كما تقدم الحاجية على التحسينية. ومن هنا يعلم أن قاعدة (درء المفاسد أولى من جلب المصالح) ليست على إطلاقها، بل هي مقيدة بأن تكون المصلحة والمفسدة في رتبة واحدة وحد مستو، أما إن لم يوجد التساوي فيرجح الأعلى.
2- تقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة إن كانتا في رتبة واحدة. ومن هنا يعلم أن قاعدة المصلحة العامة على الخاصة ليست على إطلاقها، بل هي مقيدة بأن تكون المصلحتان في رتبة واحدة ومستوى متماثل.
3- إن كانتا ضروريتين وعامتين قدمت المصلحة المتعلقة بالدين على المتعلقة بالنفس ثم العقل ثم النسل ثم المال؛ فالمصلحة المتعلقة بالدين تقدم على غيرها من الضروريات الأخرى. قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] وكذلك ما كان ذو مرتبة أعلى فإنه يقدم على ما دونه.
توضيح ما سبق بالمثال:
من مقررات أهل السنة وجوب الجهاد مع كل أمير برا كان أو فاجرا.
فالجهاد به حفظ الدين وهو ضروري لارتفاع كلمة التوحيد.. أما كونه عادلاً فهو حاجي، فيقدم الجهاد مع البر والفاجر لكونه ضرورياً على ما كان مع العادل فقط لكون هذا الوصف في الإمام حاجي.
ثم إن الجهاد به حفظ للدين بإزهاق النفس فقدمت مصلحة حفظ الأديان على حفظ النفوس والأبدان.
ويمكن التمثيل على تقديم المصلحة العامة على الخاصة بالمنع من تلقي الركبان، فمصلحة أهل السوق عامة، وقدمت على مصلحة المتلقي الخاصة؛ وكالنهي عن الاغتسال بالماء الراكد مع كون المغتسل منتفعاً من ذلك لكنه يضر بالمصلحة العامة فيمنع منه لذلك.
الفرع الثالث: بيان نظر الشارع للنتائج واعتباره لها
تقدم عند الكلام على الحكم والفوائد من مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذكر إقامة الدين وظهور الشريعة.. وزوال الباطل أو التقليل منه.. وهذا ولا شك مطلب شرعي أصيل.. لابد للمحتسب من أن يضعه نصب عينيه وهو يؤدي هذه المهمة.
أما إن كان الناتج عن الأمر والنهي في بعض الحالات زيادة في المنكر الذي أردنا إزالته، أو زوال للمعروف الذي أردنا تكثيره.. فإن الآمر أو الناهي في هذه الحال يكون سبباً في ازدياد الباطل وتقليل المعروف علم أو لم يعلم .
ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما شرع لتحقيق ما يحبه الله ورسوله، فإذا ترتب على ذلك ما هو أنكر منه وأبغض إلى الشارع فإنه لا يسوغ إنكاره؛ وإن ترك الإنكار لا يعني إقرار المنكر.
ومثاله: الإنكار على الولاة المسلمين بالخروج عليهم.. فإن ما يترتب عليه من المفاسد أكبر مما يجلب من المصالح.. وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين قال في وصفهم: ((تعرفون وتنكرون)) فقال: ((لا ما صلوا، لا ما صلوا)) .
ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات –كالأصنام- ولا يستطيع تغييرها.. ولما فتح مكة عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك –مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام. ولهذا لم يأذن بالإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من المفاسد.
والحاصل أن ما يترتب على إنكار المنكر لا يخلو من أربع حالات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده من المعروف، كما إذا نصحت رجلاً يبيع الأغاني وينشرها، فقبل النصح، فاستبدل ذلك بالأشرطة الإسلامية.
الثانية: أن يقل المنكر وإن لم يزل بجملته.. كما إذا نبهت بعض أصحاب المناهج المشتملة على بعض المخالفات أو البدع.. على مخالفته أو بدعته، فقبل منك، فترك بعض ما هو فيه من المنكر.. وكما إذا نصحت من يسب الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو الدين، فانتهى إلى سب آحاد المؤمنين.
الثالثة: أن يزول ويخلفه ما هو مثله.. كما إذا نصحت رجلاً عن سماع الأغاني الغربية، فانتقل منها إلى الأغاني العربية!!
وكما إذا بينت لنصراني فساد عقيدة التثليث، فعرف فسادها، فانتقل إلى اليهودية مثلاً..!
وكما إذا حاورت بعض المنتسبين إلى الدعوة إلى الإسلام، وهو ذو منهج تشوبه بعض البدع أو المخالفات، فانتقل إلى منهج في الدعوة يماثله في حجم الانحراف وقدره.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.. كما يقع في بعض الأحيان في صفوف النشء المقبل على الإسلام –أكثر من غيرهم- إذا واجه النقد المتبادل بين أوساط العاملين للإسلام.. فيتخلى عن الجميع وينحرف تماماً.
وكما إذا نصحت بعض أصحاب المهن بأن يتزين في لباسه إذا أراد المجيء إلى المسجد فيدع الصلاة فيه.
فالأولان مشروعان، والثالث موضع اجتهاد ونظر، والرابع محرم .
قال ابن القيم –رحمه الله-: فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الشارع كسباق الخيل.. وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون فإذا نقلته عنها إلى كتب أهل البدع والضلال والسحر فدعه.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة.. وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم.
ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قطع الأيدي في الغزو.. مع كون القطع حد من حدود الله تعالى.. فنهى عنه خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين.
وقد نص أحمد وإسحاق والأوزاعي وغيرهم على أن الحدود لا تقام في أرض العدو . ا.هـ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (.. فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الله به وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم، إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده وليس عليه هداهم) ا.هـ.
الفرع الرابع: العمل عند تعارض المصالح والمفاسد
يجب أن يكون الاحتساب بفقه ونظر فيما يصلح من هذا العمل وما لا يصلح فإذا تعارضت المصالح والمفاسد فيما يأمر به أو ينهى عنه نظر: فإن كانت المصلحة راجحة والمفسدة مرجوحة، فإنه لا يعتبر المفسدة حينئذ، وعليه الاحتساب في هذه الحال.
وهذا يكون مع مراعاة ما سبق من شرطية كون المتعارضين في مرتبة واحدة ونوعية واحدة كما تقدم بيانه، وإلا فإنه يرجح ما كان متعلقاً بالضروري على غيره، كما يرجح الحاجي على التحسيني.
وهذا كمن يريد شرب الخمر ليزيل به عطشاً يشق عليه تحمله لكنه لا يؤدي به إلى الهلاك، فإنه يحرم عليه، لتعلق المفسدة بالضروري وهو حفظ العقل، وتعلق المصلحة بالحاجي وهو إزالة ذلك العطش.. بخلاف ما إذا كان العطش يؤدي به إلى الهلاك.. فإنه يشرب في هذه الحالة لتعلق ذلك بالضروري وهو حفظ النفس، ولتعلق شرب الخمر بالعقل وهو ضروري لكنه دونه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- ما ملخصه: (الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذاك كانت مفسدته أكثر، فإذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعاً، أو يتركوهما جميعاً، لم يجز أن يؤمروا بمعروف، ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر فإن كان المعروف أكثر أمر به وإن استلزم ما دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، وإن كان المنكر أغلب نهى عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف) اهـ .
أما في حال كون المفسدة أرجح من المصلحة: كتعطيل الدعوة ونحو ذلك فحينئذ تفوت المصلحة وتدفع المفسدة.. بالشرط المتقدم.
ومن صور هذه القاعدة: ترك النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي وعدم قتله لئلا تأخذ الحمية قومه.. ولئلا يقول الناس: محمد يقتل أصحابه . ومن الأمثلة على ذلك إعراض المسلمات عن الدخول في مجالات الطب في جو المستشفيات المختلطة.. مع وجود مصلحة في ذلك إلا أن المفسدة فيه أكبر.. وكثيراً ما نسمع إيراد هذا الاعتراض على من رأى ما سبق (أترضى أن يطبب محارمك الرجال)؟.
يورد هذا الاعتراض وكأنه هو الخيار الوحيد!! فلماذا لا يقال بالعمل على إيجاد مستشفيات إسلامية!! ولماذا لا يطالب الناس بذلك!!؟
ولو فرض عدم الإمكان لكان هناك أمر ثالث. وهو أن يطبب نساءنا هؤلاء اللاتي ضحين بحشمتهن وقرارهن في البيوت!! لا أن نزج بفتياتنا حيث يذهب ماء وجوههن لكثرة المخالطة مع الرجال والتحدث معهم..!
ومن أمثلة هذا النوع القول بمنع ابتعاث الصغار وسائر من لا ينطبق عليه الشروط المعروفة للسفر إلى بلاد الكفار.. من اعتزاز بالدين ونحوه.. على ما في ذلك من المصلحة وهي تحصيل بعض العلم.
ومن أمثلة ذلك منع التلقي من أصحاب البدع –المخالفين لعقيدة أهل السنة والجماعة- في حال وجود غيرهم ممن يؤخذ عنه هذا العلم ولا يقع فيما وقعوا فيه.
ومن الأمثلة أيضاً على ذلك منع دخول البرلمانات ونحوها في البلاد التي تحكم القوانين.. مع أنه قد يوجد شيء من مصلحة في ذلك ولكن المفسدة أعظم من وجوه كثيرة لا مجال لذكرها هنا.
وقد حرمت الخمر لرجحان مفاسدها على منافعها..
أما إذا تساوت مقادير المصالح والمفاسد: في حال التعارض فإنه ينظر في مراتبهما من ضروري وحاجي –كما تقدم- فإن اتحدت عمل بقاعدة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وإلا فيقدم الأقوى منهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما، فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المنكر والمعروف متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة.
وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقاً، وينهى عن المنكر مطلقاً، وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة: يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها ويذم مذمومها، بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات معروف أكبر منه أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول ما هو أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه.
وإذا اشتبه الأمر استثبت المؤمن حتى يتبين له الحق، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية..) ا.هـ .
الفرع الخامس: العمل عند تزاحم المصالح
إذا تزاحمت المصالح بحيث لا يمكن القيام إلا ببعضها وتفويت ما سواها.. ففي هذه الحالة ينظر فيما كانت مصلحته أرجح فيقدم.. سواء كان التفاضل والرجحان في المرتبة، كتقديم الضروري على الحاجي والحاجي على التحسيني.. وكتقديم ما يتعلق بحفظ الدين من الضروري على غيره، وتقديم ما يتعلق بالنفس من الضروري على ما تعلق بحفظ ما دونه؛ أو كان التفاضل واقعاً في صورة الحكم كالواجب مع المستحب.
وهذه المسألة دقيقة جداً وكبيرة الأهمية، ذلك لسعة هذه الشريعة وشمولها، حتى أن شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- شبهها بالشرائع المتنوعة.. فالواجبات أكبر من الأوقات وأوسع.. فينبغي تقديم ما هو أهم وآكد في مثل هذه الحال وأبلغ في التأثير والنفع في مجالات الدعوة المختلفة.
ومن صور هذه المسألة.. ازدحام بعض مجالات الدعوة عند بعض المشتغلين بها، كمن لم يتمكن إلا من القيام بشيء محدود من ذلك.. فأيهما يقدم.. العناية بتربية النشء على الإسلام أو خوض المجالات العامة؟ ويجاب عن هذا بأن الجمع بين الأمرين هو الأصل وهو المطلوب، لكن من لم يتمكن إلا من واحد منهما فإنه ينظر في حاله وحال زمانه من حيث حال الدعوة وسيرها في هذين السبيلين وحاجتها إلى الأعوان في كل منهما.. فيرجح على هذا الأساس.
ومن صور هذه المسألة تزاحم الأوقات بين الاشتغال بطلب العلم أو بنوافل العبادات وبين القيام بالدعوة.. فالمطلوب التوفيق بين هذه الأمور ومصلحة الدعوة من أهم المصالح فلا ينبغي إهمالها بل يوليها بعض اهتمامه ووقته حسب قدرته.
المبحث الثالث: الآداب المستحب توافرها في المحتسب
المطلب الأول: العمل على إيجاد البديل عن المنكر
إن الباطل يشغل حيزاً كبيراً في نفوس أصحابه.. لاسيما إذا صاحب ذلك إلف المنكر واعتياده.. فإنه من الصعوبة بمكان على صاحبه أن يفارقه ويتخلص منه.. بل إنه يشعر في بعض الأحيان أنه قد أصبح يمثل جزءاً من كيانه لا يتصور الاستغناء عنه بحال من الأحوال.. وهذا مشاهد وملموس في واقع الكثير من الناس.
إذا عرفت هذا تبين لك جلياً مدى حاجة الناس إلى إيجاد بدائل تحل محل تلك المنكرات.
وأنت إذا تأملت سير التشريع الرباني رأيت أنه لم يهمل هذا الجانب بل اهتم به. فحينما حرم الله عز وجل أعياد الجاهلية.. أبدل المسلمين عنها بعيدين عظيمين كريمين. كما أباح لهم أضرباً من اللهو المباح فيهما.
ومن هذا الباب في القرآن قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا...} [البقرة: 104] ومما يدخل تحته أيضاً قول الله تبارك وتعالى مخبراً عن قول لوط –عليه الصلاة والسلام- لقومه: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 165-166].
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ومن السنة ما أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة –رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً)) .
وقد أدرك أهل العلم أهمية هذا الجانب فظهر في بعض مقالاتهم وفتاواهم.. ومن ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه أن رجلاً سأل ابن عباس فقال: يا ابن عباس، إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول: (من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبداً، فربا الرجل ربوة شديدة واصفر وجهه. فقال: ويحك إن أبيت إلا أن تصنع، فعليك بهذا الشجر، كل شيء ليس فيه روح) .
وقال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز –رحمهما الله- لأبيه: (يا أبت ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك.
قال: يا بني! إني إنما أروض الناس رياضة الصعب، إني أريد أن أحيي الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أخرج معه طمعاً من طمع الدنيا، فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه) .
وقال –رحمه الله- أيضاً: (ما طاوعني الناس على ما أردت من الحق حتى بسطت لهم من الدنيا شيئاً) .
وقال ابن كثير –رحمه الله- في حوادث سنة اثنتين وثلاثين وستمائة: (فيها خرب الملك الأشرف بن العادل خان الزنجاري الذي كان بالعقبية فيه خواطئ وخمور ومنكرات متعددة، فهدمه وأمر بعمارة جامع مكانه سمي جامع التوبة) ا.هـ.
ونقل الحافظ في الفتح عن المبرد أن موضع ذي الخلصة (وهو صنم دوس في الجاهلية) صار مسجداً جامعاً لبلدة يقال لها العبلات من أرض خثعم ا.هـ.
وفي إنباء العمر (في حوادث سنة ثمانين وسبعمائة) قال: الحافظ –رحمه الله-: (وفيها توجه شخص من أهل الصلاح يقال له: عبد الله الزيلعي إلى الجيزة، فبات بقرب أبو النمرس، فسمع حس الناقوس، فسأل عنه، فقيل له: إن بها كنيسة يعمل فيها ذلك كل ليلة؛ حتى ليلة الجمعة، وفي يومها والخطيب يخطب على المنبر فسعى عند جمال الدين المحتسب في هدمها فقام في ذلك قياماً تاماً إلى أن هدمها وصيرها مسجداً) ا.هـ.
ومما يحسن ذكره من الوقائع في هذا الجانب أن داراً تقع على النيل في مصر يجري فيها ألوان المنكرات حتى عرفت بدار الفاسقين، فاشتراها الأمير عز الدين ايدمر الخطيري وهدمها وبني مكانها جامعاً في سنة 737هـ وسماه جامع التوبة .
وقد نقلت لك فيما سبق شيئاً من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله المتعلق بهذه المسألة فلأهميته أورد بعضه هنا فيقول: (.. إذا كان في البدعة من الخير فعوض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان، إذ النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيراً إلا إلى مثله أو إلى خير منه..
وكثير من المنكرين لبدع العبادات والعادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك، أو الأمر به.. بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فلا ينهى عن منكر إلا ويؤمر بمعروف يغنى عنه كما يؤمر بعبادة الله سبحانه وتعالى، وينهى عن عبادة ما سواه، إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله والنفوس خلقت لتعمل لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره، فإن لم يشتغل بعمل صالح وإلا لم يترك العمل السيء أو الناقص..) ا.هـ.
المطلب الثاني: تقليل العلائق مع الناس إن كانت المصلحة في ذلك
وإنما طلب ذلك لئلا يكثر خوفه من انقطاعها.. ولكي يقطع طمعه من الخلائق البتة فلا يقع في المداهنة والمصانعة.. ولكن هذا الأمر ليس على إطلاقه.. فإن الدخول مع الناس ومخالطتهم والتعرف على أحوالهم سبب قوي جداً في إصلاحهم والاحتساب عليهم.. وإنما يطلب ذلك من بعض القائمين بالاحتساب –وقد نصبوا لذلك- إن كانت الروابط والعلائق مع الناس تؤدي بهم إلى السكوت عن هؤلاء المعارف مداهنة وما شاكلها.. كخوفهم من مقاطعتهم لهم.
نقل عن بعض الشيوخ أنه كان له سنور، وكان يأخذ له كل يوم من قصاب شيئاً لغذائه، فرأى على القصاب منكراً، فدخل الدار وأخرج السنور ثم جاء واحتسب على القصاب فقال القصاب: لا أعطيك بعد اليوم للسنور شيئاً. فقال الشيخ: ما احتسبت عليك إلا بعد إخراج السنور وقطع الطمع منك .
المطلب الثالث: الإسرار بالنصح
إن من طبيعة الإنسان كراهيته أن يعاب وأن يخطئ أمام الآخرين، فإذا احتسبت عليه أمامهم فقد يكون ذلك سبباً لتمسكه بما هو عليه من الخطأ والمخالفة.
ويتأكد هذا الأدب خاصة إذا كان المحتسب عليه أكبر سناً من المحتسب، أو أعلى مكانة في العلم أو الجاه ونحو ذلك من الأمور.. كحال الطالب مع شيخه والابن مع أبيه.
وقد أحسن الإمام الشافعي رحمه الله حينما قال:
المطلب الرابع: قصد النصح لجميع الأمة
ويستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر قصد نصح جميع الأمة
ومما يستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، قصده نصح جميع الخلق، بأن يريد لغيره من الخير ما يريد لنفسه.
قال الله تعالى حكاية عن عبده ورسوله نوح: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 62]، وعن نبيه هود – عليهما السلام -: {... وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 68] أي عرفت فيما بينكم بالنصح، فما حقي أن أتهم وأنا لكم ناصح فيما أدعوكم .
وفي الصحيحين ، ومسند الإمام أحمد ، وسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي من حديث زياد بن علاقة. ((قال: سمعت جرير بن عبد الله رضي الله عنه يقول يوم مات المغيرة بن شعبة. قام فحمد الله وأثنى عليه. وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار والسكينة حتى يأتيكم أمير، فإنما يأتيكم الآن. ثم قال: استعفوا لأميركم فإنه كان يحب العفو. ثم قال: أما بعد فإني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أبايعك على الإسلام فشرط علي: والنصح لكل مسلم, فبايعته على هذا، ورب هذا المسجد إني لكم لناصح، ثم استغفر ونزل)) . هذه رواية البخاري.
وأخرج مسلم المسند منه.
وفي رواية لهما. ((قال جرير: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم)) .
وفي أخرى لهما: قال: ((بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، فلقنني: فيما استطعت والنصح لكل مسلم)) .
وفي صحيح مسلم، ومسند أحمد، وسنن أبي داود، والنسائي من حديث أبي رقية تميم بن أوس الداري –رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدين النصيحة)) قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) . هذه رواية مسلم وأحمد.
وفي رواية أبي داود: إن الدين النصيحة: قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله –عز وجل- ولكتابه, ولرسوله, ولأئمة المسلمين وعامتهم)) . وعند النسائي بلفظ ((إنما الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله, ولكتابه, ولرسوله, ولأئمة المسلمين وعامتهم)) .
المطلب السادس: ستر العورات والعيوب
ومما يستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر ستر العورات والعيوب
ومما يستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر ستر عورات المسلمين لأن سرت العيوب والتجاهل والتغافل عنها سمة أهل الدين. ويكفي تنبيهاً على كمال الرتبة في ستر القبيح وإظهار الجميل قول الله تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ...} [البقرة: 263].
وفي الصحيحين، وجامع الترمذي من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه, ولا يسلمه, ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً، ستره الله يوم القيامة)) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر.
وفي (صحيح مسلم) و(مسند أحمد)، و(سنن أبي داود) و(الترمذي) و(النسائي)، و(ابن ماجه)، و(صحيحي الحاكم وابن حبان) من حديث أبي هريرة مرفوعاً، ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة. ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) مختصر.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة)) .
وفي رواية: ((لا يستر الله على عبد في الدنيا، إلا ستره يوم القيامة)) .
وروى الإمام أحمد، والنسائي نحوه من حديث عروة، عن عائشة مرفوعاً – في حديث طويل – ((لا يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستره الله في الآخرة)) .
ومعنى ستره الله في الآخرة: أن يستر معاصيه وعيوبه عن إذاعتها في أهل الموقف – كما تقدم قريباً – من حديث عمر.
وفي (مسند أحمد) من حديث مسلمة بن مخلد الأنصاري مرفوعاً: ((من ستر مسلماً في الدنيا ستره الله – عز وجل – في الدنيا الآخرة, ومن نجى مكروباً فك الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)) .
ورواه الطبراني ولفظه: ((من علم من أخيه سيئة فسترها ستر الله عليه يوم القيامة)) .
وفي (مسند الإمام أحمد) وغيره من حديث عن مسيب عن عمه. قال: بلغ رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة)) . فرحل إليه وهو بمصر فسأله عن الحديث. قال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة. فقال: وأنا قد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي (سنن ابن ماجه) وغيرها من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه الله بها في بيته)) .
قال أبو زكريا النووي – رحمه الله – في شرح صحيح مسلم – عند قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة)) ، وأما الستر المندوب إليه هنا فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس معروفاً بالأذى والفساد. وأما المعروف بذلك فيستحب أن لا يستر عليه، بل ترفع قضيته إلى ولي الأمر، إن لم يخف من ذلك مفسدة, لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء, والفساد, وانتهاك المحرمات, وجسارة غيره على مثل فعله. وهذا كله في ستر معصية وقعت وانتقضت.
أما مسألة معصية يراه عليها وهو متلبس بها فتجب المبادرة بإنكارها عليه, ومنعه منها على من قدر على ذلك, ولا يحل تأخيرها. فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر، إذا لم تترتب على ذلك مفسدة – كما تقدم. ثم قال: وأما الرواة, والشهود, والأمناء على الصدقات, والأوقاف, والأيتام ونحوهم فيجب جرحهم عند الحاجة, ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم. وليس هذا من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة. وهذا مجمع عليه.
المطلب السابع: الاغتمام بمعصية المسلم والتأسف لتعرضه لغضب الله
ومما يستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر أن يكون مغتماً بمعصية أخيه المسلم وأن يكون آسفاً لتعرضه لعقاب الله
ومما يستحب (للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر) أن يكون مغتماً مما ظهر من معصية أخيه المسلم وتعرضه لعقاب الله –تعالى- حتى يشغله الهم عن فرحه بأجر الأمر والنهي بحيث إنه لو خير بين أجره في أمره ونهيه وبين أن أخاه لم يصب ذلك الذنب لاختار أن لا يكون أصاب الذنب، وهو النصح لله في خلقه، وهو أعظم من أجر الآمر في أمره مع إثمه. فإذا اغتم بمعصيته وشره وأحب أن يكون الله –تعالى – عصمه – جمع الله أجره على عظته إياه، وأجره على اغتمامه بمعصيته وأجره على محبته عصمته.
المطلب الثامن: الغيرة على المسلمين
ومما يستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر بل لكل مسلم أن يكون غيوراً على إخوانه المسلمين. قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33].
وفي (الصحيحين)، و(مسند أحمد) و(جامع الترمذي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يغار وإن المؤمن يغار، وإن من غيرة الله تعالى أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه)) .
ولمسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن يغار والله أشد غيراً)) .
المطلب التاسع: تواضع الآمر الناهي في أمره ونهيه
ومما يستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر أن يكون متواضعاً في أمره ونهيه من غير افتخار ولا تعاظم، بل من حقوق المسلمين التواضع لهم.
وسمي التواضع متواضعاً لأنه وضع شيئا من قدره الذي يستحقه – وذلك ملح العبادة – وغاية شرف الزاهدين، وسيما الناسكين.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
(أي متواضعين لهم بذل لين وانقياد، لا بذل هوان فيعاشروا المؤمنين برحمة وعطف وشفقة وإخبات وتواضع).
وقوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ}.
هو من عزة القوة والمنعة والغلبة.
وقال (عطاء) (للمؤمنين كالوالد لولده. وعلى الكافرين كالسبع على فريسته) كما في الآية الأخرى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.
فالنفس إذا انحرفت عن خلق العزة التي وهبها الله للمؤمنين انحرفت إما إلى كبر وإما إلى ذل والعزة المحمودة بينهما، والله أعلم.
وقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] يعني سكينة ووقاراً متواضعين، غير أشرين ولا مرحين ولا متكبرين لأن الهون –بالفتح- الرفق واللين، وبالضم –الهوان.
فالأول صفة أهل الإيمان، والثاني صفة أهل الكفران وجزاؤهم من الله النيران .
قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
وفي (صحيح مسلم)، و(سنن أبي داود)، و(ابن ماجه) من حديث عياض بن حمار المجاشعي – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفتخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)) .
قال أهل اللغة: (البغي التعدي والاستطالة).
قال أبو العباس بن تيمية – في (اقتضاء الصراط المستقيم) – جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين نوعي الاستطالة. لأن المستطيل إن استطال بحق فهو المفتخر. وإن استطال بغير حق فهو الباغي فلا يحل لا هذا ولا هذا .
قال أبو حامد: فإن قلت كيف التواضع للفاسق والمبتدع وقد أمرت ببغضهما، والجمع بينهما متناقض ؟
فاعلم أن هذا أمر مشتبه يلتبس على أكثر الخلق، إذ يمتزج غضبك لله في إنكار البدعة والفسق بكبر النفس، والإذلال بالعلم والورع، فكم من عابد جاهل, وعالم مغرور إذا رأى فاسقاً جلس إلى جانبه أزعجه ذلك.
وتنزه منه لكبر باطن في نفسه وهو ظان أنه غاضب لله، وذلك لأن الكبر على المطيع ظاهر كونه شراً والحذر منه ممكن، والكبر على الفاسق والمبتدع يشبه الغضب لله وهو خير، فإن الغضبان – أيضاً – يتكبر على من غضب عليه والمتكبر يغضب، وأحدهما يثمر الآخر ويوجبه, وهما ممتزجان ملتبسان لا يميز بينهما إلا الموفقون.
والذي يخلصك من هنا أن يكون الحاضر على قلبك عند مشاهدة المبتدع, أو الفاسق, أو عند أمرهما بالمعروف ونهيهما عن المنكر ثلاثة أمور:
أحدهما: التفاتك إلى ما سبق من ذنوبك وخطاياك، ليصغر عند ذلك قدرك في عينك.
والثاني: أن تكون ملاحظتك لما أنت متميز به من العلم, واعتقاد الحق, والعمل الصالح من حيث إنها نعمة من الله – تعالى – وله المنة لا لك فترى ذلك منه حتى لا تعجب نفسك، وإذا لم تعجب لم تتكبر.
والثالث: ملاحظة إيهام عاقبتك وعاقبته أنه ربما يختم لك بالسوء ويختم له بالحسنى حتى يشغلك الخوف عن التكبر عليه.
المبحث الرابع: شروط إنكار المنكر
المطلب الأول: كونه منكراً
المنكر كل أمر نهى عنه الشارع الحكيم سواء أكان هذا الأمر محرما أم مكروهاً وكل ما كان محذوراً في الشرع.
وكلمة منكر أعم من قولنا معصية فتطلق على كل فعل فيه مفسدة أو نهت عنه الشريعة. وإن كان لا يعتبر معصية في حق فاعله، إما لصغره، أو جنونه ولهذا إذا زنا المجنون أو هم بفعل الزنا أو شرب الصبي الخمر كان ما فعلاه منكراً يستحق الإنكار وإن لم يعتبر معصية في حقهما لفوات شرط التكليف وهو البلوغ في الأول والعقل في الثاني بل إن الفعل الذي يخالف ما تعارف عليه المسلمون ولم يكن فيه نص صريح من حيث الكراهة والقبح يكون فيه الاحتساب؛ لأن عرف المسلمين يتفق –في الغالب- مع قواعد الشريعة فلو أن إنساناً جاء إلى المسجد للصلاة وقد لبس إزاراً من السرة إلى الركبة ووضع على عاتقه شيئاً يسيراً فقط فإن هذا ينكر عليه فعله ولو لم يكن محرماً؛ لأن فعله مخالف لعرف المسلمين؛ ولأن الطباع السليمة المسلمة تنفر من ذلك؛ ولأنه بفعله عرض نفسه لحديث الناس والوقوع في عرضه.
وكذلك الحال لمن لبس من الرجال الثياب الضيقة أو الخفيفة التي تحدد العورة وتصف البشرة، أو إطالة الشعر لا لقصد السنة وإنما اقتداء بالغرب والمنحرفين فإن مثل ذلك يعتبر منكراً، لأن فيه نوعاً من التشبه بالفساق وأعداء الله.
ويندرج في المنكر جميع المنكرات سواء أكانت من صغائر الذنوب أم من كبائرها، وسواء أكانت تتعلق بحق الله تعالى أم بحق الآدميين.
ولكن يجب أن نعرف بأن الذي يملك الحكم عليه بأنه منكر أو غير منكر (الشرع). لأن هذا الوصف حكم شرعي. والحاكم حقيقة هو الله سبحانه {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [يوسف: 67] فليس هناك مجال للعواطف والأهواء والأغراض. ودور العلماء في ذلك هو استنباط الحكم الشرعي من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والقواعد المستوحاة منهما. ومن ثم الحكم على هذا الأمر بأنه منكر أو غير منكر .
المطلب الثاني: أن يكون موجوداً في الحال
وهذا الشرط له ثلاث أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون قد هم بفعل المنكر.
الحالة الثانية: أن يكون متلبساً بالمنكر.
الحالة الثالثة: أن يكون قد انتهى من فعل المنكر.
تفصيل هذه الأحوال:
الحالة الأولى: أن يكون قد هم بفعل المنكر: وذلك بأن توجد مقدمات وعلامات ومؤشرات تدل على وقوع المنكر مثل: أن يرى رجلاً يتردد مراراً في أسواق النساء ويصوب النظر إلى واحدة بعينها أو رأى شاباً يقف كل يوم عند باب مدرسة بنات ويصوب النظر إليهن. وليس له من حاجة غير ذلك. أو سمع رجلاً يتحدث بالهاتف –هاتف الشارع- بصوت مرتفع مع امرأة ويحاول أن يرتبط معها بموعد، أو رأى رجلاً يسأل بكثرة عن كيفية تصنيع الخمر، وطريقة تركيبه كل هذه الأمور تعتبر من المقدمات لفعل المنكر. فعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في هذه الحالات الوعظ، والنصح، والإرشاد، والتخويف بالله سبحانه وتعالى، وبعقوبته والخوف من عذابه وبطشه. ويذكر له بعض النصوص القرآنية التي تبين أن الله سبحانه وتعالى مطلع عليه يسمع كلامه ويرى مكانه. مثل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].
ومثل قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].
وليكن ذلك بأسلوب فيه لين وعطف وإشفاق وليس فيه تجريح أو رفع صوت أو تشهير فهذه الأمور ربما دفعته إلى حالة تأخذه فيها العزة بالإثم. وليس هناك أحسن من هذا الأسلوب في هذه الحالة. والعلم عند الله.
الحالة الثانية: أن يكون متلبساً بالمنكر:
ومعنى ذلك أن تكون المعصية وصاحبها مباشر لها وقت النهي والتغيير. كمن هو جالس وأمامه كأس الخمر يشرب منه أو كمن هو أدخل امرأة أجنبية إلى داره وأغلق الباب عليهما ونحو ذلك. ففي هذه الحال يجب على الآمر بالمعروف والناهي المنكر الإنكار عليه ومنعه من ذلك طالما أنه قادر على إزالة المنكر ولم يخف على نفسه ضرراً أو أذى.
يقول القاضي عياض –رحمه الله- حق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولاً كان أو فعلاً، فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه وينزع المغصوب ويرده إلى أصحابه .
والإنكار عليه يكون بحسب فعل المنكر ومرتبة حكمه في الشرع.
الحالة الثالثة: أن يكون فاعل المنكر قد فعله وانتهى منه ولم يبق إلا آثاره، كمن شرب الخمر وبقيت آثاره عليه أو من عرف أنه ساكن أعزب وخرجت من عنده امرأة أجنبية ونحو ذلك. ففي هذه الحال ليس هناك وقت للنهي أو التغيير وإنما هناك محل للعقاب والجزاء على فعل هذه المعصية، وهذا الأمر –في الغالب- ليس من شأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر –المتطوع- وإنما هو شأن ولي الأمر أو نائبه فيرفع أمره للحاكم ليصدر فيه الحكم الموافق للشرع.
يقول العلامة ابن نجيم... وأما بعد الفراغ منها –المعصية- فليس ذلك لغير الحاكم .
وللآمر بالمعروف أن يخوفه بالله ويحذره من الوقوع في مثل ذلك مستقبلاً، ويذكره بآثار المعاصي السيئة في الدنيا والآخرة.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
المطلب الثالث: أن يكون المنكر ظاهراً من غير تجسس
لقد شمل الإسلام جميع جوانب الحياة للمسلم وأعطى كل جانب منها حقه وضمن للإنسان أن يعيش في المجتمع آمناً مطمئناً محترماً وموقراً طالما أنه سالك الطريق المستقيم، وأما إذا حاد عن الطريق فإن الإسلام جعل لكل أمر معوج ما يناسبه من التقويم.
ومن الأمور التي شرعها الإسلام لاحترام الإنسان وأمنه النهي عن التجسس عليه.
فلا يجوز لأحد أن يدخل عليه بيته إلا بإذنه يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27] حتى تسلموا وتستأذنوا وذلك أن يقول أحدهم السلام عليكم أأدخل؟ وهو من المقدم الذي معناه التأخير إنما هو حتى تسلموا وتستأذنوا .
ففي الآية نص من الله تعالى بتحريم الدخول إلى البيوت بغير إذن، بل إن الإسلام حرم أقل من ذلك وهو النظر إلى داخل البيت من أحد ثقوبه أو فتحاته. فأسقط الشارع الحكم حد القصاص والدية عمن فعل ذلك.
حيث ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم ((لو أن امرأً اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح)) .
وما رخصت عين الجاني إلا لعظمة حرمة المسلم داخل بيته.
وإذا كان الإسلام حرم الدخول إلى البيت والنظر إلى داخله بغير إذن.
فإن الإسلام أيضاً حرم التجسس. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: 12] الآية.
قال مجاهد –رحمه الله- خذوا ما ظهر لكم ودعوا ما ستر الله .
وقال القرطبي –رحمه الله-: ومعنى الآية خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلع عليه بعد أن ستره الله .
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً)) .
وفي رواية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانا)) .
ومعنى التحسس والتجسس قال بعض العلماء: الحسس بالحاء الاستماع لحديث القوم وبالجيم: البحث عن العورات، وقيل بالجيم التفتيش عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال في الشر. والجاسوس صاحب سر الشر، والناموس صاحب سر الخير، وقيل بالجيم أن تطلبه لغيرك وبالحاء أن تطلبه لنفسك قاله ثعلب. وقيل هما بمعنى وهو طلب معرفة الأخبار الغائبة والأحوال .
وعلى كل فإنه إن كان وقع اختلاف في معنى التحسس والتجسس فإن العلماء متفقون على تحريم التجسس بنص الآية الكريمة {ولا تجسسوا} وبنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ولا تجسسوا)) وقد سبقت الإشارة إلى موضعها.
وعن معاوية -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنك اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم)) .
فهذا نص صريح من الرسول صلى الله عليه وسلم بأن التجسس وتتبع عورات المسلمين من وسائل إفساد المجتمع وقد ورد في ذلك بعض الآثار التي تبين وقوف الصحابة رضي الله عنهم عند هذا الحد، فلم يقدموا عليه بل إذا ما وقع من أحدهم ذلك لاجتهاد ظنه أنكر عليه ذلك.
من ذلك ما ورد عن عبد الرحمن بن عوف قال: حرست ليلة مع عمر بن الخطاب بالمدينة إذ تبين لنا سراج في بيت بابه مجافى على قوم لهم أصوات مرتفعة ولغط. فقال عمر: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى، قلت: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه {ولا تجسسوا} وقد تجسسنا، فانصرف عمر وتركهم .
وقال أبو قلابة:
حدث عمر أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته فانطلق عمر حتى دخل عليه فإذا ليس عنده إلا رجل فقال أبو محجن: إن هذا لا يحل لك. قد نهاك الله عن التجسس فخرج عمر وتركه .
فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر منهي عن التجسس إلا في حالات نادرة سنتحدث عنها في الفقرة التي تلي هذه، لأن من يفعل ذلك ينتهك عدة حقوق أساسية ثابتة شرعاً لمن تجسس عليه، منها: حقه في حرمته في مسكنه، وحقه في حرية شخصه باطلاعه على سره، هذا من جهة ومن جهة أخرى يكون المتجسس قد استباح وسيلة محرمة للوصول إلى غاية. وسواء أكانت هذه الغاية محرمة أم مباحة، فإن ذلك محظور؛ لأنها إن كانت محرمة فالوسيلة إليها محرمة، وأما إذا كانت الغاية مشروعة فلا يصح أن يسعى إليها بوسيلة محرمة؛ لأن الغاية تأخذ حكم الوسيلة .
وجوب التستر:
إن المسلم مأمور بأن يتستر ولا يظهر معصيته أياً كانت هذه المعصية سواء أكانت مرئية كأن يخرج عند بابه ويضع الفيديو إلى جواره وفيه أفلام خليعة، أو المسموعة كأن يضع بآلة التسجيل شريطاً به غناء غرامي وموسيقى خليعة ماجنة ونحو ذلك، أو المشمومة كأن يظهر رائحة الخمر والمسكر بحيث يشمها من هو خارج المنزل أو قريباً منه ويتكلم معه؛ لأنه إذا فعل ذلك يكون قد أضاع الحق الذي أعطاه الإسلام له، ويكون بذلك عرض نفسه للإهانة والردع.
ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين. وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويكشف ستر الله عنه)) .
ومعنى (المجاهرين) المعلنون لفسقهم ومعاصيهم. قال القسطلاني: والمجاهرون بكسر الهاء المعلنون بالفسق؛ لاستخفافهم بحق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وصالحي المؤمنين وفيه ضرب من العناد .
وقال ابن بطال:
في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم. وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف، لأن المعاصي تذل فاعلها من إقامة الحد عليه إن كان فيها حد، ومن التعزير إن لم توجب حداً، وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة.
والذي يجاهر يفوته جميع ذلك. وفي المجاهرة بالمعصية تحريك لرغبة الشر فيمن سمعه أو شهده .
قلت:
ومصداق كلام ابن بطال ما ورد عن صفوان بن محرز أن رجلاً سأل ابن عمر كيف رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ قال: ((يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول: عملت كذا وكذا. فيقول: نعم. فيقول: عملت كذا وكذا. فيقول: نعم. فيقرره ثم يقول إني سترت عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم)) .
فالإسلام لا يقر المجاهرة بالمعصية أياً كانت صغيرة أم كبيرة. لما لها من الآثار السيئة الكبيرة ليس على فاعلها فقط وإنما على المجتمع. إذ في المجاهرة بالمعصية تشجيع الناس عليها، وإبعاد الحياء عنهم بفعلها وتسهيل ارتكابهم لها، فكأن المجاهر رسم طريقاً لمن أراد أن يفعل كفعله.
موقف الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إذا ظهرت علامات المنكر:
عرفنا حكم الإسلام في التجسس وعرفنا أيضاً أنه لا يجوز للمسلم أن يجاهر بالمعصية.
ولكن ما هو موقف الناهي عن المنكر. إذا ظهرت أمارات المنكر وهو داخل البيت. كأن تفوح رائحة الخمر، أو تسمع آلات الموسيقى والطرب أو تسمع أصوات المغنيات والمطربات ونحو ذلك؟
فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجب الإنكار في هذه الحال.
قال في غذاء الألباب: وأما تسور الجدران على من علم اجتماعهم على منكر فقد أنكره الأئمة مثل: سفيان الثوري وغيره وهو داخل في التجسس المنهي عنه .
وأما الماوردي فيقسم المنكر في هذه الحال إلى قسمين:
الحالة الأولى: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها ففي هذه الحال يجوز للناهي أن يتجسس.
الحالة الثانية: ما خرج عن هذا الحد وقصر عن هذه الرتبة فلا يجوز التجسس عليه وكشف الأستار عنه .
وقد استدل القائلون بعدم التجسس على أولئك بالأمر الوارد عن ابن مسعود -رضي الله عنه- (أنه أتي إليه برجل فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراً. فقال: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يُظهر لنا شيء نأخذ به) وأيضاً عموم الآيات والأحاديث الواردة عن النهي عن ذلك وذهب بعض العلماء إلى أنه في هذه الحالة يجوز التجسس عليهم واقتحام البيت إذا تحققت تلك الأمارات.
قال الخلال: أخبرني محمد بن أبي هارون أن مثنى الأنباري حدثهم. قال: سمع أحمد بن حنبل حس طبل في جواره فقام إليهم ونهاهم.
وقال أيضاً: أخبرني محمد بن علي الوراق أن محمداً بن أبي حرب حدثهم قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه قال: يأمره. قلت: فإن لم يقبل؟ قال يجمع عليه الجيران ويهول عليه.
وقال أيضاً: أخبرني منصور بن الوليد أن جعفر بن محمد النسائي حدثهم قال: سمعت أبا عبد الله سئل عن الرجل يمر بالقوم يغنون. قال: هذا قد ظهر عليه أن ينهاهم .
وقال الغزالي: إلا أن يظهر –المنكر- ظهوراً يعرفه من هو خارج الدار كأصوات المزامير والأوتار إذا ارتفعت بحيث جاوز ذلك حيطان الدار فمن سمع ذلك فله دخول الدار وكسر الملاهي، وكذا إذا ارتفعت أصوات السكارى بالكلمات بالمألوفة بينهم بحيث يسمعها أهل الشوارع فهذا إظهار موجب للحسبة .
وقال ابن الجوزي: من تستر بالمعصية في داره وأغلق بابه لم يجز أن يتجسس عليه، إلا أن يظهر ما يعرفه كأصوات المزامير والعيدان فلمن سمع ذلك أن يدخل ويكسر الملاهي، وإن فاحت رائحة الخمر فالأظهر جواز الإنكار .
والقول الثاني أرجح وهو جواز التجسس ووجوب الإنكار على من جاهر بالمعصية؛ لأن النصوص الواردة في النهي عن التجسس خاصة بمن لم يجاهر بمعصيته، وأما من جاهر بمعصيته فإنه لا يشمله هذا التكريم؛ لأن فعل المجاهر ينتج عنه أمور تخالف قواعد الشرع ونوضح المسألة بما يأتي:
أولاً: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتستر وقال: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين)) فبفعله خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وخرج من العافية.
ثانياً: إنه بفعله هذا يكون قد نزع الحياء الذي شرعه الإسلام للمسلمين ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) .
ثالثاً: إن هذا المجاهر قد ينتج عن فعله هذا ترويج الفاحشة وفعل المنكرات في المجتمع المسلم، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، بل المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
رابعاً: وأما استدلالهم بخبر ابن مسعود -رضي الله عنه- (وأنه أتي برجل تقطر لحيته خمراً فقال: إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به) .
فهذا الخبر مردود عليهم من وجهين:
الوجه الأول: إن هذا الخبر يخالف صريح وصحيح قول الرسول صلى الله عليه وسلم حيث حدث مثل هذه الصورة وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه.
فقد ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر قال: (اضربوه) قال أبو هريرة: فمنا الضارب بنعله والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاه الله. قال: ((لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان)) .
فإذا كان هذا في حق من قد شرب الخمر فما هو شأن من تقطر لحيته خمراً؟
الوجه الثاني: إن هذا الخبر لا ينفي أن ابن مسعود -رضي الله عنه- أقام الحد عليه أو أمر بإقامته.
فكان ابن مسعود يقول إننا لم نبحث عنه ولم نؤمر بالبحث عنه فلما أن ظهر لنا فعله فسوف نأخذ به. حيث قال ابن مسعود (ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به) وما أشد ظهور المنكر في هذه الصورة.
فمن هنا نقول في مشروعية الاحتساب على من جاهر بالمعصية. والله أعلم.
المطلب الرابع: ألا يكون المنكر من المسائل المختلف فيها
يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ألا ينكر على الناس في المسائل المختلف فيها كأن تكون هذه المسألة جائزة عند بعض الأئمة وممنوعة عند بعضهم والفاعل لها مقلداً لإمامه المجيز لهذه المسألة مثلاً:
يقول الغزالي:
فكل ما هو محل اجتهاد فلا حسبة فيه فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله الضب والضبع ومتروك التسمية، ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي شربه النبيذ الذي ليس بمسكر وجلوسه في دار أخذها بشفعة الجوار إلى غير ذلك من مجاري الاجتهاد. نعم لو رأى الشافعي شافعياً يشرب النبيذ فهذا في محل نظر والأظهر أن له الحسبة والإنكار إذ لم يذهب أحد من المحصلين إلى أن المجتهد يجوز أن يعمل بموجب اجتهاد غيره ولا أن الذي أدى اجتهاده في التقليد إلى شخص رآه أفضل العلماء أن له أن يأخذ بمذهب غيره فينتقي من المذاهب أحبها عنده بل على كل مقلد اتباع مقلده في كل تفصيل .
وقال أبو الحسن الماوردي: واختلف الفقهاء من أصحاب الشافعي هل يجوز له –المحتسب- أن يحمل الناس فيما ينكره من الأمور التي اختلف الفقهاء فيها على رأيه واجتهاده أم لا؟ على وجهين: أحدهما وهو قول أبي سعيد الاصطخري أن له أن يحمل ذلك على رأيه واجتهاده، فعلى هذا يجب على المحتسب أن يكون عالماً من أهل الاجتهاد في أحكام الدين ليجتهد رأيه فيما اختلف فيه.
والوجه الثاني: ليس له أن يحمل الناس على رأيه واجتهاده، ولا يقودهم إلى مذهبه لتسويغ الاجتهاد للكافة، وفيما اختلف فيه، فعلى هذا يجوز أن يكون المحتسب من غير أهل الاجتهاد إذا كان عارفاً بالمنكرات المتفق عليها .
وقال عبد الكريم زيدان: الواقع أن الخلاف إما أن يكون سائغاً وإما أن يكون غير سائغ ولكل حكمه:
1- الخلاف السائغ يمنع من الاحتساب على رأي بعض الفقهاء وقال آخرون: يجوز للمحتسب أن ينكر على فاعل المنكر المختلف فيه بشرط أن يكون المحتسب مجتهداً.
2- الخلاف غير السائغ وهو الخلاف الشاذ أو الباطل الذي لا يعتد به لعدم قيامه على أي دليل مقبول كالذي يخالف صريح القرآن والسنة الصحيحة المتواترة المشهورة أو إجماع الأمة أو ما علم من الدين بالضرورة فمثل هذا الخلاف لا قيمة له ولا يمنع المحتسب من الإنكار والاحتساب .
ولعل الأرجح –والله أعلم- أنه ليس للمحتسب أن يحمل الناس على مذهبه إلا أن يكون مجتهداً وإذا كان مجتهداً فله ذلك. ولكن الأحرى أن لا ينتسب المجتهد إلى مذهب معين بل إنه يعمل بما ترجح لديه من الدليل. وإن كان يعمل بمعظم وبكثير من مسائل أحد المذاهب فعمله هذا على حسب ظهور الدليل له في هذه المسائل مثلاً.
وأيضاً لا يشترط أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من أهل الاجتهاد. لأننا لو شرطنا ذلك لتعطل الأمر والنهي ولعمت المنكرات لافتقار المجتهدين.
والنصوص الشرعية خاطبت الأمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم تخاطب المجتهدين منهم فقط يقول تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 110].
ويقول صلى الله عليه وسلم ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) .
ولم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أحداً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعدم اجتهاده ولا عن الصحابة أنهم نهى بعضهم بعضاً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعدم اجتهاده.
فتخصيص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمجتهد يحتاج إلى مخصص.
فتبين من ذلك أن للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يمارس ذلك ولو لم يكن من أهل الاجتهاد. والله أعلم.
وقال الإمام أحمد في رواية المروذي: (لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد عليهم) وله رواية أخرى خلاف ذلك.
قال في رواية الميموني في الرجل يمر بالقوم يلعبون بالشطرنج ينهاهم ويعظهم. وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن رجل مر بقوم يلعبون بالشطرنج فنهاهم فلم ينتهوا فرمى به فقال: قد أحسن .
فالإمام أحمد أقره على فعله بل أيده عليه مع الخلاف المذكور في الشطرنج.
ولأحمد رواية ثالثة: لا ينكر على المجتهد بل على المقلد، روى إسحاق ابن إبراهيم عن الإمام أحمد أنه سئل عن الصلاة في جلود الثعالب، قال: إذا كان متأولاً أرجو أن لا يكون به بأس، وإن كان جاهلاً ينهى ويقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك .
وقال الخلال: أخبرنا عصمة بن عصام حدثنا حنبل قال: قلت لأبي عبد الله: ترى الرجل إذا رأى الرجل لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا يقيم أمر صلاته ترى أن تأمره بالإعادة؟ قال: يحسن صلاته أو نمسك عنه. ثم قال: إن كان يظن أنه يقبل منه أمره، وقال له ووعظه حتى يحسن الصلاة فإن الصلاة من تمام الدين .
وقال أيضاً: أخبرني الحسن بن عبد الوهاب، أن إسماعيل بن يوسف حدثهم. قال: حدثنا يعقوب حدثنا عبد الرحمن حدثنا محمد بن النضر قال: سأل رجل الأوزاعي قال: من آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر؟ قال: من ترى أنه يقبل منك .
وفي الغالب من على خلاف مذهبك لا يقبل منك.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والصواب ما عليه جماهير المسلمين أن كل مسكر خمر يجلد شاربه ولو شرب قطرة واحدة لتداو أو غير تداو.
وقال في كتاب بطلان التحليل: قولهم ومسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل.
أما الأول فإن كان القول يخالف سنة أو إجماعاً قديماً وجب إنكاره وفاقاً.
وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد، وهم عامة السلف والفقهاء، وأما العمل إذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضاً بحسب درجات الإنكار. كما ذكرنا من حديث شارب النبيذ المختلف فيه وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة وإن كان قد اتبع بعض العلماء.
وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا اجتماع والاجتهاد فيها مساغ فلا ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد. كما اعتقد ذلك طوائف من الناس والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ إذا عدم ذلك الاجتهاد لتعارض الأدلة المقاربة أو لخفاء الأدلة فيها وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها مثل كون الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد بوضع الحمل. وأن الجماع المجرد عن إنزال يوجب الغسل.
وقال أيضاً: من أصر على ترك الجماعة ينكر عليه ويقاتل عليه أيضاً في أحد الوجهين عن استحبابها، وأما من أوجبها فإنه عنده يقاتل ويفسق إذا قام الدليل عنده المبيح للمقاتلة والتفسيق كالبغاة بعد زوال الشبهة... .
وقال النووي –رحمه الله-: إن المختلف فيه لا إنكار فيه لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق .
الفصل الثالث: درجات النهي عن المنكر
المبحث الأول: القدرة والاستطاعة وضابطها
المطلب الأول: القدرة والاستطاعة
إن من فضل الله تعالى على خلقه أن جعل دين الإسلام دين الواقعية، فهو لا يطالب المسلمين بأمور فوق طاقتهم لا يستطيعون فعلها أياً كان هذا المأمور به، فإما أن يسقط كلية أو يخفف إلى درجة تتناسب مع قدرات هذا الشخص.
ولقد جاءت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة موضحة ذلك أوضح بيان. يقول تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
ويقول تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
ويقول تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
ويقول صلى الله عليه وسلم ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) .
فهذه النصوص الشرعية تبين بوضوح أن الإنسان لا يكلف فوق طاقته في أي أمر من أمور الشرع، وما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا جزء من أوامر الشرع.
ومدار هذا البحث على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يقول فيه:
((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) .
فهذا نص صريح من المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن المغير للمنكر لا يلزمه إزالته بطريقة واحدة، بل عليه أن يغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وهذا أقل الأحوال.
يقول الجصاص حول قوله صلى الله عليه وسلم ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)) الحديث: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن إنكار المنكر على هذه الوجوه الثلاثة على حسب الإمكان، ودل على أنه إن لم يستطع تغييره بيده فعليه تغييره بلسانه، ثم إن لم يكن ذلك فليس عليه أكثر من إنكاره بقلبه .
وقال النووي –رحمه الله-: وأما صفة النهي ومراتبه فقد قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: ((فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه)) فقوله صلى الله عليه وسلم فبقلبه معناه فليكرهه بقلبه وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمنكر ولكنه هو الذي وسعه.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وقال عبد القادر عودة: ويشترط في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون قادراً على الأمر والنهي وتغيير المنكر، فإن كان عاجزاً فلا وجوب عليه إلا بقلبه أي يكره المعاصي وينكرها ويقاطع فاعليها .
ويدخل في عدم القدرة ما يلي:
1- العجز الحسي.
2- العجز المعنوي.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يماثل الجهاد والدعوة إلى الله أو هما معاً، لذا فإنه كلما تتوفر القدرة العلمية والجسمية فإن عطاءه ونفعه يكون أكثر، وكلما نقص لديه جانب من الجوانب ذات الصلة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن نفعه يكون أقل.
لذا اشترط العلماء لإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القدرة الحسية والمعنوية.
أولاً: العجز الحسي: فيشترط في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر سلامة جسمه وقوته وكمال حواسه فلا يلزم الأخرس والأصم والأعمى بما لا يعلمون أنه منكر، أو لا يستطيعون إنكاره لفقد تلك الحواس أو بعضها.
كذلك ضعيف الجسم وهزيله الذي لا يستطيع الدفاع عن نفسه أو لا يتحمل الأذى.
وكذلك لا يلزم من يخشى على ماله وعرضه من النهب أو الانتهاك إذا أمر أو نهى أو نحو ذلك.
وقد أفاض الغزالي القول في ذلك ونقتطف مما قال: الشرط الخامس: كونه قادراً، ولا يخفى أن العاجز ليس عليه حسبة إلا بقلبه، إذ كل من أحب الله يكره معاصيه وينكرها. ثم قسم الاستطاعة إلى أحوال منها قوله:
أحدها: أن يعلم أنه لا ينفع كلامه، وأنه يضرب إن تكلم، فلا تجب عليه الحسبة، بل ربما تحرم في بعض المواضع، نعم يلزمه أن لا يحضر مواضع المنكر ويعتزل في بيته حتى لا يشاهد ولا يخرج إلا لحاجة مهمة أو واجب..
الحالة الثانية: أن يعلم أن المنكر يزول بقوله وفعله ولا يقدر له على مكروه فيجب عليه الإنكار وهذه هي القدرة المطلقة.
الحالة الثالثة: أن يعلم أنه لا يفيد إنكاره ولكنه لا يخاف مكروها فلا تجب عليه الحسبة لعدم فائدتها. ولكن تستحب لإظهار شعائر الإسلام، وتذكير الناس بأمر الدين.
الحالة الرابعة: أن يعلم أنه يصاب بمكروه ولكن يبطل المنكر بفعله كما يقدر على أن يرمي زجاجة الفاسق، بحجر فيكسرها ويريق الخمر.. ولكن يعلم أنه يرجع إليه فيضرب رأسه. فهذا ليس بواجب وليس بحرام بل هو مستحب .
ثانياً: الجانب المعنوي:
فيشترط في المحتسب أن يكون عالماً عارفاً بأحكام الشرع وعالماً بالمنكرات، فيعلم مواقع الحسبة وحدودها ومجاريها وموانعها. حيث إن الحسبة أمر بمعروف ونهي عن منكر، فلابد أن يعرف حدود المعروف وحدود المنكر فإذا كان عالماً فإنه يعرف مراتب كل منهما.
يقول الشيرازي: لما أن كانت الحسبة أمراً بمعروف ونهياً عن منكر وإصلاحاً بين الناس وجب أن يكون المحتسب فقيهاً عارفاً بأحكام الشريعة؛ ليعلم ما يأمر به وينهى عنه. فإن الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، ولا مدخل للعقول في معرفة المعروف والمنكر إلا بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ورب جاهل يستحسن بعقله ما قبحه الشرع، ويرتكب المحظور وهو غير عالم به.. .
وقال الإمام النووي –رحمه الله-: إنما يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها. وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء .
إذاً فليس على العامي إنكار فيما يحتاج إلى علم أو اجتهاد بل يسقط عنه الأمر والنهي في هذه الحالة. ولكن يلزمه أن ينكر الأمور التي لا يعذر أحد بجهلها كترك الصلاة وفعل الزنا وشرب الخمر ونحو ذلك.
يقول الغزالي: العامي ينبغي له أن لا يحتسب إلا في الجليات المعلومة، كشرب الخمر، والزنا، وترك الصلاة، فأما ما يعلم كونه معصية بالإضافة إلى ما يطيف به من الأفعال ويفتقر فيه إلى الاجتهاد فالعامي إن خاض فيه كان ما يفسده أكثر مما يصلحه .
المطلب الثاني: ضابط الاستطاعة
لا شك أن ضابط الاستطاعة ليس له ميزان دقيق، فالأشخاص يختلفون، فهذا يقدر على أمور لا يستطيعها شخص آخر، وهذا قد أعطاه الله قوة في العلم والجسم وآخر قد فقدها أو أحدهما. فالضابط الحقيقي متروك لضمير الشخص نفسه. ولكن مع ذلك ينبغي أن يكون هناك حد أدنى يقف عنده الناس حتى لا يكون مبدأ عدم القدرة وسيلة لترك الأمر والنهي فهناك أمور يجب أن لا تصد الناس عن الأمر والنهي. فمثلاً الخوف من اللوم أو السب والشتم ونحو ذلك. فلا يعذر أحد من الناس بسبب ذلك لأنه بسيط وهو في ذات الله تعالى. ولقد أثنى الله سبحانه وتعالى على الذين يجاهدون في سبيله ولا يخافون فيه لومة لائم.
يقول تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} [المائدة: 54].
يقول ابن كثير –رحمه الله-: أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله تعالى وإقامة الحدود وقتال أعدائه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يردهم عن ذلك راد، ولا يصدهم عنه صاد، ولا يحيك فيهم لوم لائم ولا عذل عاذل .
وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: ((بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن نقول الحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم)) .
وقال القرطبي: (أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبد البر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى، فإن ذلك لا ينبغي أن يمنعه من تغييره) .
ويقول الغزالي: ولو تركت الحسبة بلوم لائم أو باغتياب فاسق أو شتمه أو تعنيفه أو سقوط المنزلة عن قلب أمثاله لم يكن للحسبة وجوب أصلاً إذ لا تنفك الحسبة عنه .
فينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن لا يلتفت لهذه الأمور الصغيرة فإنها تعد قشوراً بسيطة تصيبه في ذات الله وهو مع ذلك لا يعتبر قدم شيئاً يذكر، وكان الأولى له والأفضل أن يقدم نفسه رخيصة في سبيل الله.
ويجب أن يعرف المسلم أن عذر الشارع في عدم النهي عن المنكر إذا خاف الإنسان على نفسه رخصة. وأما طريقة العزيمة والفضل فهو أن يقدم الإنسان نفسه وما يملك من أجل إعلاء كلمة الله تعالى، دون أن يتراجع عن كلمة الحق مهما كلفته؛ لأن الشارع رغب في ذلك.
وروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إنه تصيب أمتي في آخر الزمان من سلطانهم شدائد لا ينجو منه إلا رجل عرف دين الله فجاهد عليه بلسانه ويده وقلبه فذلك الذي سبقت له السوابق، ورجل عرف دين الله فصدق به، ورجل عرف دين الله فسكت عليه، فإن رأى من يعمل الخير أحبه عليه وإن رأى من يعمل بباطل أبغضه عليه فذلك ينجو على إبطانه كله)) .
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) أو ((أمير جائر)) .
وفي المسند عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- في حديثه الطويل عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: ((ألا لا يمنعن رجلاً مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) .
فهذه الأحاديث وغيرها تفيد أن الإنسان مأجور عندما يصدع بكلمة الحق ويأمر وينهى، ولو أدى ذلك إلى هلاكه وتعذيبه؛ لأن نتيجة الكلمة الصادقة عند السلطان الجائر معروفة.
يقول العمري: لا شك أن التضحية بالنفس والنفيس في سبيل الجهر بكلمة الحق ليست بأمر سهل ترغب فيه النفوس فهي تطلب حباً قوياً وإخلاصاً عميقاً، وعزيمة صادقة وهمة بعيدة. ولكن مما لا شك فيه أيضاً أن أصحاب العزيمة وأهل الإخلاص هم أرفعهم عند الله درجة وأعلاهم مكانة.
ثم يقول: هذه الأمة التي ألقى الله على كواهلها مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي عليها أن تصلح أمرها بنفسها لها تاريخ مشرق مجيد في الصدق والجرأة والشهامة والصدع بالحق، ولئن وجدت فيه من سكت عن المنكر وما قوي على إظهار المعروف لضعف إيمانه، فلا تستقل عدد أولي العزم وأصحاب الهمم الذين تصدوا للباطل وشهدوا بالحق في ظلال السيوف وذلك هو الذي ما زال يضمن للأمة، حياتها وبقاءها وإن فقدت كافة الأمة يوماً هذه الروح -روح التضحية والفداء والتفاني- كان أشأم يوم في تاريخها وانقطعت عنها رحمة الله ولم يحل بينها وبين هلاكها شيء وسقطت في الدرك الأسفل إلى هاوية الانحطاط .
وجوب الأمر والنهي ولو خاف على نفسه:
قد يكون الأمر والنهي واجباً ولو خاف على نفسه الهلاك، وذلك إذا كان يترتب على ذلك هداية طائفة من الناس إذا قال كلمة الحق، أو ضلالهم إذا سكت. فهنا يجب عليه أن يقول كلمة الحق ولو أدى ذلك إلى قتله.
والدليل على ذلك قصة الغلام مع الملك التي رواها صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الطويل وقد ذكرها أهل التفاسير عند تفسير سورة الحج .
ورواها الترمذي في سننه وفيها: ((... فقال الغلام للملك: إنك لا تقتلني حتى تصلبني وترميني وتقول إذا رميتني بسم الله رب هذا الغلام. قال فأمر به فصلب ثم رماه فقال بسم الله رب هذا الغلام. قال فوضع الغلام يده على صدغه حين رمي ثم مات. فقال أناس لقد علم هذا الغلام علماً ما علمه أحد فإنا نؤمن برب هذا الغلام...)) .
فهذا الغلام ضحى بنفسه لعلمه أنه سيهتدي بعده آلاف الناس وقصة الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله- مشهورة. حيث ثبت على قوله الحق في أن القرآن منزل غير مخلوق لعلمه أن الناس سيقتدون به، ولو قال إنه مخلوق تورية لضل بذلك خلق كثير.
المبحث الثاني: التغيير باليد أدلته وشروطه
المطلب الأول: تغيير المنكر باليد وأدلته
ونقصد بذلك تغيير المنكر باليد ككسر الملاهي وإراقة الخمر وإتلاف آنيته إذا لم يمكن ذلك وخلع الحرير، وتكسير الأصنام وتمزيق الصور أو طمسها وإتلاف الكتب والمجلات المضللة ونحو ذلك.
الأصل في تغيير المنكر باليد الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على ذلك.
يقول تعالى حكاية عن إبراهيم –عليه السلام-: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 57-58] فإبراهيم –عليه السلام- كسر الأصنام بيده.
وقال تعالى حكاية عن موسى –عليه السلام- {وَانظُرْ إلى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه: 97].
فأخبر –سبحانه وتعالى- عن كليمه موسى –عليه السلام- أنه أحرق العجل الذي عبد من دون الله ونسفه في اليم.
ويقول تعالى آمراً نبيه أن يقول: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
وذلك حينما دخل مكة عام الفتح فأخذ يطعن الأصنام بعود بيده وهو يتلو هذه الآية.
ورد عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده. ويقول {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81])) .
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)) الحديث.
فهذا نص صريح من الرسول صلى الله عليه وسلم بتغيير المنكر باليد.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد)) .
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: ((كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي ابن كعب من فضيخ زهو تمر فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت. فقال أبو طلحة: قم يا أنس فاهرقها فأهرقتها)) .
وفي رواية لمسلم: ((فقال أبو طلحة: يا أنس قم إلى هذه الجرة فاكسرها فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت)) .
وعن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما-: قال: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المربد فخرجت معه فكنت عن يمينه، وأقبل أبو بكر فتأخرت له فكان عن يمينه وكنت عن يساره فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المربد، فإذا بزقاق على المربد فيها خمر. قال ابن عمر: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدية، وما عرفت المدية إلا يومئذ، فأمر بالزقاق فشقت ثم قال لعنت الخمر وشاربها)) الحديث.
وفي رواية لابن عمر –أيضاً- قال: ((أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية وهي الشفرة فأرهفت فأتيته بها فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها وقال: اغد علي بها ففعلت، فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زقاق خمر قد جلبت من الشام فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ثم أعطانيها، وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي وأن يعاونوني وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق إلا شققته ففعلت فلم أترك في أسواقها زقاً إلا شققته)) .
فهذه الأحاديث دليل واضح بالقول والفعل من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته على تغيير المنكر باليد.
الفرع الأول: المنكرات التي يجوز إتلافها باليد
للناهي عن المنكر أن يتلف الأشياء العينية المحرمة مثل الأصنام المعبودة من دون الله بشتى أنواعها وأياً كانت مادتها من خشب أو ذهب أو نحاس. فله تكسيرها وإتلافها وكذلك آلات اللهو بشتى أنواعها من عود وآلات موسيقية ونحو ذلك أو الأشرطة التي سجل فيها أغاني خليعة وموسيقى ماجنة ونحو ذلك. أو الصور الخليعة المحرمة فله طمسها أو تمزيقها وإتلافها.
كل ذلك يجوز له تغييره باليد وإتلافه لكن عليه أن ينظر إلى قواعد الشرع قبل الإقدام على ذلك ومراعاة المصلحة فلا يخلف ذلك منكراً أكبر منه...
قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن رجل كسر عوداً كان مع أمه لإنسان فهل يغرمه. أو يصلحه؟ قال:
لا أرى عليه بأساً أن يكسره ولا يغرمه ولا يصلحه. قيل فطاعتها؟ قال: ليس لها طاعة في هذا.
وقال أبو داود: سمعت أحمد يسأل عن قوم يلعبون بالشطرنج فنهاهم فلم ينتهوا، فأخذ الشطرنج فرمى بها. قال: قد أحسن. قيل: فليس عليه شيء. قال: لا، قيل له: وكذلك إن كسر عوداً أو طنبوراَ؟ قال: نعم. وقال عبد الله: سمعت أبي – في رجل يرى مثل الطنبور أو العود أو الطبل أو ما أشبه هذا ما يصنع به؟ قال: إذا كان مكشوفاً فاكسره.
وقال المروزي: سألت أبا عبد الله عن كسر الطنبور الصغير يكون مع الصبي؟ قال يكسره أيضاً. قلت: أمر في السوق فأرى الطنبور تباع أأكسره؟ قال: ما أراك تقوى، إن قويت –أي فافعل- قلت أدعى لغسل الميت فأسمع صوت الطبل؟ قال إن قدرت على كسره وإلا فاخرج .
وهذه الروايات عن الإمام أحمد –رحمه الله- تفيد إنكار المنكر باليد، وكسر مثل هذه المنكرات وإزالتها. وهذه مبنية على أصل الشرع.
فعن أبي الهياج الأسدي -رضي الله عنه- قال: قال لي علي بن أبي طالب: ((ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)) .
وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم فقال صلى الله عليه وسلم أما هم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة)) الحديث.
وفي رواية لابن عباس –أيضاً- ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت)) الحديث.
فهذه الأحاديث وغيرها من النصوص تبين مشروعية إزالة المنكرات باليد، على أية صورة كانت الإزالة مما يناسب ذلك المنكر إما تغييراً كلياً أو جزئياً.
الفرع الثاني: هل يضمن المنكر ما أتلفه؟
المسألة خلافية بين العلماء فبعضهم يقول لا يضمن ما أتلفه؛ لأن ما أتلفه منكر ومحرم فثمنه حرام فلا ضمان عليه. وبعضهم يقول ما يزول به المنكر لا ضمان فيه وأما الباقي فيضمنه.
ذكر الخلال في كتابه بسنده عن أبي الحصين أن شريحاً أتي في طنبور فلم يقض فيه بشيء .
وقال الخلال أخبرني محمد بن أبي هارون، أن يحيى بن يزدان أبا السفر حدثهم، أنه سأل أبا عبد الله عن رجل رأى في يد رجل عوداً، أو طنبوراً فكسره أصاب أو أخطأ وما عليه في كسره شيء؟ فقال قد أحسن وليس عليه في كسره شيء .
وقال ابن قدامة: وإن كسر صليباً أو مزماراً أو طنبوراً أو صنماً لم يضمنه.
وقال الشافعي: إن كان ذلك إذا فصل يصلح لنفع مباح، وإذا كسر لم يصلح لنفع مباح لزمه ما بين قيمته منفصلاً ومكسوراً. لأنه أتلف بالكسر ما له قيمة، وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة لم يلزمه ضمانه.
وقال أبو حنيفة: يضمن. ولنا أنه لا يحل بيعه فلم يضمنه كالميتة. والدليل على أنه لا يحل بيعه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)) متفق عليه ..........
وقال ابن عبد القوي في منظومته:

ولا غرم في دف الصنوج كسرته
ولا صور أيضاً ولا آلة الدد

وآلة تنجيم وسحر ونحوه
وكتب حوت هذا وأشباهه أقدد

وبيض وجوز للقمار بقدر ما
يزيل عن المنكور مقصد مفسد

ولا شق زق الخمر أو كسر دنه
إذا عجز الإنكار دون التقدد

وإن يتأتى دونه دفع منكر
ضمنت الذي ينقي بتغسيليه قد


ورأي ابن عبد القوي في هذه المسألة التفصيل.
... والذي يظهر... أن الاختلاف يتعلق بالمنكر نفسه فأحياناً يكون كله منكراً، وأحياناً يجمع بين المنكر والمعروف. فإذا كان كله منكراً كالعود –آلة الغناء- فهذا يكسر ولا ضمان فيه؛ لأنه مخصص لهذا الغرض فقط ولا يمكن الاستفادة منه بشيء آخر. وإن كان فيه من هذا وذاك فالأولى إزالة المنكر وترك ما عداه. فمثلاً: إذا كان فيه كتاب فيه فصول جيدة ولكن فيه فصل خبيث. فتمزق أوراق هذا الفصل ويترك الباقي. وكذلك الحال لو كان فيه مجلة فيها مقالات طيبة ولكن فيها صورة خليعة فتمزق هذه الصورة ويترك الباقي. ولكن ينبغي أن يعلم إذا كانت المصلحة تقتضي إتلاف الذي جمع بين المنكر والمعروف فإنه يتلف ولا ضمان.
فعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يزن هذه الأمور بميزان الشرع ثم يمضي لتنفيذ أمر الله تعالى
المطلب الثالث: شروط تغيير المنكر باليد وضوابطه
1- أن يكون تغييره للمنكر خالصاً لوجه الله تعالى وليس هدفه من ذلك هو ردود فعل أو الانتقام أو التشفي أو نحو ذلك من حظوظ النفس.
2- أن يتحقق من هذا المنكر وأنه يستحق التغيير أو الإتلاف.
3- أن لا يتجاوز الحد المشروع إن كان من المنكرات التي يمكن إتلاف بعضها وترك البعض الآخر.
4- أن يباشر ذلك بنفسه إن تيسر ذلك أو يستعين بمن هو أهل لذلك.
5- القدرة وعدم ترتب مفسدة أكبر من جرائه، وفي مسألة التغيير للمنكر باليد خاصة إذا جعلنا ذلك لكل أحد وفي كل منكر فإن ذلك يجر من المفاسد الشيء الكثير جدا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وليس لأحد أن يزيل المنكر بما هو أنكر منه، مثل أن يقوم واحد من الناس يريد أن يقطع يد السارق ويجلد الشارب، ويقيم الحدود، لأنه لو فعل ذلك لأفضى إلى الهرج والفساد، لأن كل واحد يضرب غيره ويدعي أنه استحق ذلك، فهذا ينبغي أن يقتصر فيه على ولي الأمر) هذا وقد نص غير واحد من أهل العلم على أنه إذا تطلب الأمر شهر سلاح فإن ذلك لا بد فيه من إذن السلطان لئلا يؤدي إلى فتنة فمسألة التغيير باليد مع وجود القدرة مشروطة بعدم ترتب مفسدة أكبر من جراء الاحتساب.
تمهيد
من أهم وسائل تغيير المنكر تغييره باللسان وذلك بتعريف الناس بالحكم الشرعي بأن هذا محرم ومنهي عنه. فقد يرتكب المنكر لجهله به. فيمكن تغيير المنكر عن طريق الوعظ والإرشاد والنصح والتخويف وتغليظ القول والتقريع والتعنيف ونحو ذلك، فلعله يقلع عن المنكر بسبب ذلك.
ولتغيير المنكر باللسان مراتب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يسلكها أولاً بأول؛ لأن الهدف الأساسي هو إصلاح الناس وليس إيذاؤهم.
المطلب الأول: التعريف
وذلك بأن يعرف مرتكب المنكر –إما بالمباشرة أو التعريض حسب الموقف- بأن هذا لا ينبغي أو حرام وأنت لست ممن يفعل ذلك بالقصد، فأنت أرفع من ذلك. ويبين له ذلك بالحكمة والرفق واللين حتى يقبل ولا ينفر.
وقد ضرب الغزالي مثلاً لذلك قال فيه: (فإن المنكر قد يقدم عليه المقدم بجهله، وإذا عرف أنه منكر تركه كالسوادي يصلي ولا يحسن الركوع والسجود، فيجب تعريفه باللطف من غير عنف؛ وذلك لأن في ضمن التعريف نسبة إلى الجهل والحمق والتجهيل إيذاء، وقلما يرضى الإنسان بأن ينسب إلى الجهل بالأمور ولاسيما بالشرع. ولذلك ترى الذي يغلب عليه الغضب كيف أن تنكشف عورة جهله والطباع أحرص على ستر عورة الجهل. فنقول له إن الإنسان لا يولد عالماً ولقد كنا أيضاً جاهلين بأمور الصلاة فعلمنا العلماء، ولعل قريتك خالية عن أهل العلم، أو عالمها مقصر في شرح الصلاة. وهكذا يتلطف به ليحصل التعريف من غير إيذاء، فإيذاء المسلم محذور كما أن تقريره على المنكر محذور. وليس من العقلاء من يغسل الدم بالدم أو بالبول، ومن اجتنب محذور السكوت على المنكر واستبدل عنه محذور الإيذاء للمسلم مع الاستغناء عنه، فقد غسل الدم بالبول على التحقيق...) .
... ويختلف الأسلوب من شخص لآخر ومن وقت إلى وقت، فعلى الناهي عن المنكر أن يلبس لكل حالة لبوسها. ولابد في كل الحالات من عامل مشترك ألا وهو التعريف بالرفق واللين واللطف ولا سيما إذا كانت حال الواقع في المنكر مجهولة.
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا علم شخصاً ما قد وقع في محظور فإنه يخطب ويعمم ولا يخصص. كل ذلك من أجل أن لا يجرح شعور ذلك الشخص.
فقد ورد عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كره من إنسان شيئاً قال: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا)) .
وفي رواية ((إذا بلغه عن الرجل شيء)) الحديث .
وروى الخلال بسنده قال أخبرني عصمة بن عصام قال: حدثنا حنبل أنه سمع أبا عبد الله يقول: والناس يحتاجون إلى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجلاً مبايناً معلناً بالفسق والردى فيجب عليك نهيه وإعلانه؛ لأنه يقال: ليس لفاسق حرمة، فهذا لا حرمة له .
وقال أيضاً: أخبرني محمد بن علي الوراق قال: حدثني مهنا قال: قال أحمد بن حنبل، كان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون. يقولون مهلاً رحمكم الله .
فهذه الآثار تبين طريقة السلف رضي الله عنهم في النهي عن المنكر.
المطلب الثاني: النهي بالوعظ والنصح والتخويف من الله تعالى
وهذه الدرجة تتعلق غالباً في مرتكب المنكر العارف بحكمه في الشرع بخلاف الدرجة الأولى فهي في الغالب تستعمل للجاهل في الحكم.
فهذا يستعمل معه أسلوب الوعظ والنصح والتخويف من الله تعالى ويذكر له آيات الترهيب والوعيد، ولكن بأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة يقول تعالى: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125].
ويقول تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [عمران: 159].
وحتى لو كان عارفاً لهذه النصوص فلها تأثيرها وهذا يعتبر ذكرى. والله يقول {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].
ويبين له ما أعد الله للطائعين، ويذكره بالموت وأنه ليس له وقت معين، بل يأتي بغتة، وربما جاء الإنسان وهو واقع في المعصية، فتكون خاتمته سيئة.
ويبين له أن هدفه من نصحه وإرشاده حبه له وخوفه عليه من عذاب يوم القيامة وأنه ما فعل ذلك إلا إشفاقاً عليه، حتى يطمئن له وتنفتح نفسه لسماع الموعظة وربما أعقب ذلك الإقلاع عما هو واقع به.
وينبغي أن يتدرج مع المنهي في الأحوال التالية:
1- أن يذكر بعض النصوص من القرآن والسنة المخوفة للعاصين والمذنبين، وأقوال السلف في ذلك. ويختار من ذلك القصير شديد الوقع في النفس.
2- تذكيره بالأمم والطوائف والأشخاص الذين وقعوا في المعصية وحل عليهم غضب الله وعذابه. والشواهد في الكتاب والسنة كثيرة جداً.
3- أن يذكره أن للذنوب سلبيات كثيرة، وأن ما يصيب الإنسان في نفسه وأهله وماله بسبب الذنوب.
ورد عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يزيد العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) .
وقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
وغير ذلك من النصوص والآثار التي تبين عقوبة المعاصي في الدنيا والآخرة.
4- محاولة ذكر الأدلة والشواهد الخصوصية إن كان يعرف ذنبه بشكل خاص. فإذا كان معروفاً بشرب الخمر ركز على عقوبة شارب الخمر والآثار الواردة في ذلك والعقوبات المترتبة عليه في الدنيا والآخرة. ثم ينتقل إلى الوعظ بشكل عام.
وليحرص كل الحرص أن تكون الموعظة سراً بينه وبينه حتى لا تأخذه العزة بالإثم فيرفض قبولها، وحتى يعلم بحق أنه ليس للناهي هدف سوى النصيحة والإشفاق عليه فقط.
ذكر ابن عبد البر في كتابه بهجة المجالس: عن مسعر بن كدام قال: (رحم الله من أهدى إلي عيوبي في ستر بيني وبينه فإن النصيحة في الملأ تقريع) .
وروى الحافظ أبو نعيم في الحلية –بسنده- عن مرة بن شرحبيل قال: سئل سلمان بن ربيعة عن فريضة فخالفه عمرو بن شرحبيل. فغضب سلمان بن ربيعة ورفع صوته فقال عمرو بن شرحبيل: والله لكذلك أنزلها الله تعالى فأتيا أبا موسى الأشعري فقال: القول ما قاله أبو ميسرة. وقال لسلمان ينبغي لك أن لا تغضب إن أرشدك رجل. وقال لعمرو: قد كان ينبغي لك أن تساوره يعني تساوره ولا ترد عليه والناس يسمعون .
فينبغي للناهي عن المنكر أن يستخدم السبل التي تعين صاحب المنكر على أن يقلع عن معصيته. والله أعلم.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
المبحث الثالث: التغيير باللسان ومراتبه
المطلب الثالث: الغلظة بالقول
المطلب الثالث: الغلظة بالقول
وهذه المرتبة يلجأ إليها بعد استخدامه الأسلوب السهل اللين القريب. وبعد معرفته أن أسلوب اللين لم يجد عند ذلك يغلظ له القول ويشدد عليه ويزجره مع مراعاة قواعد الشرع في ذلك.
فإذا أمن شره فإنه يقوم بذلك ولكن لا يقول إلا حقاً.
وهذا الأسلوب قد استعمله أبو الأنبياء عليه وعليهم السلام. يقول الله تعالى حكاية عنه {أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 67].
فيقول اتق الله أما تخاف الله أما تستحيي ألا تعرف أن فعلك هذا فعل الفساق والفجار، وهكذا، فلعله ينزجر.
وينبغي للناهي أن لا يطلق لسانه في كل ما يرد عليه، بل يحاسب نفسه على كلمة ستخرج منه، وفي الوقت نفسه عليه أن لا يتعدى، فإذا علم أن صاحبه استجاب أو أقلع وقف. وشكره على استجابته كأن يقول: جزاك الله خيراً وبارك فيك.
يقول الغزالي ولهذه الدرجة أدبان:
أحدهما: أن لا يقدم عليها إلا عند الضرورة والعجز عن اللطف.
الثاني: أن لا ينطق إلا بالصدق ولا يسترسل فيه. فيطلق لسانه الطويل بما لا يحتاج إليه بل على قدر الحاجة.. .
المطلب الرابع: التهديد والتخويف
وهذه المرتبة هي آخر المحاولات لنهيه باللسان ويعقبها بعد ذلك إيقاع الفعل.
فيقال له: ...لأخبرن بك السلطات لتسجنك وتعاقبك على فعلك.
وهكذا يورد عليه بعض أساليب التخويف والتهديد ولكن ينبغي أن يكون هذا التهديد والتخويف في حدود المعقول عقلاً وشرعاً حتى يعرف أنك صادق في تهديدك؛ لأنك لو هددته بأمور غير جائزة شرعاً عرف أنك غير جاد؛ لأن الآمر يجب أن يكون أقرب الناس استجابة لشرع الله تعالى.
فلا يقول له: إن لم تنته سوف أحرق بيتك بمن فيه وأسلب مالك وأفعل وأفعل. من أمور لا تجوز شرعاً.
يقول الغزالي: ولا يهدد بوعيد لا يجوز له تحقيقه كقوله لأنهبن دارك أو لأضربن ولدك أو لأسبين زوجتك وما يجري مجراه بل إن ذلك إن قاله عن عزم فهو حرام وإن قاله من غير عزم فهو كذب... .
هذه هي مراتب الإنكار باللسان فعلى الناهي أن يسلك هذه المراتب عند نهيه مرتبة مرتبة، ولا ينتقل من مرتبة قبل أختها؛ لأن المقصود إصلاح هذا المسلم الذي وقع في منكر، وليس المقصود الانتقام منه أو الانتصار عليه. فإن انتهى عند المرتبة الأولى فهو المطلوب وإلا انتقل للتي تليها وهكذا.
المبحث الرابع: التغيير بالقلب أهميته وحقيقته وفوائده
المطلب الأول: أهمية التغيير بالقلب
المنكر لا تقره الشريعة بأي حال من الأحوال، فلابد من تغييره ولكن تغييره على مراتب.
ولما كان الناس يختلفون في قدراتهم الجسمية والعقلية وغير ذلك. فإن الشارع الحكيم رتب إنكار المنكر على حسب قدرة الشخص، ولكن لا يعذر أحد من المكلفين بترك الإنكار مهما يكن من أمر.
فيجب عليه أن يغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وهذا أقل الأحوال؛ لأن كل إنسان يستطيع ذلك ومن هو الذي لا يقدر على الإنكار بالقلب إلا رجل قد مرض قلبه وانتكس فهذا أمره أشد من قضية الإنكار بالقلب.
والأصل في هذا الحكم. ما رواه الإمام مسلم بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) .
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) الحديث.
وقد ذكر الإمام النووي في شرح مسلم كلام القاضي عياض –رحمه الله- فقال: هذا الحديث أصل في صفة التغيير فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولاً كان أو فعلاً، فيكسر آلات الباطل، ويريق المسكر بنفسه. أو يأمر من يفعله، وينزع المغصوبات ويردها إلى أصحابها بنفسه أو بأمره إذا أمكنه، ويرفق جهده بالجاهل وبذي العزة الظالم المخوف شره. إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله. كما يستحب أن يكون متولي ذلك من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى، ويغلظ على المتمادي في غيه والمسرف في بطالته إذا أمن أن يؤثر إغلاظه منكراً أشد مما غيره لكون جانبه محمياً عن سطوة الظالم فإن غلب على ظنه أن تغييره يسبب منكراً أشد منه من قتله أو قتل غيره بسبب كف يده، واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف. فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه وكان في سعة وهذا هو المراد بالحديث إن شاء الله تعالى. وإن وجد من يستعين به على ذلك استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، وليرفع ذلك إلى من له الأمر إن كان المنكر من غيره، أو يقتصر على تغييره بقلبه هذا هو فقه المسألة، وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين خلافاً لمن رأى الإنكار بالتصريح بكل حال، وإن قتل ونيل منه كل أذى، هذا آخر كلام القاضي –رحمه الله- .
ومن كان في قلبه حياة وليس في مقدوره أن يغير المنكر بيده ولا بلسانه فعليه أن يكره هذا المنكر ويعلم الله من قلبه الصدق والعزيمة على تمني زوال هذا المنكر ولولا المانع لأزاله.
قيل لابن مسعود -رضي الله عنه-: من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً .
فالذي لا يأمر بالمعروف ولا ينكر المنكر بأدنى درجاته فهو ميت القلب.
وعندما تكلم يحيى بن معاذ الرازي يوماً في الجهاد وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قالت له امرأة: هذا واجب وضع عنا فقال: هبي أنه وضع عنكن سلاح اليد واللسان فلم يوضع عنكن سلاح القلب فقالت له صدقت جزاك الله خيراً . فإن سلاح اللسان لا يسقط عن المرأة فعليها أن تنكر على من تستطيع الإنكار عليه من أقاربها الرجال وأما النساء فعليها الإنكار عليهن بصفة عامة. ولهذا شواهد:
ورد عن عائشة أم المؤمنين –رضي الله عنها- أنها رأت امرأة بين الصفا والمروة عليها خميصة من صلب –أي ثوب عليه خطوط متصالبة- فقالت عائشة: ((انزعي هذا من ثوبك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآه في ثوب قضبه)) .
وأما بالنسبة للإنكار على الرجال:
فقد ورد أن عائشة –رضي الله عنها- رأت أخاها عبد الرحمن يسرع في الوضوء ليدرك الصلاة على سعد بن أبي وقاص. فقالت: يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ويل للأعقاب من النار)).
ولا شك أن إنكار المرأة بقلبها على الرجال هو الغالب وعلى النساء في بعض الحالات بخلاف الرجل فإن إنكاره في قلبه مقيد بظروف معينة، وهي عدم مقدرته على الإنكار باليد واللسان فيجب على المسلم أن يعلم أنه لا يعذر بحال بترك الإنكار بقلبه عند عجزه عن الإنكار باليد واللسان. وإذا كان قلبه لا يتحرك عند رؤيته للمنكر فعليه أن يعلم أن قلبه مريض ويحتاج إلى علاج. وأما إذا علم صدق نيته بقلبه في بغضه للمنكر وتمني زواله فإن الله سبحانه وتعالى يعطيه مثل أجر القادر عليه وعلى أسوأ الأحوال فإنه لا يأثم بتركه ذلك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- فأما حب القلب وبغضه وإرادته وكراهته فينبغي أن تكون كاملة جازمة لا توجب نقص ذلك إلا بنقص الإيمان. وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل.. .
المطلب الثاني: حقيقة الإنكار بالقلب
يغلط البعض فيظن أنه ما دام كارهاً للمنكر فلا بأس عليه بمخالطة فاعله والجلوس معه حال مواقعته المنكر.. أو البقاء في مكان فيه منكر في الشرع وهذا مخالف لما دل عليه القرآن والسنة. قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} [النساء: 140] وهذا نهي صريح عن مجالستهم حال مواقعتهم لهذا المنكر.. فما دام لا يقدر على الإنكار باليد أو اللسان فلا بد إذاً من مفارقته للمنكر.. هذا هو الصحيح .
قال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي –رحمه الله- عند هذه الآية: (وكذلك يدخل فيه حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يستهان فيها بأوامر الله ونواهيه، وتقتحم حدوده التي حدها لعباده. ومنتهى هذا النهي عن القعود معهم {حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي: غير الكفر بآيات الله ولا الاستهزاء بها.
{إِنَّكُمْ إِذًا} أي إن قعدتم معهم في الحال المذكور (مثلهم) لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم، والراضي بالمعصية كالفاعل لها، والحاصل أن من حضر مجلساً يعصى الله به فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم مع القدرة، أو القيام مع عدمها) . ا.هـ.
وقال القرطبي –رحمه الله- عند هذه الآية: (.. فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر، لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم والرضا بالكفر كفر، قال الله عز وجل: {إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية.. وإذا ثبت تجنب أهل المعاصي فتجنب أهل البدع والأهواء أولى..) ا.هـ.
وقال البخاري –رحمه الله-: (باب: هل يرجع إذا رأى منكراً في الدعوة؟).
ثم قال: ورأى ابن مسعود صورة في البيت فرجع .
ودعا ابن عمر أبا أيوب فرأى في البيت ستراً على الجدار. فقال ابن عمر: غلبنا عليه النساء. فقال: من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لكم طعاماً. فرجع .
((ثم ساق بسنده من حديث عائشة أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهة فقلت: يا رسول الله: أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بال هذه النمرقة؟ قالت: فقلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة.. ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة)) .
وقال ابن ماجه: (باب إذا رأى الضيف منكراً رجع). وذكر حديث علي رضي الله عنه قال: (صنعت طعاماً فدعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فرأى في البيت تصاوير فرجع) .
وأورده أيضاً من حديث سفينة، أبي عبد الرحمن، قال: ((إن رجلاً أضاف علي بن أبي طالب فصنع له طعاماً، فقالت فاطمة: لو دعونا النبي صلى الله عليه وسلم فأكل معنا، فدعوه فجاء، فوضع يده على عضادتي الباب، فرأى قراماً في ناحية البيت فرجع. فقالت فاطمة لعلي: الحق، فقل له ما رجعك يا رسول الله؟ قال: إنه ليس لي أن أدخل بيتاً مزوقاً)) .
وقد ذهب الإمام أحمد –رحمه الله- إلى أنه يخرج من الوليمة إذا وجد جدران البيت قد سترت، وكذا إذا استعمل صاحب الوليمة آنية الفضة أو الذهب، أو رأى في البيت شيئاً من ذلك المستعمل .
قال المروذي: (قلت لأبي عبد الله: فالرجل يدعى فيرى مكحلة رأسها مفضض؟ قال: هذا يستعمل، وكل ما استعمل فاخرج منه..) .
وقال المروذي: (سألت أبا عبد الله عن الرجل يدعى فيرى فرش ديباج، ترى أن يقعد عليه أو يقعد في بيت آخر؟! قال: يخرج، قد خرج أبو أيوب وحذيفة) .
وجاء عن أبي مسلم الخولاني –رحمه الله- أنه انصرف إلى منزله فإذا هو بالبيت قد ستر، فقال: إن بيتكم هذا ليجد القر فأدفئوه، وإلا فلا أبرح حتى تنزعوه، فنزعوا الستور ثم دخل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (وروى أبو بكر الخلال بإسناده عن محمد بن سيرين أن حذيفة بن اليمان أتى بيتاً فرأى فيه حارستان، فيه أباريق الصفر والرصاص فلم يدخله وقال: من تشبه بقوم فهو منهم –وفي لفظ آخر: فرأى شيئاً من زي العجم فخرج وقال: من تشبه بقوم فهو منهم).
وقال علي بن أبي صالح السواق: (كنا في وليمة، فجاء أحمد بن حنبل، فلما دخل نظر إلى كرسي في الدار عليه فضة، فخرج، فلحقه صاحب الدار، فنفض يده في وجهه وقال: زي المجوس، زي المجوس) .
وقال في رواية صالح: (إذا كان في الدعوة مسكر أو شيء من آنية المجوس: الذهب والفضة، أو ستر الجدران بالثياب، خرج ولم يطعم) ا.هـ .
وقال إبراهيم الحربي: (وكان –أي الإمام أحمد- إن رأى إناء فضة أو منكر خرج..) .
وقال أبو محمد بن تميم الحنبلي –رحمه الله- عند ذكره لعقيدة الإمام أحمد:.. وكان يتحرج أن يدخل إلى دار فيها صور، أو دعوة فيها لهو أو غناء أو جنازة يتبعها نوح أو مزمار، فإذا حضرها لم يرجع عنها. (أي الجنازة) .
وأخرج ابن جرير بإسناد صحيح عن هشام بن عروة قال: أخذ عمر بن عبد العزيز قوماً على شراب، فضربهم وفيهم صائم. فقالوا: إن هذا صائم فتلا: {فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ} [النساء: 140] .
وقال الحافظ عند شرحه لحديث عائشة –رضي الله عنها- في الجيش الذي يغزو الكعبة فيخسف بهم: (قال المهلب: في هذا الحديث أن من كثر سواد قوم في المعصية مختاراً أن العقوبة تلزمه معهم. قال: واستنبط منه مالك عقوبة من يجالس شربة الخمر وإن لم يشرب) . ا.هـ.
وقال الإمام مالك –رحمه الله-: (لا ينبغي المقام بأرض يعمل فيها بغير الحق والسب للسلف الصالح، وأرض الله واسعة، لقد أنعم الله على عبد أدرك حقاً فعمل به) .
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم –رحمه الله- عن وجوب الهجرة من بلاد المسلمين التي يحكم فيها بالقانون فأجاب: (البلد التي يحكم فيها بالقانون ليست بلد إسلام. تجب الهجرة منها، وكذلك إذا ظهرت الوثنية من غير نكير ولا غيرت فتجب الهجرة، فالكفر بفشو الكفر وظهوره هذه بلد كفر.
أما إذا كان قد يحكم فيها بعض الأفراد أو وجود كفريات قليلة لا تظهر، فهي بلد الإسلام.
ما الذي سلط الأعداء على المسلمين؟
إذا كان نفس الشيء الذي نقمه الرسول هو المقدم عندهم، واستغنوا باسم الإسلام وصلاة ونحو ذلك.
إن في القرآن والسنة الشفاء والبيان.
شيء واضح بينه القرآن ووضحه في عدة مواضع أن المشركين مقرين بالربوبية، ثم آيات أخر عينت الشيء الذي طلبوه، فهذا هو الذي أنكره القرآن عليهم من جهة العقيدة.
ولعلك أن تقول: لو قال من حكم القانون: أنا أعتقد أنه باطل.
فهذا لا أثر له، بل هو عزل للشرع، كما لو قال أحد: أنا أعبد الأوثان، وأعتقد أنها باطل.
وإذا قدر على الهجرة من بلاد تقام فيها القوانين وجب ذلك) .
وسئل أيضاً عن بلد يحل أهلها البغاء فقال: (.. ينبغي الهجرة من بلد دون هذا، ويجب قتالهم حتى ينتهوا عن ذلك) .
وله –رحمه الله-: (من محمد بن إبراهيم إلى المكرم سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... وبعد:-
فقد وصل إلينا كتابك الذي تستفتي به عن إنسان اضطرته ظروف الحياة إلى الاجتماع بأناس لا يصلون الصلوات الخمس، وكان يسكن معهم في محلهم، يأكلون جميعاً ويشربون، ويبيتون.
وتسأل عن حكمهم، وحكم من يسكن معهم؟
والجواب: لا حول ولا قوة إلا بالله. ما كنا نظن أن يوجد مثل هؤلاء بين ظهراني المسلمين.. والواجب عليهم الرجوع إلى الله والتوبة إليه، فإن التوبة تجب ما قبلها، وعلى جميع من يعلم بحالهم هذه أن ينصحهم ويكرر مناصحتهم، فإن لم يمتثلوا قام عليهم غيرة الله تعالى ورفع بأمرهم إلى ولاة الأمر، كما أن على ولاة الأمر القيام عليهم وإلزامهم بالصلاة وغيرها من شعائر الإسلام.
وأما السكن معهم فلا يجوز للإنسان أن يسكن مع مثل هؤلاء، بل عليه أن يناصحهم فإن امتثلوا وإلا فيفارقهم ويلتمس رفقاء غيرهم..) .
متى تجب مفارقة المنكر؟
لا شك أن مفارقة المنكر أمر واجب على المستطيع لكن فرق بعض الفقهاء (فيما يتعلق بمفارقة مكان المنكر) بين كون المنكر في مكان لا يلحق من فارقه حرج وضرر ظاهر كناحية في السوق، أو دار صاحب الوليمة إذا وجد فيها شيء من المنكرات – وبين كون المنكر واقع من جار له في المنزل إذا كان يلحقه من الخروج ضرر ظاهر، ككون الدار ملكاً له. فيجوز له البقاء فيه مع متابعة النصح له –والله أعلم- .
أما من دعي إلى وليمة وهو يعلم أن فيها منكراً لكنه لم يره ولم يسمعه فهل له الجلوس والأكل؟
قال البهوتي –رحمه الله- (له الجلوس والأكل نصاً، لأن المحرم رؤية المنكر أو سماعه ولم يوجد. وله الانصراف. فيخير لإسقاط الداعي حرمة نفسه بإيجاد المنكر) .
لكن قد يختلف الحكم إذا كان الرجل ممن يقتدى بمثله والمنكر في تلك الوليمة أو المناسبة مشتهر عند الناس ففي هذه الحالة قد لا يفهم الناس من جلوسه إلا الإقرار فعليه أن يفارق –والله أعلم-.
هذا ولا يفهم من كون الإنكار بالقلب يقتضي مفارقة المنكر أن ندع بعض الأعمال المشروعة، أو قصد بعض ما يشرع قصده من الأماكن لوجود بعض المنكرات هناك.. فلا يهجر المسجد لكونه مزخرفاً مثلاً، أو كان أهله يسبلون ثيابهم.
كما إذا اتبعت الجنازة، ثم جاء من يضرب بالدف، أو يظهر النياحة، فلا تدع ما أنت فيه لأجل هذا المنكر.. وقد كان الإمام أحمد –رحمه الله- إذا حضر جنازة ثم ظهر هناك بعض المنكرات لم يرجع عنها ويقول كما قال الحسن لابن سيرين: لا ندع حقاً لباطل .
المطلب الثالث: فوائد الإنكار بالقلب وثمراته
1- أنه أقل درجات الإنكار المطلوبة وبه يسلم المرء من العقوبة.
2- هذا الإنكار القلبي يدل على عدم الرضا بالمنكر وكراهيته والنفور منه، وقد جاء عن عرس بن عميرة الكندي –رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها وكرهها – وفي رواية – فأنكرها – كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها)) . وجاء في حديث أم سلمة –رضي الله عنها- مرفوعاً: ((ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع...)) .
3- حفظ حيوية القلب وصفائه، فإن القلب يتأثر بكثرة رؤية المنكرات، وقد يألفها إذا لم ينكرها، وتذهب حساسية القلب تجاهها فلا يصير يتألم لرؤيتها.
4- أن هذا الإنكار القلبي يعني الرفض للمنكر والتربص به، فصاحبه –أي الإنكار بالقلب- عازم على تغييره بمجرد استطاعته. قال سيد – رحمه الله -: وليس هذا موقفاً سلبياً من المنكر – كما يلوح في بادئ الأمر – وتعبير الرسول – صلى الله عليه وسلم بأنه تغيير دليل على أنه عمل إيجابي في طبيعته.
فإنكار المنكر بالقلب معناه احتفاظ هذا القلب بإيجابيته تجاه المنكر.. إنه ينكره ويكرهه ولا يستسلم له، ولا يعتبره الوضع الشرعي الذي يخضع له ويعترف به.. وإنكار القلوب لوضع من الأوضاع قوة إيجابية لهدم هذا الوضع المنكر، ولإقامة الوضع (المعروف) في أول فرصة تسنح، وللتربص بالمنكر حتى تواتي هذه الفرصة.. وهذا كله عمل إيجابي في التغيير.. وهو على كل حال أضعف الإيمان.
فلا أقل من أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان، أما الاستسلام للمنكر لأنه واقع. ولأن له ضغطاً – قد يكون ساحقاً – فهو الخروج من آخر حلقة، والتخلي حتى عن أضعف الإيمان، هذا وإلا حقت على المجتمع اللعنة التي حقت على بني إسرائيل ا.هـ .
 
أعلى